الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رسالة حبّ إلى بيروت

المصدر: "النهار"
رلى راشد
رسالة حبّ إلى بيروت
رسالة حبّ إلى بيروت
A+ A-

الكتاب رسالة حبّ موجّهة إلى #بيروت ، بل إنه مجموعة من البطاقات البريدية التي تُثبّت إرثا مدينيّا بات يتهدّده مصير مجهول.


خمسة وخمسون يوما في حياة بيروت الألفيّة. خمس وخمسون محطة في ألبوم الإرث الهندسي تتمهّل عندها الفنانة كارلا صيّاد في مؤلّفها الصادر حديثا لدى "تاميراس" وبالفرنسية، بغية اختزال العاصمة ورغبة في درء أي سوء عنها قد تقترفه الذاكرة الإنتقائية أو تتسبّب به اللامبالاة.


في كتاب "في بيروت، رسوم مدينية" يحلّ المنطق الفني منذ لحظة الغلاف الأولى إلى لحظة الغلاف الأخيرة، ليغدو على نحو ما مبرّر مشروع يتكور حول بيروت ويرتقي الى التسجيلية. ليس ثمة أجدى من التوثيق لمواجهة خطر اندثار يتراءى داهما، بعدما شهدنا في الأعوام الأخيرة قنصاً لمعالم بيروت التراثية وقضما تدريجيا لماهيتها بات يشي إستكمالاً بتفتيت محتمل لماهية قاطنيها.


المؤلّف من صنف الكتب الجميلة المغوية بصرياً وتضارعه في هذا الجانب تأمّلات نصيّة تضبط إيقاع ترحل صيّاد عبر شوارع العاصمة، وخلال عام. والحال ان المغامرة في نواحي بيروت تبدأ من التباريس لتنتهي في محترف الفنانة وفي وسط ألوانها.
يأتي النص بالمبرر على وجوده أي الرغبة في تثبيت معالم المدينة في رسوم، ذلك ان دفاتر سفر صيّاد الأخرى إفتقرت إلى الأساسي في عرفها، والأساسي هو مدينتها بيروت. انها بيروت عينها التي عاشت وماتت وقامت، وهي بيروت "التي لا تتعب والمصابة والحاكمة والمغتبطة والمحاربة" كما تصفها صيّاد.


كان آب 2014 المنطلق الكرونولوجي وكان القلق من فقد الإنبهار المنطلق العمَلي، لأن صيّاد خافت على سحر النظر الى بيروت، من عين العادة. كانت خريطة المكان المقسمة وفق الأحياء الحركة الأولى وكان التوزّع وفق الأيام الحركة الثانية. وفي المحصلة جاءت الحركة الختامية في أكثر من ستين أكواريل وفي هيئة دفتر سفر أو يوميات بقاء في بيروت ضد غواية الرحيل.


نحن في اليوم الأول في التباريس في الأشرفيه وتحديدا في شارع جرجي زيدان. يبدأ مسح المدينة من الشارع الذي تقطنه صيّاد ومن واجهة المبنى قبالة منزلها لنبلغ في اليوم الثاني "المنزل الأصفر"، مبنى بركات أو "بيت بيروت" في السوديكو عند خط التماس السابق، إبان الحرب الأهلية.
تسرُد حكاية المبنى الذي تعاينه "مبنى بيروت الأيقوني" والمشيّد في العشرينات أو الثلاثينات من القرن المنصرم ويرتقب أن يصير متحفا ومركزا ثقافيا. تستبقي صيّاد كلام المهندس المسؤول عن بعث الحياة في المكان يوسف حيدر، حول ان المبنى "يشبه الإنسان الحيّ، يشبه اللبناني الذي يكتنف الكثير من الحكايات والكثير من الجروح المخفيّة أو الباينة".
والحال ان المباني والمطارح التي يستمهلها الكتاب في هيئة فنيّة تنوب عن بيروت في جميع وجوهها تقريبا، الشعبية والمتأنّقة والقريبة والبعيدة. ها هنا عين المريسة والصيفي والكورنيش البحري. وهناك البيت الزهري في المنارة ناهيك بتلك القطعة الباقية من الشاطىء اللبناني العام في الرملة البيضاء، شريط من الرمل الأبيض المُنبسط بين أزرقين: أزرق السماء وأزرق البحر. يتوسّط رسم الرملة البيضاء علَمان أحدهما العلم اللبناني والثاني صنع من قماش أبيض. أتكون هذه حكاية إستسلام مُعلنة؟


في اليوم التاسع عشر وفي شباط يصير الهواء باردا. الآن وفي هذا المكان لحظة ضياع المؤلفة في إحدى زوايا زقاق البلاط وفي وسط موقف للسيارات. ألم يُكتب أن من الضروري للمرء أن يتيه في مدينة لكي يدركها؟


تقف معظم الرسوم أمام العتبات ولا تخترق المطارح إلى الداخل. تظهر بيروت من خلال واجهاتها خصوصا ومن طريق البهاء الهندسي المتبقي، ولكن ثمة برودة لأن الناس بقيوا في الخارج، سوى في ما ندر. تسلّلوا أحيانا إلى الرسوم غير ان ملامحهم نزعت عنهم. كأن الناس هم أشباح المدينة.
يعود الماضي إلى العيش من طريق رسوم مغبرّة يطغى عليها الأصفر مع بعض لمسات الأخضر، ويبين الحاضر من خلال فورة ألوان تفضح فوضى بيروت وضوضاءها وألقها وفرادتها.


تكتب صيّاد تعليقاتها بخط اليدّ، فلا مجال لكي يتسلل المفتعل إلى حكايتها الحميمة مع بيروت. كأنه من الملحّ أن تظلّ الأشياء على سجيّتها وعلى فطريتها.
تقرّ الكاتبة الفنانة في المحصلة بأنها روّضت بيروت بعض الشيء. ألم يسأل الأمير الصغير في مؤلف أنطوان دو سان اكزوبيري الأثير الثعلب عن معنى "الترويض" وألم يُجبه بأنه أمر جرى نسيانه ويدلّ على "ابتكار الصلات"؟


في عزّ أزمات الهوية التي تستبدّ فينا وفي عزّ علاقة الحب والكراهية المزدوجة التي تجمعنا بلبنان وعاصمته، يأتي الكتاب ليُذكّرنا بما تعنيه الصلات الوشيجة.
يبدو أن كارلا صيّاد ترسم بيروت لتجعل الحياة تدبّ في شرايينها من جديد.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم