الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رشّة ملح - تمسّكوا بفقه الوطن

جواد الساعدي
A+ A-

اتهمت "كتلة الرافدين" المسيحية في مجلس النواب العراقي "ميليشيات" خارجة عن القانون واحزابا دينية، لم تسمها في البيان الذي أصدرته، بالاستيلاء على منازل المسيحيين وخطفهم وتهديدهم في العاصمة بغداد. كان عضو مجلس محافظة بغداد محمد الربيعي قد كشف أن 70 في المئة من بيوت المسيحيين المهاجرين والمهجّرين من بغداد "تم الاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة، وجرى تزوير ملفات هذه الدور في دوائر التسجيل العقاري". أضافت مصادر صحافية "إن الأمر يتجاوز حدود بغداد ويمتد من الموصل شمالاً، إلى البصرة جنوباً".
طيّب! في الموصل، فقه "داعش"، فَهِمْنا. أيُّ فقهٍ في بغداد والبصرة؟ أيُّ فقهٍ في بغداد التي تضيء سماءها قباب الإمام موسى الكاظم، وتتشامخ فيها مآذن الإمام أبي حنيفة؟ أيُّ فقهٍ في البصرة التي كان "قارئها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدقها أعظم الناس صدقة"؟ أيُّ فقهٍ في الكوفة والنجف وكربلاء وغيرها من البقاع "المقدسة"؟ هل علينا أن نذكّر بـ"الفقه الديكتاتوري" للنظام السابق الذي استولى على ممتلكات عراقيين، فضلاً عن أرواحهم، بسبب معارضتهم السياسية للنظام؟ أم بـفقههِ "القومي" الذي استولى على ممتلكات آخرين منهم بحجّة أصولهم الإيرانية؟
مَن أباح لكم الاستيلاء على بيوت المسيحيين، وقد مات نبيّكم - ألا يزال هو نبيّكم؟- ودرعه مرهونةٌ عند يهودي؟ من أباح لكم الاستيلاء على بيوت المواطنين، و"ما أُخذ بسيف الحياء، فهو حرام"، فكيف بالمأخوذ غصباً؟
أيها السادة، خذوا فقهكم، وخلّوا بيننا وبين فقه الوطن، بتكوينه المتعدد، وبإرثه الحضاري المتنوع، فقد لبسنا والله، شَيْب رؤوسنا، حيث بلغ الأمر بكم حدّ طمر الأنهار والاستيلاء عليها، إذ لم تَكفِكم الرشوة والفساد المالي والصفقات المشبوهة والوهمية، ولم يُشبعكم الاستيلاء على البيوت والأراضي العامة وغير ذلك. ففي محافطة ديالى، حسبما كشف تحقيقٌ صحافي، يجري "نزاعٌ قانوني" منذ سبع سنوات بين 43 من أصحاب الأراضي المزارعين وجماعة من المتنفذين تتكون من ثلاثة أفراد كانت قد استولت على نهر صغير يبلغ طوله 380 متراً وعرضه ثمانية أمتار ويتفرع من نهر ديالى. طمرته الجماعة لتُجبر في ما بعد الكثير من أصحاب الأراضي المجاورة على ترك أراضيهم بعدما فقدوا المصدر الرئيسي لريِّها، ثم أنشأت الجماعة المتنفذة وحدات سكنية على تلك الأراضي وباعتها لمواطنين آخرين. ذلك كله وسَطَ صمت السلطات الاتحادية والمحلية والقضائية وعجزها عن لجم المتنفذين. نقول لكل متغلّب: "لو دامت لغيركَ ما وصلت إليك"، ونقول للمواطن العراقي المغلوب على أمره، وخصوصاً المسيحي: هذا وطنُك، فتمسك بفقه الوطن، فقه التغلّب وسطوة المليشيات، لا محالة، زائلان.


وصايا في غير المسلمين
حديث نبوي: "ألا مَن ظلم مُعاهَداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيبِ نفسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة".
قال الخليفة أبو بكر يوصي القادة الفاتحين: "سوف تمرون بأقوامٍ قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له".
وهو على فراش الموت، بعدما طعنه أبو لؤلؤة، ترك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وصيةً لمن سيخلفه من الصحابة الستة الذين جعل الشورى فيهم، جاء فيها: "... وأوصيهِ بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وألاّ يُكلَّفوا إلاّ طاقتهم".
في كتابٍ إلى عمّاله على الخَراج، ورد في "نهج البلاغة"، كتب الإمام علي: "أَنصِفوا الناسَ من أنفسكم واصبروا لحوائجهم، ولا تُحشِموا (أي لا تُخجِلوا فتُغضِبوا) أحداً (فتمنعوه) عن حاجته، ولا تحبسوه عن طُلبته (...) ولا تَمَسُّنَّ مالَ أحدٍ من الناس مصلٍّ، ولا مُعاهَدٍ".
قبل وفاته بقليل أوصى الخليفة عبد الله المأمون أخاه المعتصم وهو يعهد إليه بالخلافة من بعده قائلاً: "يا أبا اسحق، (...) اعمل بالخلافة، إذا طوقكها الله، عمل المريد، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأنْ نزل بك الموت. ولا تغفل أمر الرعية. الرعيةَ الرعيةَ! العوّامَ العوّام! فإن المُلكَ بهم وبتعهّدك المسلمين والمنفعة لهم. اللهَ اللهَ فيهم وفي غيرهم من المسلمين!".
* * *


على الرغم من شاشة شرق المتوسط السوداء كما نراها هذه الأيام، أو الدموية الحمراء إذا أردنا، فإن أصواتاً تنطق بالحق الأبيض، لا بد من إلقاء المزيد من الضوء عليها ومتابعتها بعد الثناء عليها. العلاّمة الشيخ الدكتور عبد اللطيف الِهْمَيِّم، رئيس ديوان الوقف السنّي في العراق، أكد خلال زيارته أخيراً لمحافظة كركوك "إن المسيحيين يشكلون جزءاً أصيلاً من الثقافة العراقية والعربية، وإن خسارةَ جزءٍ منهم يشكل خسارةً للمسلمين حيث تصبح مدنهم بلا ثقافة متنوعة"، وإذ رأى أن "التعددية سنّةٌ كونية" شدد على ضرورة "الحفاظ على الأقليات كونها جزءاً أصيلاً من الشعب العراقي"، وانتقد "خطاب رجال الدين لأنّه لا يزال خطاباً مأزوماً ومترهلاً في المدارس الدينية، وهو ما يتطلب إعادة النظر به والاهتمام بالإنسان في مواجهة التكفير والتطرف وتأكيد المساواة والكرامة الإنسانية".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم