الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

خيار واحد أمام بسام ديب: بيع كليته أو حياة عائلته

المصدر: النهار
طرابلس - رولا حميد
خيار واحد أمام بسام ديب: بيع كليته أو حياة عائلته
خيار واحد أمام بسام ديب: بيع كليته أو حياة عائلته
A+ A-

بسطة لبيع البالة (الثياب المستعملة) مقفلة بغطاء بلاستيك أزرق في محلة الجسر في #طرابلس، يقف صاحبها بسام ديب (٣٥ سنة) مكتوف الأيدي حائراً بما يفعله بأولاده الخمسة وأمهم، فقد سدت بوجهه منافذ الحياة: توقف البيع، وغاب الزبائن الذين قصدوه. ولم تنجح عملية بيعه لكليته، اقله حتى الآن، لأسباب تقنية.


يتحدث ديب لـ"النهار" بكل ثقة بالنفس: "نعم، أبيع كليتي بعدما لم يبق لي مصدر للحياة. بسطتي أقفلت، وتبخّر الزبائن، والعائلة التي أسست عندما كان السوق ناشطاً، تحتاج إلىالكثير بعدما توقف البيع. لم يعد لي من مصدر أغطي به حاجاتنا. وتسنح لي فرصة بالمصادفة لبيع الكلية، فقبلت".
لا يأبه بسام للضجيج حول "#الزبالة"، فمنطقته في "الحارة البرانية" الطرابلسية قلّما تحضر إليها ناقلات النفايات. "الزبالة جزء من حياتنا"، يقول بسام.
ولا يهتم للمشاركة في الحملات الرائجة، والمسيرات بماركاتها المختلفة، ولا بشعاراتها: "همي أن أؤمن لقمة الخبز لعيالي"، يقول مضيفا، وهو يقف حزيناً على أطلال بسطته، وقد دأب على استثمار البسطة منذ أكثر من خمس عشرة سنة.


تصله رسالة على جواله الذي اقتناه منذ مدة طويلة لتسهيل التواصل مع عائلته، وأصحابه. يفتح الرسالة، فيصدر صوت طفل منادياً: "بابا جبلنا خبز. ما عنا ولا لقمة". يكفهر وجه بسام، كأنه لا يملك ثمن ربطة الخبز ولو بألف ليرة.
منذ أن افلست البسطة، لم يعد لبسام ما يغطي قوت عياله: "وبدك ياني لاحق الزبالة!!"، يقول بهزء وامتعاض.


البسطة بلا باب للاقفال، ولا هم إن اكتفى بسام بغطاء لأن تحته فارغ، خال من البضاعة بعد تراجع المبيعات بالتدريج مع تطور الأحداث الطرابلسية، ثم وفود النازحين الذين يضاربون على العاملين المحليين اللبنانيين، إلى أن توقفت حركة البيع بالكامل.


كذلك، غابت عن السوق الأوجه الكثيرة التي قصدت بسام من بقية الأحياء في المدينة، ومن محيطها، حتى من "العائلات البيروتية المرموقة" التي كانت سيدات منها يأتين للتوصية على "لقطة" ثوب بسعر زهيد، تأخذنه وتتباهى إحداهن به في صالونات المدينة، وعليه ماركة عالمية المشهورة. كان بسام مقصد هؤلاء الناس في أعلى المراتب الاجتماعية، لكنه اليوم يقف محبطاً، مشلول القدرة، ولم يعد يملك ألف ليرة لربطة خبز لعياله.
الشارع العابر قرب بسطة بسام كان يعج بالسيارات المنتقلة ذهابا وإيابا بين المدينة وبين منطقة القبة والمناطق المجاورة كزغرتا والضنية، وكان عبور الشارع يستغرق الوقت الطويل، لكنه بات اليوم فارغا، تعبره السيارات بسرعة دليلاً على غياب الازدحام السابق المعهود.


تقع الحارة البرانية قبالة محلة الجسر، ويرى بسام بيته من بسطته. هو يستطيع التمييز بين الأبنية المتداخلة بكل الاتجاهات، لكن جدران "الخفان" (حجارة الاسمنت) المتشابهة، والمتشابكة، والمتداخلة، تشكل مشهدا سورياليا لا يفهمه إلا من يعش بداخله، ويفهم تفاصيله بدقة.
يعبر بسام من بسطته إلى الشارع، ثم يلج بممرات المدينة القديمة الضيقة، وبأدراجها المتآكلة، تسيل سيول المنازل بين الدرجات، وتتناثر النفايات، تتصاعد روائح، وتتجمع حشرات، ويدخل بسام من باب خفيض ضيق، يصعد سلما، ويدخل منزله: غرفتان، ومدخل للجلوس، مع حمام ومطبخ، إيجاره ٢٥٠ ألف ليرة لبنانية. للشقة باب خارجي، ونوافذ خشب قديم، أما ما تبقى فهو منفتح على بعضه البعض، ارضه من الباطون المهترئ، جدرانه بلا توريق، سقوفه يغطيها النش، وأرضه لا تجف من الماء لأن الشمس ليست في ضيافته ولا مرة في السنة.


حالة المنزل تكررت في مشاهد سابقة في باب التبانة وباب الرمل، وهي تتحدث عن مأساة في كل منزل، فإذا كانت أحياء الفقر في العالم ربما عملت على قاعدة "في كل حارة حسرة"، فإن أحياء طرابلس القديمة تعيش حالة تفيد أنه "في كل بيت حسرة ومأساة".


يعيش بسام مع زوجته وأولاده الخمسة، ويقيم معهم اثنان من أولاد شقيقة زوجته التي توفيت بعارض صحي، وعلى العائلة تدبر أمورها من الغيب مما هو غير مرئي وواضح.
ابنته البكر عائشة تخشى أن لا تعود إلى المدرسة هذا العام، وهي في الصف الثالث التكميلي، "لا نملك تكاليف التسجيل في المدرسة، ولا اللوازم من كتب وقرطاسية".


حال ابنته كحال بقية أولاده الذين تهددهم الفقر، أولا، والآن تهددتهم الأمية. تحدٍ كبير يواجه بسام، وليس له من منفذ.
يؤكد بسام وهو يحتضن عائلته بحزن: "سأعاود محاولة بيع كليتي، بالتأكيد. ليس أمامي أي حل آخر. هناك من وعدني من الأصدقاء بتأمين عمل ومدخول، وأنا انتظر، فإذا لم تتأمن هذه الفرصة، فغدا لناظره قريب. لن أترك أولادي وعائلتي يذلُون في الشوارع".
عن قصة بيع الكلية، ومن أين أتته الفكرة، يقول بسام إن "رجلا من المدينة قصده سائلا عن شخص يرغب في بيع "كلية" يحتاجها مريض، وهو مستعد أن يدفع ثمنها عشرين ألف دولار أميركي".


يعرف كثيرون أن هناك فقرا مدقعا، وفاقة تفوق الخيال في الأحياء الشعبية في المدينة، فيقصدونهم مستغلين حاجتهم، لقاء مبالغ طائلة. "فثمة أثرياء مستعدون لدفع المبالغ الكبيرة ليربحوا حياتهم"، يلحظ بسام.


ويتابع الرواية: "قلت له أنا مستعد لذلك، وقد وجدت في العملية منقذا لعائلتي. وأعرف أنني استطيع أن احيا بكلية واحدة. ولا آبه لمخاطر الاستئصال. الاتكال على الله"، مضيفا: "أجرينا الفحوص، ووجدنا تقاربا يسمح لي بإعطائه كليتي، وبينما كنت أستعد للتوجه سويا إلى دولة قريبة لإجراء العملية، علم أحد الأصدقاء بذلك، ومنعني مقابل وعد موقت بإيجاد بديل".


عن سبب الحاجة إلى التوجه لدولة خارج لبنان، أفاد بسام أن "وزارة الصحة اللبنانية تمنع إجراء هذه العمليات على أراضيها لاعتبارها أنها اتجار بالانسان، وبسبب ذلك يذهب الراغبون في إجراء عمليات مشابهة إلى دولة قريبة، وتتم العملية فيها بطريقة سرية، وهناك من يتدبر الأمور بعيداًمن رقابة سلطات تلك الدولة".


ينهي بسام كلامه: "غدا... إذا لم تتأمن لي فرصة عمل قبل حلول موعد افتتاح المدارس، سأباشر بتطبيق اتفاقي لبيع الكلية مع الرجل، فليس أمامي خيار آخر".


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم