الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فليكن الامتحان سياسياً ومدنياً

سليم معوض
A+ A-

حراك اليوم متعدد المطلب ويأتي في ظل ظروف سياسية مختلفة عن سابقاتها وعن الثورات التي عرفها لبنان او حلم بها اللبناني حتى حدود الوهم. هذا الحراك الشعبي ظاهرة واعدة ولكن يبقى مشروطاً. فما هي شروط نجاح حراك كهذا؟ وما هي محاذير الفشل؟


اصاب ابرهيم الامين بتوصيفه بروفيل بعض من شباب ومنظمي حملة "طلعت ريحتكم" من حيث تأثرهم بالمنهجية الغربية، والاميركية منها بالتحديد، في ما يخص اطلاق عملية تغيير تعتمد على موضة "الربيع العربي". يعلم كل من هو مطلع على امور المجتمع المدني اللبناني بأن مجموعة من هؤلاء الشباب ومنذ زمن تحلم بخلق مساحة سياسية يتحركون من خلالها كي تؤمن لهم دوراً سياسياً مشروعاً لطالما ارادوه وبقي بعيد المنال.
اصاب الكاتب مجدداً عندما سرد التسلسل الزمني لهذا الحراك من قبل هؤلاء الشباب الناشط العابر للوطن منذ ثورة الارز عام ٢٠٠٥، مروراً بمرحلة ما بعد ثورات مصر وليبيا وتونس مع بداية العام 2011، وخلال الحرب السورية والدور الذي حاولوا أن يقوموا به في بناء النظام بعد عملية اسقاطه من خلال الحراك الشعبي المحلي. انضمت اصوات كثير من المشككين بأجندة هذه المجموعة الشبابية لصوت الكاتب لتصل الى حد التخوين الوطني لما يمكن ان يكون لها من اتصال وارتباط بالسفارات الاجنبية وخاصة الغربية منها.
امام هذين التخوين والتشكيك يتوجب على هذه المجموعة الشبابية ان تتحلى بجرأة اكبر وتذهب ابعد من التحرك الشعبي الذي نجح وبامتياز يوم السبت المنصرم وابعد من ازمة النفايات ومحاسبة مطلقي النار لتطلق حواراً شفافاً حول افكارها ودوافعها. يمكن حوارا كهذا ان يؤسس لمنهجية جديدة في التعاطي مع الشأن العام والسياسة في بلد اصبحت ممارسة السياسة فيه حكراً على حفنة بالية من المستزلمين لأجندات غربية وفارسية وعربية.
من الواضح والبديهي تخبط هذه المجموعة الشبابية والارتباك الذي شهدناه في صفوفها خلال الأيام الأولى للحراك، فنسبة تجاوب مجموعات مختلفة من المواطنين بمختلف نزعاتهم وتفاوت حدّة شعاراتهم ومطالبهم السياسية امر اقل ما يقال فيه إنه مفقد للتوازن يضع هذه المجموعة امام مسؤولية كبيرة. لكن فقدان التوازن هذا سرعان ما عولج من قبل الشباب وبسرعة كبيرة يجب الاعتراف بها من قبل المراقبين والمشككين والداعمين عندما لجأوا الى مخضرمين سياسيين ونقابيين وممثلين للمجتمع المدني ذوي تجارب سابقة في مجال الحراك الشعبي. اكمل الصحافي الامين اجهازه على هذه الحركة الشبابية ليتهم بعض افرادها بالصبية اللاهية في الحانات البيروتية والمنتشية بحراكها لدرجة عدم السماح لأي جهة اخرى بالتدخل ولعب دور ما. فهل نقده الساخر يعكس عجز تياره السياسي غير الصافي من الاجندات غير اللبنانية؟ وهل تتمكن هذه الحركة الشبابية من دحض اتهاماته المتهكمة من خلال حراك مستدام متعدد الشكل؟


ازمة الحراك ومعضلة الاستمرار
هذا الحراك المتشابك بين المدني والسياسي ليس بجديد على الساحة اللبنانية لا في التاريخ الجديد منذ الالفية الثانية ولا حتى القديم منه والذي يعود الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي. عرف عن لبنان ونخبه المدنية والسياسية الشبابية تقدميتهم بالتنظير لمسائل سياسية وايديولوجية معقدة. كما يشهد للبناني براعته بتحديد صائب ودقيق لأزمة نظامه المستفحلة وطرح حلول خلاقة لها والتي بقيت حتى يومنا هذا قائمة دون اي مشروع حسّي للتحرك في اتجاه حل ولو جزئي.
ان الحراك الفكري في حقبة الخمسينات، وإلى حد ما المسيحي في غالبيته، افرز منظومة حكم ليبرالية ورأسمالية شرسة تضاف اليها زبائنية وخصخصة سياسية طائفية وما زلنا ندفع ثمنها حتى يومنا هذا. ان ازمة النفايات الحالية ليست سوى احدى نتائج منظومة الحكم الرأسمالي الوقح هذا. وفي اواخر الستينات انطلق حراك فكري آخر يدعو لنصرة المحرومين بغالبية شيعية هاتفاً بأن "السلاح زينة الرجال" بغية تحقيق هذا المطلب وما زلنا ندفع ثمنه حتى يومنا هذا، حتى انتقل هذا السلاح من يد شيعية الى اخرى ما زالت تهدد نظام الحكم. في كلتا الحالتين نما حراك فكري مدني سياسي مرادف ورافض لهذه الايديولوجيات ومن اهم تجلياته في تلك الحقبة، على صعيد المثال وليس الحصر، تقديم مشروع قانون لمجلس النواب عام 1956 يسمح بالزواج المدني في لبنان لم يبصر النور حتى بعد اكثر من خمسين عاماً واكثر من مئة الف موقع ومتظاهر ومطالب. ناهيك عن حراك مطلبي طالبي ناشط وفعال نجح الى حد ما في خفض تسعيرة تذكرة السينما في تلك الفترة ليبرهن بأن التغيير ممكن. واستمر الحراك الفكري في فترة الحرب الأهلية ليتخذ من هذه النخبة الشبابية نفسها منظرين لأحقية المعركة الوجودية ضد الآخر. وفي فترة ما بعد الحرب استفحلت الحريرية السياسية بمظهرها الرأسمالي الشرس ببركة "حزب الله" على اساس التنازل عن الاقتصاد الرأسمالي مقابل السلاح المفترض ان يكون لمقاومة اسرائيل فرأيناه يوقع ضحايا في وسط بيروت. واتت ثورة الارز وتبعتها ثورات الربيع العربي ونشط الحراك المدني - السياسي من جديد على الطريقة اللبنانية التي شاء بعض الشباب اللبناني تصديرها للعالم العربي متناسياً الازمة اللبنانية.


وماذا بعد يوم السبت؟
عاد هؤلاء الشباب وعاد الحراك الفكري المدني - السياسي الى الواجهة للتعاطي مع ازمة النفايات وغيرها من المحاسبة والمطالبة والعودة حميدة، ولكن! استبق رد فعل الآخرين الذين سيتسلحون بلزوم احترام الوقت اللازم لبلورة هذا الحراك وترجمته في اطار مشروع سياسي. نعم يجب الانتظار ولكن يجب ان نستيقظ من سبات الحراك المدني - السياسي غير المبلور والبعيد عن مبادرات تجمع بين السياسي والمدني ولكن في تحركات منفصلة ومتكاملة. لا يمكن هذا الحراك ان ينسجم مع روحيته السامية من اجل التغيير اذا ابقى على المفهوم القائم منذ زمن وهو "إجر بالبور وإجر بالفلاحة" بما معناه ناشط مدني يتعاطى السياسة ويفاخر بعدم التسييس وحالم بمركز سياسي يرتكز على المدني للوصول الى السياسي. المطلوب من هذه الحركة الشبابية، الظاهرة منها والعاملة من خلف الكواليس، وهي كثيرة في لبنان، ان تظهر عملها السياسي للعلن وبطريقة شفافة ومباشرة.
المطلوب من افراد هذه المجموعة الشبابية ان يحسموا امرهم وان يختاروا بين العمل المدني المحدد او السياسي الصرف والمرتكز على روحية هذا الحراك. المطلوب من المجموعات التي تتبنى خيار العمل السياسي ان تتوقف لبرهة من الوقت عن عملية التنظير الجيوسياسي الهادف لتحديد سياسة لبنان الخارجية وعلاقته بالحرب على الارهاب وموقفه من سلاح "حزب الله" والاتصال بايران والولايات المتحدة الاميركية ودول الخليج للالتفات الى مواضيع اخرى توحدهم بدل ان تفرقهم. فالشعب لم يبخل عليهم يوم السبت فقدم جملة مطالب محقة بعيدة عن المواضيع السياسية المعقدة. ان الاختبار الاصعب لهذه الحركات السياسية يتمثل بمدى تمكن افرادها من العمل على مطالب مشتركة حين تبقي المواضيع الخلافية الجيوسياسية معرض بحث دائم في ما بينهم وداخل حلقاتهم الحوارية.
من المؤسف رؤية كيف أن هذا الحراك المدني - السياسي، ومنذ اكثر من خمسة عقود، يوظف اقصى طاقته لاعادة اطلاق الحراك وتجديده بدل الاستفادة من هذه الطاقات لصون استمراريته نحو التغيير من خلال المطالب المحددة. تبقى تظاهرة يوم السبت مفصلية وعلى اهمية كبرى كخطوة في سياق هذا الحراك ولكن يجب ان تستكمل باختبار لاعبين اساسيين، الشعب والشباب الداعي للتحرك. فهل يجرؤ شباب هذا الحراك على الذهاب خطوات ابعد في فصل الحراك المدني بوجهه العملاني والتوعوي والمطلبي عن السياسي الملتزم لتنصرف هذه النخب السياسية الجديدة للعمل السياسي المحض والظاهر؟
وهل يجرؤ المتظاهر اللبناني ولو بعدد ضئيل ان يتبنى هذا الحراك السياسي ويدعمه مادياً ومعنوياً؟ ان نجاح اي عمل سياسي يفترض توافر موارد بشرية ومالية والتزام غير موسمي وبدوام غير جزئي. فهل يلتزم الشاب والمواطن؟ ام تنظف الطرقات وينتظر المواطن دعوة الزعيم التقليدي لملء ساحة اخرى خدمة لأجندة جيوسياسية معينة او مصلحة سياسية او طائفية ضيقة؟ والسؤال الاهم يتمركز حول امكان مختلف اللاعبين المطالبين بالدولة المدنية والمنزهين عن الفساد وجرائم الحرب، وهم كثر، ان يلتفوا حول هذا الحراك الواعد ويقدموا للمواطن التزاما سياسيا جريئا وجديا؟


ناشط اجتماعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم