الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

صرخة - الصبر السوري الطويل

مصطفى علوش
صرخة - الصبر السوري الطويل
صرخة - الصبر السوري الطويل
A+ A-

تغير السوريون في الداخل إلى درجة أن السوري يحتاج إلى ساعتين ليصل من صحنايا إلى دمشق وحين يدخل مكتبه يقول لزملاء العمل الحمد لله المهم عايشين، وإن كان موالياً يردف كلامه بـ:"الله يحمي الجيش ويلعن الحرية وأصلها".
الصبر المتعارف عند شعوب الأرض كحال تحمّل لظروف قاسية واستثنائية، صار عند السوريين عادة يومية، حيث يسيرون متجهين إلى أعمالهم ويعرفون أن الموت ينتظرهم في كل مكان، ومع الصبر صار عندهم اعتياد هائل على التحمل، ليغدو الصبر والتحمل متلازمتين ضروريتين لمتابعة عيشهم اليومي.
طوابير السيارات التي تنتظر الدخول إلى الخط العسكري، تصير في لحظات، مساوية عددياً لمثيلاتها في الخط المدني، كأن المجتمع انقسم هنا كما انقسم سياسياً!
في الملاحظة الشكلية ورؤية أعداد السيارات الكبيرة على الخط العسكري سيغدو التشاؤم سيّد الموقف، وسوف يقول العابر هنا: "النظام ما زال قوياً، انظر إلى سيارات العسكريين وتوابعهم من أمن ولجان وكتائب" ولكن إذا جلست مع أي سوري على انفراد واطمأن اليك فسيقول لك فوراً: "تعبنا، تعبنا، إلى درجة الضياع". وإذا اقتربت أكثر منه فسوف يبكي على كل من قتل من عائلته أكان موالياً أم معارضاً.
نعم، الجهتان تبكيان قتلاهما، ولكن ثمة فرق يتمثل في أن المعارضين الساكنين في مناطق تحت سيطرة النظام هم بلا أي حماية، بينما يتخندق موالو النظام ببنادقهم وقنابلهم وأملهم أن ينتصر النظام، وثمة كتلة صامتة تعيش بلا أمل تقريباً، حتى أن هناك من لا يتابع الأخبار، فقط توقظه أصوات المدافع التي تقصف من حدود المنطقة التي يسكنها.
امتلأت سوريا بالحزن. فاض الحزن على شكل أنهار، في كل بيت ساقية حزن من نهر الحزن العام. لا يمكنك أن تدير ظهرك لعائلات قتلى النظام وهم يبكون، تعرف أنهم مع النظام وتعرف أن أولادهم قتلوا وعفّشوا وسرقوا، تعرف ذلك كله، لكنهم جميعاً يشربون الحزن والفقدان، تماماً كما يشرب المعارضون وأهاليهم الحزن والفراق.
كأن النظام ثقب أسود، ابتلع الجميع، وقتل الجميع. نظام تناسل عبر عساكره ولجانه مئات آلاف المرات، كل عسكري على حاجز هو النظام كلّه، كل عسكري حين يمنحك المرور بإشارة من يده كأنه يمنحك الحياة، كأنه يقول أحمد الله أنني لم اقتلك.
في كل زاوية، في كل مفرق هامشي، في دمشق، في حمص، أو في ما تبقى من حمص، هناك حاجز، هو عبارة عن براميل مهترئة ودواليب وعلم بائس كان إلى وقت مضى علماً لبلد بكامله، وغدا بعد ظهور علم الثورة، علم الاستقلال، علماً للنظام فقط.
كل مدني باق على قيد الحياة يتعرض يومياً إلى عمليات تفتيش وتفييش لهويته الشخصية، وسوف يتحدث الجميع عن معنى ودلالة أن يقلب العسكري الهوية إلى وجهها الثاني، هي تدل طبعاً على قراءة اسم منطقة الولادة، أي معرفة المنطقة التي ولد فيها الشخص، فكل من ولد بدرعا أو داريا أو حلب أو الميدان وغيرها من المناطق الثائرة، هو موضع اعتقال أو شبهة.
بعد أربع سنوات وأربعة أشهر، تغيّر الناس الباقون على قيد الحياة كثيراً. تمزق النسيج الاجتماعي، العائلي، وتمزقت النفسيات الفردية، وضاعت السعادة باعتبارها مكسباً نفسياً ورصيداً لمتابعة الحياة. لقد قتل النظام وعسكره البهجة بكل أشكالها. وكما قتل البهجة والسعادة، قتل التوازن النفسي في النفوس، فالتوتر هو الغالب في تصرفات الناس في البيوت.
ثمة عدوان هائل على الحياة نفسها، يكفي أن تمر بأي شارع تعرض للقصف وترى حجم الدمار الباقي، لتشعر بالحزن العام. يكفي أن تسمع موالياً يتحدث عن غبطته بقتل الناس لتشعر بالرعب على مسار المجتمع. أي مجتمع هو هذا؟ لقد صار الناس بقايا ناس، بقايا بشر تمشي وتشتري أغراضها اليومية وتتناسل.
الصمت، احتل الصمت مساحات قصوى في النفوس. يجب أن تصمت أمام العسكري، أمام الموالي، أمام البائع، أمام اعتقال أبنائك. يجب أن تصمت عن كل شيء، حتى في لحظات يصير الصمت تهمة، فالموالون لا بد أن تنافق أمامهم في العمل بجملة الله يفرّج، يلعن أبو الحرية وغيرها من جملهم وقاموسهم.
إن قلت حوّل النظام سوريا إلى مقبرة جماعية فذلك لا يكفي، فالواقع واستمراره أسوأ مما نتخيله جميعاً. يعيش الناس مع قتلة حقيقيين، يعيشون مع لصوص وأمراء حرب وتجار نهب، ومافيات مرعبة.
تحكي لي امرأة تعيش في منطقة تقع تحت سيطرة جيش النظام، أن البناء السكني حيث تقيم، يحتوي على أكثر من عشرة صناديق قنابل وخمس بنادق روسية، حيث يسكن في البناء عدد من الضباط وعسكر النظام ولجانه ومعهم أسلحتهم تلك.
تلك المرأة المكتئبة، هل فكر أحد في هذا العالم في تطوّر حزنها مع بقاء هذا الوضع على حاله؟
خلاصة كل حوار سياسي بين السوريين في الداخل نتيجته التي سيتفق عليها أطراف الحوار هو "لا أمل".
غياب الأمل لا يعني انقطاع الحياة. نعم، ثمة حياة تمر على الناس، لكنها بطيئة، قاسية، ومتعبة إلى درجة الهستيريا. فالخطف وطلب الفدية لقاء الإفراج عن المخطوف الذي تمارسه عصابات من الشبيحة وحده كفيل جعل مئات الآلاف يعملون على الهجرة السريعة.
كل ما يقال هنا، هو نقطة من بحر معاناة الناس، نقطة من بحر الذل العام الذي فرضته عائلة الأسد على ملايين السوريين لأنها فقط تريد أن تتمسك بكرسي السلطة إلى الأبد.
ما تقدّم من شرح ووصف، هو الثمن الكبير الذي يدفعه الناس، للحصول على الحرية، وللوصول إلى لحظة ينالون فيها كرامتهم.


* كاتب سوري

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم