الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المتوسّط بحرٌ لحوار الحضارات أم بحيرة لغرقى الهجرة البائسة؟

طارق زيادة
المتوسّط بحرٌ لحوار الحضارات أم بحيرة لغرقى الهجرة البائسة؟
المتوسّط بحرٌ لحوار الحضارات أم بحيرة لغرقى الهجرة البائسة؟
A+ A-

تحفّزني مأساة المهاجرين على ألواحٍ من خشب ودُسُرٍ عبر المتوسّط على استعادة إدراكي لهذا البحر الذي ينبسط أمامي وأعيش على ضفّته الشرقيّة زمانًا ومكانًا؛ ولأنّ لا خرائط في البحر، تبدو أهميّة ضفّتَي الأبيض المتوسّط المتقاربتَين في هذه الهجرة المأسوية التي تؤول أحيانًا كثيرة إلى الغرق فيه بدل أن يكون تقاربهما سبيلًا إلى الحوار في بعدَيه العربي - الأوروبي عموماً، واللبناني ــ اللبناني خصوصاً.


يحفّزني أيضًا على البحث في هذا الأمر استرجاعي محاضرات المفكّر المصري المتوسّطي الفرنكوفوني رينه حبشي في "الندوة اللبنانية"، في الستينات من القرن الماضي، وهو يدافع، في عزّ اشتعال الفكر القومي العربي، بلغة فرنسيّة، ولا أصفى، عن حضارة متوسّطيّة تربط بين الضفّتين.


الحوار العربي الأوروبي
لستُ مضطرًا للحديث عن العلاقات التاريخية بين ضفّتي المتوسّط، وأمامنا في إيطاليا مَثَلُ صقلية التي تشهد للحوار بين حضارات المتوسّط، وللعلاقات التاريخية بين اليونان ومصر، من دون الرجوع أبعد إلى السلم الروماني Pax Romana وإلى النزاع بين روما وقرطاجة.
هل من غريب المصادفات، أن يكون الحديث عن ضفّتَي المتوسّط العربية والأوروبيّة بعد أكثر من خمسمئة عام على اكتشاف أميركا وسقوط الأندلس العربية، وتراجع دور خطوط التجارة في حوض المتوسط، في قلب العالَم القديم، لمصلحة خطوط التجارة بين القارة القديمة أوروبا والقارة الجديدة أميركا، هذا التراجع في المتوسّط الذي كان أحد الأسباب المهمّة لتدهور حال العالم العربي المشاطئ للمتوسّط، ومن ورائه العالم الإسلامي، إيغالًا في العمق حتى الهند وربّما الصين؟ أم هو التلاقي الحتميّ بين ضفَّتَي المتوسّط وهو يسعى إلى استعادة دورٍ فقد الكثير من أهميته بعدما انزاح محور العالَم من بين ضفَّتَي حوضه إلى ضفَّتَي الأطلسي ثمّ إلى ضفَّتَي الهادئ؟
مهما تكُن الإجابات عن هذه الأسئلة، فإن دورًا تاريخيًا ما، يجب أن يقوم بين ضفَّتَي المتوسّط في هذه الأوقات العصيبة التي يُرسَم فيها نظام دولي جديد للضفّة العربية لم تستَبن بعد خطوطه ولا يمكن التنبّؤ بها من دون الوقوع في فخاخ، طالما أنّ التطوّرات تجري بهذه السرعة حاملةً بعدًا دراماتيكيًا.
على أننا يمكن أن نقول بشيءٍ من الثقة، وعلى ضوء وقائع التاريخ، إنه إذا كان القصدُ فرض سيطرة إرادة واحدة على المتوسّط بل على العالَم، فليس من قطبٍ واحد استحوذ على قيادة العالم والسيطرة عليه. وإذا فكَّرنا فلسفيًا أو حتى متافيزيقيًا نجد أنه ليس هناك إلّا "السبب الأوَّل"، على قول الفلسفة اليونانية، وهي فلسفة متوسّطيّة، الذي هو مطلَق ولا علّة له، وليس هناك إلّا الله الواحد في إيديولوجيا الأديان السماوية. أما العالَم فهو تناقُض الواقعات وجدل الزمان والمكان التي تتولَّد عنه تعدّديّة لا أحاديّة فيها، وهذه هي الخلاصة الأولى التي أودّ الوصول إليها. وبصرف النظر عمّا شهده العالَم من تفتّت، خصوصًا في البلقان وفي الدول المتفرّعة عن الامبراطورية السوفياتية، وفي الشرق الأوسط العربي وفي غيرها من المناطق في أربعة جنبات الأرض، هناك تصدُّع للتكتلات الكبرى في أوروبا، وفي جنوب شرق آسيا وخصوصاً في تايلاند وبورما، وفي الولايات المتّحدة الأميركية. ومع رجوع العنصرية، هناك أيضًا أخطار في جنوب الجزيرة العربية وعلى شاطئ أفريقيا المقابل، فظاهرة التّفتّت رغم العولمة عادت بعد ظاهرة التكتلات: هذه هي الخلاصة الثانية التي أودّ التركيز عليها.
نأتي إلى حوض المتوسّط وفيه دول كثيرة، لكن المنظر العامّ يجعل إحدى الضّفَّتَين أوروبية متنوّعة، والثانية عربية شرق أوسطيّة.
فهل من مجال لتكتّلٍ واسع لدول الضفّتَين العربية والأوروبية يدخل من ضمن إطار الحوار العربي - الأوروبي خصوصًا؟ وهل يسمح النظام الدولي العتيد بأن يؤتي مثل هذا الحوار ثمارَه، وقد كانت آخر تجلّيات هذا النظام الدولي تكتّل "الحلفاء" في محارَبة ظاهرة "داعش"، بعدما سبقها تحالف أفعل في "عاصِفة الصحراء" ومحاولة الولايات المتحدة الظهور بمظهر القطب الوحيد المسيطر على مقدرات العالم بما فيها الثروات النفطيّة العربية، حتى لا نتكلم عن مدّ العين إلى الثروة النفطية الإيرانية.
في الناحية الإيجابية التي تعد بإمكان حصول مثل هذا التكتّل الذي لا يزال متعثّرًا نتيجة للحوار العربي - الأوروبي الذي يتخبّط رغم محاولة الاتحاد الأوروبي الدخول فيه بواسطة المساعدات، يأتي عنصر التاريخ. لكن التاريخ ليس له جبريّة حتميّة، لكنه إرادة فعل، فلا بدَّ من عنصر الإرادة لتطوير الحوار العربي - الأوروبي حتّى لا يظلّ حوار طرشان، وهذه هي الخلاصة الثالثة التي أنتهي إليها. يأتي عنصر الحوار بين الحضارات في المتوسط. لكن هذا العنصر يقوى ويضعف بحسب تيار الحياة الدافق، فإذا كان الدفق الحضاري من جانب واحد لم يعد هناك من حوار وصار إملاء وتبعيّة. والوضع الراهن للعالم العربي المشاطئ لحوض المتوسّط هو وضع تشتّت وتفكّك وحروب أهليَّة وأزمات اقتصادية واجتماعية وتنموية، وخصوصًا بعدما انهار النظام الإقليمي العربي الذي كان مرشّحًا للتحاور مع أوروبا الموحّدة، وبرزت أخطار التقسيم الجديد بعد مئة عام من نشوء دول سايكس - بيكو.
يعاني العالَم العربي من أزمة تَعارُض بين التراث والحداثة، فهو مشدود على حبل بين الماضي والحاضر، وهو يتخبّط لا يُحسن الاختيار بفعل الأزمات المصيرية التي تخضّه، وبفعل العجز والخلل في البنى، والضعف في كل نواحي الحياة ولا سيّما الاقتصادية منها، وينعكس ذلك في نكوص خطير نحو الماضي وبشكل مشوّه. يزيد الأمر خطورة أن بعض الدول العربية الأقل كثافة سكانيًا تملك دخلًا عاليًا، لكنه آخذ بالنضوب، وهو في كل حال في وضع تبعية تجاه الاقتصاد العالمي، ويصرف قسم كبير منه في ميادين لا ريع لها ومنها التسلّح، وثمَّة دول كبيرة الكثافة السكانية وفقيرة في الموارد والثروات، وتتعرض حاليًا للدمار والخراب ولعدم الاستقرار، بحيث يظهر في الصورة الشاملة عالم عربي أميَل إلى الفقر والتخلّف والعجز والتفتّت وتظهر الفجوة واسعة بين أوروبا المتقدمة والعالم العربي، وهي أوسع بكثر من المسافة الفاصلة جغرافيًا بين الضفّتين. فما العمل؟
لا ألقي على الغير، مسؤولية ما حدث للعالم العربي منذ ما يزيد على خمسمئة عام، هي قرونٌ وسطى بالنسبة إليه وليست عصر نهضة كما هي حال الغرب. فلو لم يكن بنياننا ضعيفًا، مثلما يقول المفكّر الجزائري مالك بن نبي، لما تمكّن الغرب منّا. ولكن، كما هو الأمر دائمًا ليس هناك سبب وحيد للعجز الراهن، لكن هناك أسباب كثيرة. المهم في سياق هذا البحث، التساؤل عمّا إذا كان يمكن العالم العربي الافادة من الخضّات الكبرى التي تزعزعه وتحويل مجرى الحوادث لصالح نهضة مبتغاة تؤول إلى تغيير حقيقيّ. لا يمكن ذلك إلّا إذا كان النظام الدولي أكثر عدالة، أي أكثر ديموقراطية وأكثر تعلّقًا بحقوق الإنسان وأكثر تطلّبًا للتضامن الدولي من أجل رفاه جميع البشر، وأكثر عدالة اقتصاديًا، وأكثر محافظةً على البيئة، وأكثر تفضيلًا لمصلحة البشرية العامّة على المصالح الأنانية للدول والتكتّلات. فهل وصلت البشرية إلى مثل هذا المستوى المتقدّم؟ وهل غابت عنها المصالح الذاتية والأنانية؟ وهل غابت توازنات القوى؟
إن الأوضاع الدولية الراهنة لا تبشّر حتى الآن بهذا التّحوّل. بل إنّ كلّ الدلائل لا تشير إلى ذلك، ومن حقّنا أن نكون أميَل إلى التشاؤم. لكن هذا لا يعفينا عربًا وأوروبيين من شاغلي ضفَّتَي المتوسط من أن نفتّش عن الحلول أولًا ضمن الدائرة العربية، وثانيًا على صعيد الحوار العربي - الأوروبي في هذا العالم المتوسّطي، وإن كان هذا الحوار لا يزال، كما ذكرنا، متعثّرًا، وتزيده تعثّرًا المحاولة الدائمة للولايات المتحدة الأميركية السيطرة على مقدرات العالم عامّة والعالم العربي خاصّة.
في ما يخصّنا نحن اللبنانيين والعرب هناك مسؤوليات كبيرة ناجمة عن مشكلات خطيرة ليس أقلّها الأزمة اللبنانية الراهنة الناجمة خصوصاً عن الشغور الرئاسي، والمسألة الفلسطينية والخلافات العربية والنزاعات الأهلية الدموية والخراب الحاصل ومحاولة الجهات المتطرّفة فرض إرادتها وسيطرتها، والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية الناجمة عن ذلك، والفشل في مجابهتها، والوقوع في أسر الصراع الداخلي بين الأصولية الصاعدة والفئات الحاكمة حاليًا، التي لم تعد متحكّمة بمجرى الأمور، ولا سبيل لنا إلا اعتماد الواقعيّة والعقلانية للتفتيش عن الحلول. ولكن يبدو أن العالم العربي في صورته الحاليّة أميل إلى التفكّك، تجيش فيه تحوّلات جسام خطيرة، وهو مقبل على استحقاقات كبرى قد لا تكون في المديين القصير والمتوسّط في صالحه، في انتظار تحوّلات المدى البعيد المتوقّفة على وعي العرب.
إنّ الخوفَ المشروع حاليًا ناتج من أن ميزان القوى ليس في مصلحة العرب وعليهم أن يبذلوا الجهد الكبير للوصول إلى حدٍّ أدنى من التضامن، وهذا التضامن إن حصل يكون مفيدًا لهم وللمتوسّط والعالم.
إنّ النظام الدّولي الجديد، الذي بدأ قبل الألفية بعقد واحد، لم يعد يستحقّ اسمه ولن يكون عادلاً إذا لم يعد لبنان مساحة لحوار حضاري صحيح بعد استعادة زخمه من جديد بانتخاب رئيسه أولاً، وعودة وحدة بنيه، وأيضًا إذا لم يُقِم الشعب الفلسطيني دولته، وإذا لم تسترجع سوريا والعراق وحدتَيهما واستقراريهما في ظلّ أوضاع ديموقراطية مناسبة، وإذا لم تعد مصر إلى لعب دورها التاريخي في المنطقة العربية، بالإضافة إلى هدوء الأحوال في الشمال الإفريقي والبدء بإقامة أنظمة ديموقراطية أقرب ما تكون إلى المثل التونسي مع الإقرار بالصعاب.
فهل لنا أن نطمح إلى مثل هذه الصورة السعيدة، وإلى مثل هذا الجانب المتفائل، وصور المآسي السوداء المفجعة تتتالى حاليًا على الشاطئ العربي للمتوسط من جنوب تركيا حتى أقصى شواطئ المغرب الكبير؟ أم بين الواقع والمثال بونٌ شاسع؟ وهل تستطيع أوروبا المأزومة حاليًا في اليونان وأوكرانيا، التي يقوى فيها اليمين المتعصّب، أن تعيننا على ذلك تمهيدًا لحوارٍ مُنتج يعيد ما انقطع من حوار الحضارات في المتوسط؟


البعد الثاني: التحدّي اللبناني
أُشير ختامًا إلى حوارٍ من نوعٍ آخر هو الحوار الإسلاميّ - المسيحيّ في لبنان، الذي هو في تعبير أحد كتّابنا السياسيين البارزين، الذين فقدناهم، غسّان تويني في كتابه
(Conférences 1991-1981)، ليس عملاً أكاديميًا، لكنه غنى متبادل يتيح للّبنانيين أن يعملوا بواسطة الإسلام والمسيحية وبالتأثير فيهما لاستحقاق الحوار وجعله مقبولاً من الذين يرفضونه. إذ في مقابل هذا الرفض، يسيطر انفتاح الفكر بل انفتاح القلب. وهذا هو التحدّي اللبناني إذا نظرنا إلى الوضع اللبناني المأزوم حاليًا، من هذا المنظار، ولا يعود من بديل للحوار، لأنها حرب الانتصارات المستحيلة للذين يخوضونها، إذ إنّ المجابهة انتحار. بهذه الروحية، يدعو اللبنانيون الواعون، الغرب، الذي يريد أو يعتقد أنه مسيحي أن ينظر إلى ما أبعد من "الإرهاب"، وأن ينفتح على العرب والمسلمين الذين يعيشون أزمتهم الصعبة في الطريق إلى الحداثة، وإلا فإن الضرر العميم لن يصيب ضفّةً دون أخرى من هذا المتوسّط، بل وعلى العكس، إذ يجب المساعدة على تجاوز الأخطار الراهنة المحدقة.
وإذا كان العالم يعتقد أنّ في الإمكان انتظار حصول التحوّل من دون خطر، فإنّ على اللبنانيين من أجل سلامهم وسلام العالم، أن يعملوا ليل نهار من أجل ذلك التطوّر بتوجيه المجتمع اللبناني، بكلّ عناصره، في اتجاه الانسجام والتقدم، بدل الإغراق في اصطناع الخلافات المدمّرة التي قد تشكّل، إذا استمرّت، خطرًا على وحدتهم وعلى مستقبلهم.
يشكّل لبنان نقطة تلاقٍ فريدة بين الإسلام والمسيحية، ومركزًا جغرافيًا للحوار المحسوس، وهو من أجل أن يعيش، عليه أن يبدع نظاماً ديموقراطيًا يجسّد الوحدة في التنوّع، حيث لا يكون تمثيل الطوائف متعارضًا مع مساواة المواطنين في الحقوق. بالنسبة إلى عموم المثقّفين والمفكّرين اللبنانيين، فإن الديموقراطية هي النظام الوحيد الذي يؤمّن الشروط الموضوعية للحوار ونجاحه، ومن هنا تعلّق اللبنانيين بالحقوق والحريات الأساسية.
في هذا الحوار الحرّ والديموقراطي، في حوار الحضارات هذا، نجد مبرّر وجود لبنان الواحد الموحَّد، وهنا أطرح السؤال عن معنى "اللبننة"؟
يتحدّثون في الخارج عن "اللبننة" على شاكلة "البلقنة"، كعنوان للحروب الداخلية وحروب القتال بين الإخوة والتشرذم والتفكّك والدّماء، أما "اللبننة" بالنسبة لنا فتعني الحوار والوحدة الوطنية وإعادة البناء والانفتاح على الحضارات والثقافات. وهذا ما يفترض أن يعمل له اللبنانيون، مسلمون ومسيحيون، من أجل استعادة هذا الدور ومقدراته في بسط سيادة لبنان على أرضه ومائه ونفطه وعدم الإخلال بتوازنه السكاني.
هل نكون بذلك بعيدين عن معنى المتوسط كبحر لحوار الحضارات؟ أم نقبل باستمراره بحيرة لغرقى الهجرة البائسة أو تالياً ميدانًا للنزاعات والنزعات القاتلة؟


*نائب رئيس المجلس الدستوري

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم