الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

تحولات العقيدة الأمنية الإسرائيلية

ماهر الشريف
A+ A-

تعود نشأة هذه العقيدة إلى أوائل خمسينات القرن العشرين، وكان أول من وضع أسسها رئيس أول حكومة إسرائيلية ووزير الدفاع فيها، ديفيد بن غوريون، وقامت على المرتكزات الأساسية الآتية: تعزيز قوة الردع، من خلال بناء قدرات عسكرية تردع أعداء إسرائيل عن المبادرة إلى شن حرب ضدها؛ الإنذار الاستراتيجي، بحيث تمتلك إسرائيل قدرة استخبارية تعطي إنذاراً مبكراً عن نية العدو الإقدام على شن حرب؛ الحسم، عندما يفشل الردع وتندلع الحرب، يجب أن تكون إسرائيل قادرة على نقل الحرب إلى أرض الخصم باكراً، والسعي لحسم المعركة بأسرع ما يمكن.


بمرور الوقت تغيّرت المعطيات الجيو-سياسية، المحيطة بإسرائيل، تغيراً جذرياً؛ فاحتلالات حرب حزيران 1967 منحتها العمق الاستراتيجي الذي كانت تفتقر إليه لدى قيامها، ثم أزالت معاهدتا السلام مع مصر والأردن الخطر من ناحيتهما. ومع ذلك، ظلت هذه العقيدة الأمنية من دون أي تغيير، ولم تفلح كل المحاولات التي جرت لتطويرها.
ولم يصبح تحديث العقيدة الأمنية هماً رئيساً للقيادات الأمنية والسياسية في إسرائيل إلا بعد الحرب ضد "حزب الله" في لبنان في تموز 2006. فبعد تلك الحرب، التي تعرضت خلالها الجبهة الداخلية المدنية الإسرائيلية، لأول مرة في تاريخ الحروب العربية-الإسرائيلية، لقصف يومي ومكثف بالصواريخ، ولم تتمكن القوات المعتدية من إنهاء القتال بسرعة، وإنما استمر 33 يوماً، استخلصت القيادات الأمنية والسياسية أن العقيدة الأمنية، التي هي أساساً عقيدة هجومية، تفتقر إلى مكوّن الدفاع، الذي يشمل "الدفاع السلبي"، ويقوم على توعية المواطنين في أوقات الحرب واقتراب الصواريخ من أماكن وجودهم، وعلى تهيئة ملاجئ وغرف حصينة في المنازل؛ و "الدفاع الفعال"، الذي يقوم على تملك وسائل اعتراض الصواريخ والقذائف الصاروخية.
وفي مطلع سنة 2011، دخلت بالفعل الخدمة العملانية منظومة القبة الحديد، المعدّة لاعتراض القذائف الصاروخية وقذائف المدفعية التي يصل مداها إلى 70 كيلومتراً، والتي من المتوقع أن تشتري إسرائيل منها ما مجموعه 13 بطارية. وقد أثبتت عملية "عمود السحاب" في غزة (2012) فاعلية منظومة القبة الحديد، التي حققت معدل نجاح بلغ نسبة 84 في المئة، علماً بأن هذه المنظومة تبقى عاجزة عن إسقاط القذائف الصاروخية ذات المدى القصير جداً، كما أنها تشكو من ارتفاع كلفتها، إذ تبلغ كلفة الصاروخ الاعتراضي الواحد ما بين اربعين الف وخمسين الف دولار أميركي. وإلى جانب هذه المنظومة، تسعى إسرائيل إلى تطوير وسائل اعتراضية أخرى على القذائف الصاروخية، مثل مقلاع داود (العصا السحرية)، وصاروخ "حيتس 2" و"حيتس 3".
ومن ناحية ثانية، وفرت الحرب ضد "حزب الله" في لبنان الفرصة لإعادة الاعتبار لأهمية دور القوات البرية وضرورة إعادة تنظيمها وتأهيلها وتسليحها جيداً، وذلك بعدما تبيّن خلال الحرب أن هذه القوات كانت شبه مهملة، وزجت في المعركة من دون أن تكون مهيأة أو مجهزة، الأمر الذي تسبب بإخفاقها وتكبدها خسائر فادحة. أما سبب إهمال القوات البرية، فقد أرجع إلى الثقة المفرطة بقدرة سلاح الطيران على حسم المعركة.
وفي إطار النقاش الذي صار يدور حول ضرورة تحديث العقيدة الأمنية وملاءمتها مع تحديات الواقع الراهن وأخطاره، طرحت توصية تدعو إلى التخلي عن المفهوم، الذي ابتدعه ديفيد بن غوريون، وهو مفهوم "جيش الشعب" المكوّن من قوات محترفة صغيرة العدد وقوات احتياط كبيرة، والتوجه نحو بناء جيش نظامي كبير محترف يكون هو أساس القوة العسكرية لا مجرد نواتها. كما طرحت أفكار تدعو إلى تفعيل مجلس الأمن القومي، وتمكينه من الإشراف على كل الأجهزة المعنية بمسائل الأمن القومي والتنسيق في ما بينها، وبلورة تصوّر منظومي شامل للدفاع عن الأنظمة المحوسبة، في إطار ما يمكن تسميته "الدفاع السيبراني"، وكذلك العمل على إعادة درس مكانة الساحة البحرية في عقيدة إسرائيل الأمنية، في ضوء اكتشافات مكامن الغاز الطبيعي قبالة شواطئ إسرائيل، وتزايد أهمية البحر الأحمر، بصفته ساحة مواجهة مع إيران.


حروب الجيش الإسرائيلي ضد لبنان وغزة
إن نظريات الحرب والعقائد القتالية التي جرت دراستها خلال عقود لم تعد ملائمة للوضع العسكري الجديد، الذي أصبحت فيه المواجهات المحدودة واللامتناظرة، مع تنظيمات لادولتية ("حزب الله"، "حماس"، وغيرهما)، هي النمط السائد، بينما قلت أهمية الحروب الشاملة بين دول.
بعد سنتين على حرب إسرائيل ضد "حزب الله"، في تموز 2006، كشف غادي آيزنكوت، رئيس الأركان الحالي ورئيس شعبة العمليات خلال الحرب، النقاب عن مفهوم استراتيجي/ قتالي تبلور في أعقاب تلك الحرب، وترجم خطة عسكرية ستعتمدها القيادة العسكرية في حروبها المقبلة، أطلق عليه اسم "عقيدة الضاحية". ويشرح آيزنكوت هذا المفهوم بقوله: "إن ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت، خلال حرب لبنان الثانية في سنة 2006، هو ما سيحدث في أي قرية (لبنانية) يتم منها إطلاق النار على إسرائيل. سنفعّل ضدها قوة غير متكافئة وسنتسبب بضرر ودمار بالغين". أما غابي سيبوني، العقيد (احتياط) والباحث في معهد أبحاث الأمن القومي، فقد كتب: "في لبنان- يجب ضرب مكونات القدرة العسكرية لمنظمة حزب الله، لكن إلى جانب ذلك يجب ضرب المصالح الاقتصادية، ومراكز القوة المدنية التي تستند المنظمة إليها. علاوة على ذلك، كلما تعمق الارتباط بين الحكومة اللبنانية وحزب الله، فإن جزءاً من البنى التحتية (في لبنان) سيكون عرضة للاستهداف". ويضيف سيبوني أن هذه الخطة ستعتمد في قطاع غزة أيضاً.
وكانت إسرائيل قد شنت، في أعقاب حربها على لبنان، ثلاث حروب على غزة: عملية "الرصاص المصهور" (أواخر سنة 2008-أوائل سنة 2009)؛ عملية "عمود السحاب" (2012)؛ عملية "الجرف الصامد" (2014). وبرزت في إطار هذه الحروب – كما يكتب أحمد خليفة- ثلاثة مفاهيم/مصطلحات أمنية ذات صلة بالعقيدة القتالية، وهي "كيّ الوعي"؛ "جز العشب"؛ "نهج هنيبعل".
فالمفهوم الأول، الذي ابتدعه موشيه يعالون وزير الدفاع الحالي إبان "انتفاضة الأقصى"، يقوم على توجيه ضربات ساحقة إلى المقاومة الفلسطينية المسلحة وإلى السكان المدنيين على حد سواء، لجعلهما يدركان أن إسرائيل لا يمكن هزيمتها، وأن المقاومة عبث وعواقبها وخيمة عليهما. أما المفهوم الثاني، فمفاده تكرار الحرب كلما بدا أن "العشب" راح ينمو، بمعنى زيادة قدرات المقاومة القتالية وبخاصة ترسانتها الصاروخية. بينما يرمز المفهوم الثالث إلى نهج انكشف في الحرب الأخيرة على غزة، ومفاده أنه في حال خطف جندي إسرائيلي يجب أن يبادر القائد المحلي إلى العمل فوراً لإحباط عملية الخطف، ولو أدى الأمر إلى إصابة الجندي المخطوف ومقتله.


التحديات التي تواجهها إسرائيل
يجمع جنرالات وباحثون اسرائيليون كبار على أن الخطر الأكبر يكمن في البرنامج النووي الإيراني، إذ ينطوي تحول إيران دولة نووية، في نظرهم، على تهديد وجودي لإسرائيل. ومن هنا، نبعت دعوتهم إلى ضرورة قيام إسرائيل بالتركيز على محاولة التأثير في محتوى الاتفاق بين الولايات المتحدة والدول الكبرى من جهة وإيران من جهة أخرى (وهو ما لم يحصل كما بيّن التوصل إلى اتفاق فيينا في منتصف تموز الفائت)، والحفاظ على الخيار العسكري الإسرائيلي في مواجهة إيران.
أما الخطر الثاني، فيتمثل في التنظيمات اللادولتية التي تحركها إيديولوجيا إسلامية، مثل "حزب الله" و"حماس"، وصعود لاعبين خارجين على سلطة الدولة ونجاحهم في السيطرة على مناطق محاذية لحدود إسرائيل (في سوريا؛ وشبه جزيرة سيناء).
هذا بينما يكمن الخطر الثالث في اندلاع انتفاضة جديدة مسلحة في الضفة الغربية، وفي استمرار المساعي التي تبذلها السلطة الفلسطينية من أجل نزع الشرعية عن إسرائيل في المحافل الدولية، وذلك على خلفية عدم إحراز أي تقدم في العملية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل.
ويرتبط التحدي الرابع بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، إذ من شأن تغيير وجهة التركيز في السياسة الخارجية الأميركية، من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، وتقلص اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، وترددها في استخدام القوة العسكرية في الأزمات الإقليمية، من شأن ذلك كله أن يشكل تحدياً استراتيجياً بالنسبة إلى إسرائيل.
ويخلص هؤلاء إلى أن على إسرائيل أن تتعلم التعايش مع هذه الأخطار والتهديدات من خلال إدارتها بشكل صحيح بهدف منع انتقالها من الكمون إلى الفعل، ويقترحون، في هذا السياق، جملة من الأفكار، من بينها:
- تعزيز قدرات إسرائيل العسكرية وفقاً للعقيدة الأمنية المحدّثة، ومواصلة تطوير منظومات الإنذار والاعتراض الصاروخي، والطائرات من دون طيار، والقدرات السيبرانية.
- الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية المميزة مع الولايات المتحدة ومواصلة التعاون مع مختلف أذرع المؤسسة العسكرية الأميركية.
- إدامة معاهدات السلام وترسيخها مع كل من مصر والأردن، والسعي إلى إحراز تقدم في العملية السياسية الفلسطينية-الإسرائيلية، إذ من شأن تقدم كهذا أن يحسّن فرص إسرائيل في تشجيع التطبيع وتوثيق التعاون الأمني مع دول الجوار.
- استغلال ضعف "حماس" للتوصل إلى تفاهمات على قاعدة التهدئة الأمنية، في مقابل التنمية الاقتصادية والتسهيلات على المعابر الحدودية مع قطاع غزة.


مركز الدراسات الفلسطينية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم