السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - "بيت المستقبل" الجديد في سرايا بكفيا مؤسسة ثقافية لبنانية لـ"مشروع مارشال عربي"

محمد أبي سمرا
تحت الضوء - "بيت المستقبل" الجديد في سرايا بكفيا مؤسسة ثقافية لبنانية لـ"مشروع مارشال عربي"
تحت الضوء - "بيت المستقبل" الجديد في سرايا بكفيا مؤسسة ثقافية لبنانية لـ"مشروع مارشال عربي"
A+ A-

قبل نحو شهر ونيف، انعقد في سرايا بكفيا مؤتمر افتتاحي أطلق نشاط "بيت المستقبل" الجديد الذي تحوّل مؤسسة ثقافية بحثية تعنى بوضع ابحاث ودراسات لرسم سياسات مستقبلية عامة في العالم العربي، ولتشخص احتمالات معالجات للمعضلات والمشكلات السياسية والاجتماعية في البلدان العربية. ما هي أهداف هذه المؤسسة الجديدة، وما هو برنامج عملها، وكيف تنفذ هذا البرنامج؟


تكثر في العالم الحديث، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، مراكز ومؤسسات بحثية لاستطلاع محاور السياسات العامة، رسمها وترشيدها في خياراتها، وتزويد مراكز صنع القرار وسواها من الدوائر السياسية، الآراء والمعلومات والتحليلات. لا وجود تقريباً لمثل هذه المراكز والمؤسسات في لبنان، ما خلا الدولية منها، التي تتولى جهات ومنظمات دولية حكومية وغير حكومية إدارتها ووضع برامجها. وهي تتخذ من بيروت مقراً إقليمياً، وتتعاون مع خبراء وباحثين وأكاديميين لبنانيين ومن بلدان عربية أخرى. أما في القاهرة مثلا، فشهيرة مسألة تضييق السلطات المصرية على المنظمات ومراكز البحث الدولية غير الحكومية، واتهام المصريين المتعاونين معها بالتآمر أو بما يشبه الخيانة الوطنية أو القومية. لعل هذا وليد "الريبة" العربية والإسلامية المزمنة من الأجانب والغرب، واتخاذها أشكالا هذيانية في النظام الناصري، وفي سواه من الأنظمة العسكرية العروبية في كل من سوريا والعراق، اللذين لم ينجلِ انهيار النظامين البعثيين فيهما إلا عن كارثة لا تزال تتناسل فصولها. في حقبة سيطرة هذه الأنظمة على مجتمعاتها، اكتفت منظماتها الحزبية العقائدية ببث إيديولوجياتها وخرافاتها الشمولية عن العالم والسياسة والاجتماع والأوطان والوطنية، وحوّلت نخبها الضعيفة أصلا إما جماعات من الببغوات والمصفقين لطغيانها، وإما طردتهم إلى المنافي، وإما جعلتهم نزلاء السجون والمعتقلات.
وإذا كان لبنان الحر والديموقراطي مؤهلا في تلك الحقبة (1950– 1975) لاستضافة منظمات ومؤسسات ومراكز بحثية دولية إقليمية، فإن هذه لم يزدهر نشاطها ويتوسع إلى خارج أوروبا والغرب، إلا مع بدايات حقبة العولمة في ثمانيات القرن الماضي. أي عندما كان لبنان غارقاً في معمعة حروبه الأهلية الإقليمية ودوّامتها المدمّرة وظلامها. لذا استضافت عمان، والقاهرة المتفلتة نسبياً من الشمولية الناصرية في السنين العشر الأخيرة من حقبة الرئيس حسني مبارك المديدة، بعضاً من مقارّ تلك المنظمات والمراكز البحثية الدولية.
لكن هذه الاستضافة لا تغني قط عن ضرورة نشوء مراكز ومنظمات ومؤسسات بحثية متخصصة، وطنية محلية وإقليمية الطابع والاهتمامات وبرامج العمل والتوجه، وخصوصاً في هذه المرحلة من انهيار الدول والمجتمعات العربية المشرقية، ومنها لبنان الذي يتخبط اليوم، دولة ومجتمعاً، على شفير الانحلال، وفي حرب اهلية باردة مقنَّعة على إيقاع الحروب الإقليمية المجاورة العاصفة وأصدائها. فإذا بالمصير اللبناني مرتبط أكثر من أي وقت مضى بما يحدث في المنطقة.


مشروع مارشال عربي
بناء على هذه المقدمات، أعيد إحياء "بيت المستقبل" الذي كان يُعنى بالتوثيق والأرشفة وجمع المعلومات، قبل أن تدمّره "حرب الإلغاء" في نهاية ثمانينات القرن العشرين. لكن إحياءه اليوم جاء على خلاف ما كانت عليه أهدافه وأعماله في الماضي. فهو تحول مؤسسة بحثية برنامجها الأساسي لبناني– إقليمي، وعربي – دولي، يعنى بمقاربة المشكلات والمعضلات الراهنة الكبرى في المنطقة، في إطارها الدولي المعولم. وذلك في خضم هذه العواصف التي يصعب التنبؤ بنهاياتها وخواتيمها، لكن يمكن التفكير راهنا وفي خضمها بما يمكن إعداده والتحضير له في انتظار هدوئها. المقاربة الراهنة والمستقبلية المعتمدة، استعارت عنوانها مما حصل في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية: التفكير في وضع خطوط عامة وعريضة لـ"مشروع مارشال عربي من أجل مستقبل أفضل للشرق الأوسط"، بالشراكة والتعاون مع مؤسسات ومراكز بحث عربية ودولية، غير حكومية.
فانطلاقاً من أنه صار من الصعب التفكير في المسائل والمشكلات والمعضلات المتراكمة في لبنان بمعزل عما حدث ويحدث في المشرق العربي والشرق الأوسط وعلى المستوى الدولي، وضع "بيت المستقبل" الجديد برنامجاً أو خطة عمل مركبة لنشاطاته في ما يتعلق بتشخيص الأوضاع الراهنة في البلدان العربية، لبحثها وتحليلها ودراستها، بهدف وضع وجهات نظر متعددة تساعد في إيجاد السبل الممكنة للتصدي للمشكلات والمعضلات في المستقبل، بعد أن تضع الحروب أوزارها. في هذا المعنى، "بيت المستقبل" الجديد هو منظمة أو مؤسسة بحثية ثقافية لبنانية غير حكومية، تعنى بالشؤون اللبنانية والعربية والدولية، وتتعاون مع منظمات ومؤسسات عربية ودولية مماثلة، لمقاربة معضلات المنطقة ومشكلاتها، وذلك عبر إحياء ورش عمل بحثية مغلفة، ومناقشات وندوات ومؤتمرات وحلقات دراسية مفتوحة، يشارك فيها خبراء وباحثون واختصاصيون وأكاديميون وأصحاب رأي، قد تخرج بتوصيات ووجهات نظر، تفيد صنّاع القرار والمؤثرين في المجتمعات والسياسات العامة، خارج المفهوم السلطوي. هذا على ما ذكر سام منسى، مدير "البيت" في مقره الجديد في بكفيا. هناك خطة عمل سنوية يضعها خبراء واختصاصيون يتعاونون مع "البيت"، ويعملون على تنفيذها، بهدف مساهمة الأبحاث والدراسات المتخصصة في ترشيد السياسات، انطلاقاً من معرفة فعلية وواقعية بالمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
يتعاون "بيت المستقبل" في برامجه مع "مؤسسة كونراد أديناور" الأميركية غير الحكومية، و"مركز توليدو للدراسات" في مدريد، إضافة إلى مؤسسات ومراكز بحث دولية أخرى، تعنى بوضع استشارات استراتيجية. إلى سام منسى، تشرف مجموعة من الخبراء والأكاديميين على وضع البرامج والندوات وورش العمل البحثية، منهم المسؤول عن هذه البرامج الدكتور حسن منيمنة ومدير "مؤسسة ميدل إيست التراناتيف" في واشنطن، ورجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، صاحب شركة "أوراسكم" للإتصالات، والدكتور سامي عون مدير "مرصد الشرق الأوسط والعالم العربي" في جامعة كيبيك الكندية، والدكتور جو ميلا الباحث والأكاديمي المعروف ومدير "الجامعة الكاثوليكية" في باريس سابقاً.
من منجزات "بيت المستقبل" الجديد حتى الآن – إلى مؤتمره الافتتاحي في مقره ببكفيا، في مشاركة نخبة من الخبراء ورجال الرأي وصنّاع القرار في بلدان عربية وأوروبية وفي أميركا – إحياؤه طاولة بحث مستديرة تناولت دور وسائل الإعلام وحرية التعبير والشفافية في العالم العربي، وندوة حول إقصاء النخبة الفكرية والثقافية من المجتمعات العربية، وكيفية تمكين هذه النخبة لتستعيد حضورها في هذه المجتمعات. ألقى مدير "معهد ناكسيس الدولي" روب ريمن المداخلة متسائلاً عن جذور إقصاء النخبة العربية الفكرية لصالح نخبة المال والسلطة.
من العناوين التي يُعد "بيت المستقبل" لندوات ومحاضرات وورش عمل حولها في المستقبل القريب، ذكر سام منسى:
- مدى قابلية الجماعات اللبنانية للعيش معاً، ووفقاً لأي تطلعات وقواسم مشتركة؟
- جذور الإرهاب، الأقليات، والأمن القومي في الشرق الأوسط.
- اللاجئون في لبنان وفي البلدان العربية.
- مسألة التقاضي الاستراتيجي الذي يرسي معايير قانونية وحقوقية في البلدان العربية، لتساعد المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني في طرح القضايا السياسية والاجتماعية الساخنة من زاوية حقوقية في هذه المجتمعات.


طيف "الندوة اللبنانية"
في سياق ما يطمح اليه "بيت المستقبل" الجديد، قد يحضر من الستينات اللبنانية طيف "الندوة اللبنانية" التي كانت في زمنها ملتقىً لنخبة من رجال الفكر وصنّاع القرار، لإحياء ندوات دورية هدفها التفكير في شؤون الدولة والمجتمع اللبنانيين في تلك الحقبة الجديدة الناهضة من تاريخ لبنان، التي وضعت الحروب الأهلية الملبننة خاتمة لها ولـ"الندوة" نفسها، بعدما جعلها الراحل ميشال أسمر مشروع حياته، بجهد شبه فردي عصامي، لا يعرف الكلل ولا الملل.
ليس التذكير بـ"الندوة اللبنانية" في هذا السياق، إلا من باب الاستدلال، ورصد الفروق بين زمنين لبنانيين وعربيين، وبين أشكال التفكير والنشاط الملائمة والمعاصرة لكل حقبة وزمن. كما من باب الاستدلال إلى ما يمكن أن تؤول إليه نتائج هذه النشاطات، على الرغم من اختلاف أزمنتها وسياقاتها ومضامينها.
يحضر في هذا السياق عدد من الأسئلة حول مدى قدرة النشاطات البحثية وورش العمل الفكرية والندوات، على التأثير المباشر وغير المباشر في ترشيد السياسات العامة وتزويد صنّاع الرأي والقرارات معطيات ووجهات نظر، في البيئات السياسية والاجتماعية اللبنانية والعربية الراهنة؟
هل من بيئة سياسية واجتماعية عربية في زمن التفسخ والانحلال والإحتراب الأهلي هذا، لديها تطلبٌ فعلي وحقيقي ملموس، لتزويدها، وتزويد صنّاع الرأي والقرار فيها، معطيات ومعلومات ووجهات نظر يمكن الاسترشاد بها في إيجاد حلول للمشكلات والمعضلات؟ ثم، من هم صنّاع الرأي والقرار في المجتمعات العربية المحتربة اليوم؟ يحضر في هذا السياق مثلاً السيد حسن نصرالله الخطيب التلفزيوني للحزب الخميني وجمهوره. ويحضر ايضاً النائب سعد الحريري زعيم "تيار المستقبل". كما يحضر ثالثاً زعيم التيار العوني، الجنرال ميشال عون، صاحب الوقفات التلفزيونية الاسبوعية الغاضبة مطالباً بـ"حقوق المسيحيين". ناهيك عن زعيم الجماعة أو الحركة الحوثية اليمنية وخطيبها التلفزيوني ايضاً في صعدة. أما في العراق وسوريا فحدِّث ولا حرج عن أمراء كتائب مسلحة يتجاوز عددها الألوف.
تحضر مثل هذه الأسئلة والأسماء، للإشارة إلى أن مسألة ترشيد السياسات تحتاج أولاً إلى وجود سياسات ومجتمعات وقوى اجتماعية وسياسية ورجال يملكون زمام أمرهم وقرارهم، ولديهم فكرة ما عن الصالح العام وشؤونه واحتمال تدبيرها تدبيرا سياسياً. ألسنا نعيش اليوم في معمعة ما دون اجتماعية وسياسية؟ وقد تكون السياسة في المجتمعات العربية المحتربة اليوم، مؤجلة إلى وقت قد يأتي يوماً ما. وربما هذا ما يُعدّ له "بيت المستقبل" منتظراً حلول ذلك اليوم العتيد.


السرايا الجميلة في بكفيا
تبقى الإشارة إلى مقر "بيت المستقبل" الجديد في سرايا بكفيا ذات الطراز المعماري التراثي اللبناني الجميل. كانت السرايا مقراً أو مركزاً لقائمقامية جبل لبنان الشمالية (المسيحية) ما بين 1860 و1862، في عشايا إنشاء متصرفية جبل لبنان، وجعل سرايا بعبدا مقراً لها ولمتصرفيها طوال أكثر من 50 سنة من الاستقرار اللبناني. وقد أُبرم بين إدارة "بيت المستقبل" الجديد وبلدية بكفيا، اتفاق لاستعمال السرايا مقراً لنشاطات المؤسسة الثقافية الجديدة التي تكفلت مصاريف ترميم السرايا وتجهيزها، بعد حصولها على ما مكّنها من ذلك من جهات قطرية مانحة.
نافذة:
تحول "بيت المستقبل" مؤسسة بحثية تعنى بمقاربة المشكلات والمعضلات الراهنة والمستقبلية في لبنان والعالم العربي، وفقاً لبرنامج عمل سنوي يتضمن سلسلة من الندوات وورش العمل البحثية والمؤتمرات والحلقات الدراسية المغلقة والمفتوحة.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم