الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

السينما المصرية فقدت "نورها"!

السينما المصرية فقدت "نورها"!
السينما المصرية فقدت "نورها"!
A+ A-

الصورة الأكثر قُرباً من لحظة الإعلان عن موت نور الشريف، هي تلك التي تركها في بال كثر من أحبائه عندما حلّ ضيفاً على مهرجان دبي الأخير، ليقدم "بتوقيت القاهرة"، الفيلم الروائي الطويل الأول لأمير رمسيس، حيث اضطلع بدور رجل مصاب بالألزهايمر. كان الشريف قد بدأ يتضاءل وصحته تتراجع في شكل مخيف، الى أن فتك به المرض، فغادرنا عن 69 عاماً، تاركاً خلفه بضع جواهر سينمائية تقاوم النسيان والكثير من الأفلام التي سقطت من الذاكرة منذ عقود. لم يكن صراعه مع العدو الخبيث معلومة غير مؤكدة تتناقلها- جرياً للعادة - الصحافة الصفراء، بل بدا واضحاً بالنسبة إلى كثيرين، أنّ الرجل يعيش شتاءه الأخير، والوداع سيكون قاسياً في منتصف الصيف. بعد سنوات من الغياب، كان الشريف يعود إلينا، ولكنه، في الوقت عينه، يرحل.
كثر تحلَّقوا حوله، بعضهم استغلّ تناوله الفطور في مطعم الفندق المطلّ على بحيرة جميرة الصناعية لمبادلته بعض الحديث. رأيناهم يتهافتون لالتقاط الصور معه تأريخاً لفرصة لن تتكرر ربما. تودّدوا إليه وجعلوه يشعر بالطمأنينة والدفء. نصف قرن من العمل في مجال السينما، تمثيلاً وانتاجاً واخراجاً ودعماً لسينمائيين، يصنع الصداقات ويمتّن الذكريات ويرتجل العلاقات حتى بين أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر ولم يلتقوا البتة. السينما عقد حبّ يبرمه الممثل مع مجهولي الهوية، لكن عاجلاً أم آجلاً يصبحون أفراد عائلة واحدة.
مع رحيل نور الشريف، تجد السينما المصرية نفسها أمام واحد من أحلك الظروف وأسوأ الأعوام على الإطلاق. فاتن حمامة، رأفت الميهي، عمر الشريف، نبيهة لطفي، نور الشريف وآخرون، كلّ هؤلاء سقطوا في غضون أشهر، تاركين فراغاً عميقاً، غير متأكدين أي شكل ستأخذه حبيبتهم مصر بعد الرحيل. كلّ فنان من هؤلاء متفردٌ على طريقته، سواء أكان قريباً من هموم الشارع أم بعيداً منها، وسواء اقترب من الصورة التي صنعناها في المخيلة أم بقي منها على مسافة. ما جمع هذه الأضداد هو حبّ الناس غير المشروط قطّ.
قيل إنّ الموت لم يرعب نور الشريف، بقدر ما كان يخشى أن يعرقل المرض مسيرته ويجعله عاجزاً، غير منتج. اكتشف الجميع سنة تلو الأخرى، ما المكان الذي كان يحتلّه العمل في صدر رجلٍ عمل بجهد ووزّع نشاطه ما بين المسرح والسينما والتلفزيون. عبر الشاشة الصغيرة، أبدع في "لن أعيش في جلباب أبي" ودخل البيوت مع "عائلة الحاج متولي". ترعرع بلا أب، عشق كرة القدم، وكاد يتجه الى الملاعب بدلاً من بلاتوات التصوير. اتّسم بالتواضع وعُرف بالخُلق الرفيع ونبذه التكريمات، وتمسّك بالإسلام المعتدل البعيد من تخريفات رجال الدين.
لم يتوانَ، في إحدى المقابلات، عن الاعتراف بأنّ موهبة أحمد ذكي كانت تتجاوز موهبته لجهة الأهمية، هو الذي كان درّسه في معهد السينما. كما العديد من فناني جيله تتلمذ على يد الذين سبقوه وآمنوا بقدراته، فساندوه في بداياته: فريد شوقي، نادية لطفي، سعاد حسني، محمد فاضل، سعد أردش. أما عادل إمام، فعرّفه إلى حسن إمام الذي أسند اليه بطولة فيلمين: "قصر الشوق" (1967) و"بنت من البنات" (1968). كرّت السبحة، فعمل مع كمال الشيخ وأحمد بدرخان وعاطف سالم وسعيد مرزوق ونادر جلال وحسام الدين مصطفى ونيازي مصطفى ويحيى العلمي وأشرف فهمي وهنري بركات ومحمد خان.
طالما تذمّر من الفجوة الحاصلة بين جيله والأجيال التي تعاقبت من بعده، وحاول ردمها. صرّح مراراً بأنّ مسألة الإيرادات في السينما لا تشغل باله، بل إنه يخسر المال في سبيلها، وهو مستعد للعمل مقابل مبلغ رمزي في حال اقتنع بالمشروع. وقف خلف أفلام عدة، مسانداً إياها انتاجياً، مثل "ضربة شمس" أو "مدينة الانتقام". هذا العروبي الأصيل، اعتبر "ناجي العلي" (1992 ــ إخراج عاطف الطيب) عن الرسّام الكاريكاتوري الفلسطيني - من أهم أعماله، كونه بحث من خلاله عن "مفهوم الوطن والحريّة"، وفق ما قاله في حديث صحافي. أما من المسائل التي كان يندم عليها، فهي عدم توثيق المسرحيات التي شارك فيها.
ارتبط اسمه بمجموعة من السينمائيين المجدّدين، منهم عاطف الطيب الذي قدّم بإدارته أحد أشهر الأفلام المصرية في الثمانينات وأكثرها مكوثاً في الذاكرة: "سواق الأوتوبيس" (1982). وفي طبيعة الحال، لا يمكن التغاضي عن تعاونه مع يوسف شاهين في "حدوته مصرية" (1982) و"المصير" (1997). في الفيلم الأول، جعله شاهين يكرر اللقطة الواحدة 25 مرة. بين واقعية الطيب و"ذاتية" شاهين، "تورّط" الشريف بأفلام تنقّلّ عبرها من ضفة إلى أخرى. وعلى رغم موهبته الأكيدة، لم يبلغ "العالمية" ــ وفق المنظور البدائي للكلمة ــ إلا أنه ظلّ مصرياً قحّ، مستعداً أن يصرخ في وجه أعدائها عبارة "يا أولاد الكلب" الشهيرة!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم