الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مرجعية التحديث ضحية تحديث المرجعية: الشهابية نموذجاً

مروان حرب- باحث سياسي
مرجعية التحديث ضحية تحديث المرجعية: الشهابية نموذجاً
مرجعية التحديث ضحية تحديث المرجعية: الشهابية نموذجاً
A+ A-

لا تقاس خطورة الأزمة التي يمر بها اي نظام سياسي بقدر الاضطرابات التي تولدها أو التي تتولد عنها، بل بقدر العجز عن إتخاذ القرار المناسب لمواجهة الأزمة. ان الأزمة التي عرفها لبنان عام 1958 ستّولد أسلوباً جديداً للحكم غير مسبوق في تاريخ لبنان المعاصر، تمظهر هذا الاسلوب في ما عرف بـ "الشهابية". انها المدرسة السياسية التي أسسها الرئيس فؤاد شهاب بين عامي 1958 و1964 وهي المرة الأولى التي شكلت رئاسة الجمهورية مصدراً لمدرسة سياسية وطنية. ان الشهابية كمحاولة فريدة وخاصة من ناحية تحديث الدولة اللبنانية، تمثل المحاولة الأكثر واقعية والأكثر إلتزاماً.


تكمن أهمية الشهابية في أنها لربما تكون المرة الوحيدة التي اختبر خلالها النظام السياسي اللبناني من ناحية إمكانية تحديثه وقدرته على إستيعاب التغيير. هذا ما يحتم مقاربة الشهابية من جهة كونها إرادة وممارسة سياسية تهدف الى أحداث تغيير وفرق في الواقع السياسي اللبناني، وليس كإيديولوجية سياسية تحاول فرض نمط معين يستند على أجوبة جاهزة لتعقيدات وتقلبات الواقع. بالتالي، إن نقد التجربة الشهابية لا يكون بناءً الا بهدف عدم تكرار أخطائها من خلال تحليل حدودها والإنطلاق منها لبلورة مشروع سياسي تحديثي يسعى الى بناء دولة قادرة على انتاج الحداثة.


تحاكي الشهابية واقعنا السياسي والوطني الحالي من جهة أنها تظهّر وتؤكد أنه يمكن ممارسة السياسة في لبنان بشكل مختلف. أي اننا لسنا محكومين دائما بالفشل، إنما بالأمل من عدم الفشل.


اذا كانت إشكالية الثابت والمتحول كما طرحها الشاعر #أدونيس هي الإشكالية المركزية لفهم فشل العرب في مقاربة واقعهم والجزم بين ما هو ثابت ومتحول، فقد أدركت الشهابية أن الثابت هي الدولة ومؤسساتها، وهي التي تدير وتستوعب المتحول أي السياسة. فالسياسة المتحولة يجب أن تكون في خدمة بناء الثابت اي الدولة ومؤسساتها.


ان دراسة التجربة الشهابية تسمح لنا بالقول ان النظام السياسي اللبناني مبني على "توازنات الجوهرجي"، ما يجعل امكانية تحديثه دقيقة وصعبة وخطيرة في الوقت عينه. فالنظام السياسي اللبناني غير قادر على إستيعاب عملية تحديثية من شأنها أن تحدث خللاً في توازنه السلبي القائم لمصلحة دينامية تغيرية قد تهدد هذا التوازن.


كانت القضية الاجتماعية وأحوال الناس تشكل الهم الاساسي للرئيس شهاب، والالتفات الى حاجات المواطن من خلال جعل السياسة في خدمته. اذ ان اللبناني بحسب موريس الجميل "لا يولد مواطناً، بل نصنع منه مواطناً". ويقول الرئيس شهاب: "في الامكان عبر الدولة تحقيق وطن ومواطنين عوض ان نبدأ عكس ذلك" اي ان الدولة تسبق وجود الأمة. الامة ليست ثمرة نجاح مؤقت بل على العكس، انها تبني نفسها يوماً بعد يوم وفق خطة شاملة ووفق تنظيم معدّ مسبقاً. اي ان مستقبل لبنان يتعلق بالمواءمة بين مختلف العناصر التي يتشكل منها. هل يمكن لهذه المواءمة أن تتحقق في مجتمع غير عادل، ولا يعرف المساواة ويجتاحه الاغتراب والبؤس؟ كيف يمكن الطلب من سكان المناطق النائية والمتخلفة احترام القانون؟ وكيف يمكن أن يشعروا بأنهم لبنانيون ينتمون الى الدولة اذا كانت هذه الدولة لا تتبدّى بكل أشكالها في حياتهم اليومية؟


اعتقدت المدرسة الشهابية أن التنمية المتوازنة والنمو الاقتصادي واعادة توزيع الثروة الوطنية والعدالة الاجتماعية، سوف تكون كافية للمباشرة بالتحديث السياسي وبلورة وعي وطني. لكن هذا الانقلاب الديمقراطي لا يمكن ان يتحقق الا من خلال قانون انتخابي عصري يكسر احتكار "الاوليغرشية" الحاكمة التي أظهرت عداءً لمتطلبات التحديث الحقيقية.


نجحت الشهابية في استقطاب حلفاء من ثلاث فئات:


ا - الطبقة الوسطى الجديدة التي بدأت تتكون نتيجة الخطوات الاقتصادية والاجتماعية.


2 - تجمع نخبة جديدة عرفت باسم "النهجين".


3 - نخبة عسكرية وعناصر المكتب الثاني.


غير أنه لم يُتخذ اي اجراء حقيقي لادخال القوى الاجتماعية الناشئة ودمجها في النظام السياسي من اجل توليد تنمية سياسية. فالنظام السياسي اللبناني ومن جراء عطبه الخلقي كان عاجزاً عن رفع التحدي الذي كان على الديمقراطية اللبنانية ان تواجهه ،وغير مؤهل لحل مشكلات التنمية التي كانت داهمة وتمثلت بالتطور الديمغرافي وعدم التوازن الاقتصادي-الاجتماعي الخطير. لقد ظهر بالتالي ان توليد التغيير أسهل من عملية استيعابه ضمن النظام السياسي. اذ ان النظام السياسي يخلق توازنا ضروريا، لكنه مكلف بما يفرضه من شلل على صعيد اتخاذ القرار. أي ان التوازنات الطائفية هي على تناقض جوهري مع متطلبات التحديث السياسي.


اشتكت الشهابية من هذا الواقع لكنها لم تعدّله.


أما في موضوع المكتب الثاني، أي الذراع المخابراتي للجيش اللبناني، فإن النقد الرئيسي الموجه للشهابية يتمثل في الانحراف السلطوي للمكتب الثاني. عند دخول "الشهابية" الحكم اعتبر ضباط الجيش أن انتخاب قائد الجيش للمنصب الأول في الدولة شكل نصراً على المؤسسة السياسية، ومبررا للتدخل في السياسة. أما التدخل الفعلي للمكتب الثاني في الحياة السياسية فكان بعد المحاولة الإنقلابية التي قام بها #الحزب_القومي_السوري عام 1961 ولم يصبح "سلطة موازية" الا انطلاقاً من العام 1965، فلم يعد يكتفي برصد السفارات العربية والأجنبية والمعارضين للنظام، بل كان يستعد لترتيب دخوله الى المسرح السياسي. علما أن دولة كلبنان، التي تسرح وتمرح بها المخابرات الاجنبية، بحاجة ماسة الى جهاز استخباراتي قوي.


لكن، أبعد من الانحراف السلطوي للمكتب الثاني، ما هي الفرضيات التي تستطيع ان تشرح لجوء "الشهابية" الى المكتب الثاني لتدعيم السلطة. هل هي ضرورة اللجوء الى اجهزة خاصة فوق دستورية وفوق ديمقراطية من اجل تقوية السلطة؟ ام الاستعانة بالقوة العسكرية لاعتبارات اجتماعية واقتصادية؟ ام الانتهازية الشخصية؟


نرجح شخصياً الفرضية الأولى، لأن الرئيس #شهاب كان بحاجة الى دعامة بشرية تستطيع مساندة مشروعه السياسي، ترمم هيبة الدولة وتؤمن فعالية السلطة، اي ان اللجوء الى المكتب الثاني كان من اجل حل ازمة المرجعية L'autorité السلطوية المزمنة. ولأن اي حكومة كما يقول حميد فرنجية: "لا تكون قوية الا اذا جعلت من المرجعية هدفاً لها، المرجعية ضرورية للسلطة، هي ضرورية للشعب. بدون مرجعية لا حياة اجتماعية ولاحياة متحضرّة ممكنة".


هل يعني ذلك ان الشهابية كانت تحكم لبنان من خلال نظام بوليسي؟ هنا لا بد من التأكيد على ان اعضاء المكتب الثاني كانوا يحظون بغطاء كامل من قبل رجال السياسة، وعندما رفع هذا الغطاء تم محاكمتهم. العلاقة بين رجل الأمن ورجل السياسة علاقة تكاملية، أي أن رجل السياسة بحاجة الى المعلومات التي يجمعها رجل الاستخبارات لكي يتخذ على ضوئها القرار المناسب، كما أن رجل الاسخبارات بحاجة الى غطاء السياسة لكي يتمكن من القيام بعمله. وفق تصنيف موريس دوفيرجيه، يمكننا القول ان النظام الذي بنته "الشهابية" كان نظام يعمل تحت الوصاية العسكرية. يشرح دوفيرجيه: "نقصد بالأنظمة تحت الوصاية العسكرية، تلك الأنظمة التي لا يحكم الجيش فيها بنفسه ولكنه يتدخل في بعض الأوقات في السياسة بصورة حاسمة. خارج هذه الأوقات الديمقراطية تعمل، لكن بطريقة محدودة وهشة. على الرغم من ذلك لسنا أمام أحادية، فالمعارضة يمكن أن تعبر عن نفسها ضمن حدود، الانتخابات حرة نسبياً، ونتائجها تكون مقبولة اذا لم تُغضب الجيش."


الوصاية العسكرية على النظام اتت نتيجة غياب المرجعية الانتظامية والدستورية للنظام السياسي اللبناني ،غير القادر على خلق دينامية تجعله مؤهلاً لاستيعاب التغيير، أو أن يشكل اداة طيعة لآي مشروع سياسي تحديثي مشترك. بالتالي فإن حدود التحديث في لبنان تتمظهر بالعلاقة التناقضية بين وضع سياسة عامة وتطبيقها من جهة، والتنافس على أشلاء السلطة من جهة أخرى وأعطاء لكل مطلب بعداً طائفياً ما قد يهدد صيغة العيش المشترك اذا لم يتحقق.


ان كل مشروع تحديثي سياسي في لبنان سوف يصطدم بالتساؤل الجوهري الذي طرحه جورج نقاش في بداية التجربة الشهابية، وهو تساؤل يتّصف ببراغماتية استلابية: "مع اللبنانيين كما هم ومع السياسيين استحقوا ما استحقوا، معهم ومن خلالهم يجب بناء دولة لبنانية مع وعي مرير لضرورة السعي الى الغاية المنشودة عبر الرجال الذين كانوا هم انفسهم من قوّض السلطة وأورث انحطاط الحكم".


ان التحديث السياسي في #لبنان هو فعليا سجين ازمة بلا افق، لأن قرارات التحديث المرتجى هي في ايدي اولئك الذين لا مصلحة لهم في ان يدخل لبنان في الحداثة التي هي مرادف للانتحار السياسي بالنسبة لهم.


الشهابية كانت تجربة قيّمة يمكن الاستناد الى مبادئها الاساسية من جهة، والاستفادة من اخطائها من جهة اخرى لبلورة برنامج وطني تحديثي، في وقت ضاعت فيه المصلحة الوطنية وضاع هدف لبنان ببناء دولة حديثة أو كاد أن يضيع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم