الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

شوقي أبي شقرا بأعمار كثيرة!

بول شاوول
شوقي أبي شقرا بأعمار كثيرة!
شوقي أبي شقرا بأعمار كثيرة!
A+ A-

شوقي أبي شقرا في الثمانين. وعادةً ينسى الشاعر عمره لأنه أعمار. ولأنه ينسى سنوات مرّت لأنها قصائد. والقصائد أكثر من السفرات. ولا تقاس لا بالأنفاس. ولا بالأصابع. ولا بالأسماء. ولا بالنعوت. ولا بالمنازل. ولا بالمدن. ولا بالطيور. فهي الأوسع. ومتى كان للشاعر أن يُعَدّ بخطاه؟ أو بمراتبه. أو بقبائله. أو بأحواله! كأن يعد الأبدية بنهايات أو ببدايات؟ هكذا الشعر، الابدية التي لا تحاصرها مواقيت، ومواعيد، ومقاعد، وارقام، وفراسخ، وتواريخ. إنه الشعر كونه الشاعر. بل كيف يقاس الهواء بهبوبه، أو بفصوله، فهو الشعر لأنه الشاعر.


"ثمانون حولاً لا اباً لك تسأل". أي معيار؟! شوقي ابي شقراء، في الثمانين! لكن الشعر في الألف. وقبله وبعده. كمن يمشي وينبوعه الى ما بعد بحره. لا تعرف متى بدأ يكتب. لأن الكتابة هي اللازمن. ولا كيف يكتب لأن الكتابة هي السر. ولا ماذا يكتب لأن الكتابة سؤال السؤال. هكذا الصديق شوقي ابي شقرا. يكتب لأن الكتابة فعل وجود. ولا أثر وقت. حرية مشتعلة الطرفين لأنها لا تنطفئ. كتب شوقي ربما أكثر أكثر مما يعيش. وعاش اكثر مما يكتب. القصيدة بدهر. والدهر بلحظة شعرية. لا تحاصرها قوانين، ولا عهود، ولا غفلة، ولا يقظة، ولا حلم، ولا كابوس، ولا حروب، ولا صمت، ولا ظهور. ولا اختفاء. لذا شوقي شاعر الظهور لأنه شاعر الاختفاء. خارج المصطلحات والعادات، والالزامات، والالتزامات، لأنه إرث المطلق. بورثة كثيرين، وبمتاع قليل. متاعه قصائد يتأبطها كهواء بأوراقٍ من كل الالوان، والازمنة. لكنها، اوراق تعبق برائحة اجسامه (وللشاعر اجسام لا يعرفها)، وتفوح بما لا تسع الأيدي، فالأيدي صغيرة.
مذ قرأته، كأنما اكتشفت انني لم اقرأه. ذلك ان قراءته مجهول دائم. وسبل بلا علامات. كمن يبحث عن طريق في مفترقات، الاّ يجد ضالته، فتعيده وتستعيده، وتتوهه، وتجده، وتظنك وصلت، لتعرف انك لم تصل. تصل الى عمقه، وسطوحه، وكأنك في البداية. ذلك ان الشعر الكبير لا يصلك إلا الى الشعر المستحيل. ليس وصفة، او تعويذة. أو مكاناً مأهولاً. او محطة نهائية. او معنىً. أو دلالة. وكل دلالة جماعية او حتى فردية حول شعره، هي علامة نهاية. تُقلبه من جهاته، ولا تقع سوى على زئبق يفلت من يديك، ومن عينيك، ذلك ان شعره أبعد من حجم محدود، أو تورية تستريح عليها. فهو لا يريحك. يقظٌ بين أناملك شعره. ارق لا ينام. كهوف لا تستوعب. بساطة في اطلالته الاولى، فهنا بساطة مفخخة بطفولة ملعونة، او لعبة مجنونة. من "ماء الى حصان العائلة" الى كائناته الاخرى، عالم من السحر، الصافي (والشعوذة عالم من الايتام والكسالى والموتى).
يبهرك من حيث تألفه. ويمد اليك الالفة لتنفر. ويسهر عليك ليوقعك في أسراره. ويعمّك بأسراره، ليشرق شمساً عليك. يأسرك بغموضه ليلقي عليك ضوءا. شاعر الضوء، لكن الضوء الذي يعمي الحياة. ولا الملابس ولا الطاولة، ولا الانسان. ولا الانفاس. يشرقك بعتمته لكي يغمرك بسبله. وسبل شوقي اليه. بخطه. وبكيميائيته، وبلغته، وبظلاله، وبناسه، ومخيلاته. انها هويته المفتوحة، تعرفها لتكتشف غيرها. تحددها لكي تعبرك بلا حدودها. يفاجئك بأسلوبه لكي ينفي الاساليب. وهويته امامه. وأسلوبه معتركه. وخصوصيته حركة تنفي خصوصيته. لذلك، هو لا ينام على نغمة واحدة ليكتفي بها، بل لتكون النغمة وقعاً من جمهرات، وضربة من ايقاعات. الأسلوب ونقيضه، الاسم وأبعد منه، الجملة وما في جهاتها، النص وما في تباشيره. في هذا المعنى انه الشاعر الملعون المسكون ببركة اللامحدد. لم يكن له أن يركب مركباً، أو يستجلي فكرة، او شعارا تزاحم الشعر أو تدفعه الى اللاشعر. ايديولوجيته في كسر كل الايديولوجيات. محطته في تشويش كل المحطات. ناسه من رمال متحركة، تشعره، لا يهدأ. ربما هذا في البداية، لكن كمن كان يتلمس الوعر، والصعب، والتلفت، والحيرة، ويحطم التابوهات، والمفروض لهذا لا يكتب شوقي كي يسرّك. أو يستدرك اعجابك. او يرميك بتعويذة، بل لكي يقلق مسراتك وينفي اعجابا مربوطاً بخط، أو بزمن. فالشاعر الكبير ليس محط اعجاب، (والاعجاب ظرف عابر) بل أفق ألغام، وتلمظ، وتحطيم ثوابت، وتسفيه حقائق، وتفكيك وقائع، وانتهاك وقوف بلا حراك. فالمتحرك يستمد طاقته من حركته. من الشعر نفسه. بلا تفاصيل. أو تصفيق. أو تطريب. أو مواقع. أو مرابض. أو مردود. فلا تخرج من شعره وبغير "خفّي" الشعر، الشعر الذي لا يحدّد بثمن اجتماعي، أو بمواثيق قبلية، أو حزبية، منمّطة، بشعائرها، مُعمّمة بذائقاتها، مسمّنة بفوائدها. شيء غير الشعر. الشعر يقود الى الشعر: الحقيقة المجهولة، المطلق الحي، السر الجاذب، الطريدة المستحيلة.
في "ثمانين" شوقي أبي شقرا كنوز، لا تقدَّر بأثمان الحاضر، ولا الماضي، ولا اللحظة، ولا المادة، ولا المتبادل، كنوز على قدر ما هي ثمينة، تصبح أكثر وأكبر من ثمن. ومتى كان للشعر العظيم ثمن من مجتمع، أو هيئة، أو مصدر، أو جائزة، أو هبة! فالشعر فقير على قدر ما هو غني. ومتنسك على قدر ما هو نبيل، ومتوارٍ على قدر ما هو ساطع، وضروري على قدر ما هو الخميرة الاخيرة في هذا العالم القاسي.
شوقي أبي شقرا في ضنّه، وفي عزلته، وابتعاده ليغرف من مخزونه، وليكشف مغاليق الداخل، ويستفرد الكفة، كناطح صخرة، أو يثمّّرها بميزان الذهب.
شوقي أبي شقرا ثمانيني؟! فلماذا ليس ألفياً! أو طفلاً أو يافعاً، أو فتىً، منحه العمر اعماراً، اعماراً، ليس لها أن تحسب، ذلك ان شعره فوق الحسبان. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم