الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

رشّة ملح \r\nقسطنطينية الحكمة والسلام

جواد الساعدي
A+ A-

"القسطنطينية، تلك المدينة التي جمعت أمنيات الدنيا"
(قسطنطين الرودسي، شاعر بيزنطي من القرن العاشر الميلادي)


هنا بيزنطة، النابعة من الغرب، المكللة بروح الشرق، المبثوثة فيه، هنا الوثنية، هنا المسيحية، هنا الأريوسية والنسطورية والمونوفيزية، هنا الإسلام، هنا اليهود، هنا المساجد، هنا الكنائس، هنا المآذن، هنا الأجراس، هنا الإغريق والرومان، هنا اللاتين، هنا الأرمن، هنا الفرس، هنا العرب، هنا الجرمان؛ قوط ولومبارديّون، ألمان ونورمانديّون، هنا قبائل الهُون، هنا الترك؛ سلاجقة وعثمانيون، هنا الصقالبة؛ روس وصرب وبلغار، هنا المجريون، هنا الصليبيون، هنا "متحف البشرية"، هنا أوروبا تُقبّل آسيا، هنا الشرق يعانق الغرب، هنا الدماء كادت تغيّر زرقة البحر، هنا جثثٌ لم يلتفت إليها أحد، هنا الأسوار، هنا الحصار، هنا النار الأغريقية، هنا مَدافع الفاتح، هنا أبواب الحكمة، هنا نوافذ السلام، هنا تُهزَم البشرية، أو تنتصر: "آيا صوفيا، معجزة الدهور (...) كل معضلة العالم، هنا تجد الحل" (نابي، شاعر تركي من القرن السابع عشر).


* * *


المعرفة حقائق وتأويلات
عندما تقرأ كتاباً وتتوقف عنده من دون أن تقرأ نقيضه أو ادعاءات خصومه، فإنك تحكم على وعيك بالتوقف عند حدود ما يرسمه أو ما يدّعيه طرف دون الاستماع إلى مرافعة الآخر. وعندما ترفض أو تقتنع بادعاءات فكرة أو نظرية أو شخصٍ ما، فإنك تستند بذلك إلى ما تختزنه تلافيف دماغك من معارف وتجارب. وعي الإنسان صنيعة معارفه وتجاربه، والمعرفة الانسانية مجموعة أكاذيب وحقائق وتأويلات في بحرٍ هائلٍ من الجهل وضيق الأفق. يقول عميد القصة الفرنسية القصيرة غي دو موباسان: "إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عدّاً، فكلٌّ منا يكوّن لنفسه صورة خادعة عن العالم. وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة".
عندما اشتد الجدل في القرن الثالث للهجرة حول الإمامة وشروط إنعقادها، والمواصفات التي يجب أن يكون عليها الإمام والأحوال التي يمكن فيها خلعه، أدركَتِ الخليفة العباسي المأمون الحيرة حتى دعا المفكرين إلى الكتابة والبحث في هذا الأمر، فصنّف الجاحظ (159 - 256 ه) كتاباً في الدفاع عن حقّ بني العباس في الإمامة دون بطون قريش وأحيائها، ثم صنّف كتاباً عن حقّ بني أمية في ذلك، وهو ما يناقض الأول، ثم نقض حجج العلويين ودافع عن حق أبي بكر في الخلافة، وهو ما يناقض كلا المذهبَين السالفَين، كون أبي بكر لم يكن، لا من بطن بني العباس ولا من بطن بني أمية، كما إنه لم يرثْها قَبليّاً ولم يعهد بها لأحدٍ من أبنائه، كما فعل الأمويون والعباسيون أو كما هي دعوة العلويين. على تناقضها، حظيت الكتب كلها بإعجاب الخليفة.
ولأن المعتزلة، التي كان يعتنق أفكارها الجاحظ، تردّ الدعوى القبلية وادعاءَ أَحياءٍ من قريش بحق الإمامة وترفض مبدأ الوصية نصاً وتأويلاً وتقابله بالدعوة إلى حق الأمة في الاختيار والبيعة والرقابة والعزل إذا وقع من الإمام ما يستوجب ذلك، ولا تقبل إمامة الحاكم الجائر، فإن الجاحظ، كما يرى الدكتور محمد عمارة في كتابه "المعتزلة والثورة"، أراد القول إن هذه المذاهب: "كلها باطلة، بدليل أن نصرتها جميعاً ممكنة وهدمها جميعاً ممكن".
هنا نرى كيف يمكن أن تلعب التأويلات و"الانخداعات الخاصة" دوراً كبيرا في تحديد نوافذ المعرفة، ثم يأتي دور التقديس ليحوّلها إلى دوائر تربوية مغلقة على الذات لا تسمح بالانفتاح على المختلف والاستنشاق من نوافذ معرفية جديدة، فينشأ التعصب ورفض الغير. الغير الذي يبدو أمامنا كامناً متربصاً ومستعداً للانقضاض علينا إذا لم نقضِ عليه؛ الغير الذي يمكن أن يُلغي وجودنا لمجرد أننا لا نؤمن بوجوده؛ الغير الذي يخدّش نظرتنا إلى الحياة ويهزّ قدرتنا الإيمانية بعقائدنا؛ الغير الذي يفكك خصوصيتنا ويحطّم تعالينا وغرورنا إذا اقتربنا من حدوده.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم