الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

النمرود

محمود الزيباوي
النمرود
النمرود
A+ A-

تحفل كتب التراث بالحديث عن النمرود، وهو ملك من ملوك سالف الزمان تتقاطع سيرته مع سيرة النبي إبرهيم خليل الله. بحسب الرواية الشائعة، نشأ الخليل بين أهل أوثان، غير أن الله أنار بصيرته، فعرف أن هذه الأصنام لا تسمع ولا تنطق، وأن قومه "في ضلال مبين"، فدخل في مواجهة مع أبيه ومع الجمهور ومع ملكهم النمرود، إلى أن عزموا على إلقائه في النار لإحراقه حيّاً، فنجّاه الله منها، وجعلها "برداً وسلاماً" عليه. أكمل النبي مسيرته، وهلك النمرود الذي ادّعى الربوبية، وقضى ببعوضة دخلت أنفه، "فمكث أربع مئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وكان جبّارا أربع مئة عام، فعذّبه الله أربع مئة سنة كملكه، وأماته الله".


في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، ذكر الإدريسي بابل، وكتب في وصفها: "قرية بابل هذه قرية صغيرة، وكانت قبل مدينة كبيرة وهي أقدم أبنية العراق في زمن الكنعانيين وسكنوها وتداول ملوكهم عمارتها، وبها بقايا بنيان وآثار قائمة تخبر أنها كانت في ما مرّ من الأزمان مصراً عظيماً، ويروى في بعض التواريخ أن الضحّاك أول من بناها وسكنها التبابعة ودخلها إبرهيم عليه السلام. وإلى جانبها شرقاً مدينة كوثاربا وهي مدينة صغيرة يقال إنه بها طرح إبرهيم عليه السلام في النار، وكوثاربا مدينتان إحداهما تعرف بكوثا الطريق والأخرى كوثاربا، تلال من رماد عالية قد لزق بعضه ببعض، ويقال إنه رماد نار النمرود بن كنعان التي طرح فيها إبرهيم عليه السلام".
جمع المؤرخون المسلمون ما وصلهم من أخبار بابل القديمة، واختصر الحميري هذه الروايات في "الروض المعطار في خبر الأقطار"، وقال في تعريفه بهذه المدينة الكبيرة التي تحولت إلى مدينة صغيرة: "يقال إن نمرود أسسها، وهي مدينة ضاحكة المنظر، جميلة المنصب، زاهرة البناء، واسعة الفناء، قد جمعت إلى حسن المنظر من كل جانب رصانة البنيان وبهاء المنصب، وكانت سهلة بطحاء ديمومة فيحاء مربعة لها في كل تربيع حصنان عظيمان، وسائر ذلك من سورها لا يكاد من يبلغه خبره يصدق بصفته لكثرة ارتفاعه وفرط اتقانه، وكان خمسين ذراعاً عرضاً في ارتفاع مائتي ذراع في دور أربعة وستين ميلاً، مبنياً بالآجر المرصص، وقد خندق حولها بخندق يجري فيه الفرات وفيه مائة باب من نحاس، وسعة السور في أعلاه كسعته في أسفله، وقد بني في أعلاه مساكن للمقاتلة، والجوابي متصلة في جميع دوره. قالوا: وبابل أقدم بناء بني بعد الطوفان، وأن منها تفرّق ولد نوح عليه السلام، وأن الذي هدمها كسرى الأول ملك الفرس لما تغلب على أرض بابل، وملوك بابل هم النبط، وزعموا أنهم أول ملوك العالم وأن الفرس أخذت الملك منهم، كما أخذته الروم من اليونانيين، وأول ملوكهم نمرود، وهم الذين شيّدوا البنيان، ومدّنوا المدن، وكوّروا الكور، وشقّوا الأنهار، ورتّبوا الجيوش وجعلوا الألوية والأعلام".


الملك الجبار
تتقاطع سيرة النمرود مؤسس بابل مع سيرة النبي ابرهيم. في العصر العباسي الذهبي، روى اليعقوبي في تاريخه: "نشأ إبرهيم في زمان نمرود الجبّار، فلما خرج من المغارة التي كان فيها قلب طرفه في السماء، فنظر إلى الزهرة، فرأى كوكباً مضيئاً، فقال: هذا ربّي، فإن له علواً وارتفاعاً، ثم غاب الكوكب، فقال: إن ربّي لا يغيب. ثم رأى القمر لما طلع، فقال: هذا ربّي، فلم يلبث أن غاب القمر، فقال: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين. فلما جاء النهار طلعت الشمس، فقال: هذا ربّي، هذا أنور وأضوأ، فلما غابت الشمس قال: غابت، وربّي لا يغيب، كما قصّ الله خبره وأمره. فلما كملت سنة جعل يعجب إذ رأى قومه يعبدون الأصنام، ويقول: أتعبدون ما تنحتون؟ فيقولون: أبوك علّمنا هذا. فيقول: إن أبي لمن الضالّين. فظهر قوله في قومه، وتحدث الناس به، وأرسله الله نبياً، وبعث إليه جبريل، فعلّمه دينه، فجعل يقول لقومه: إني بريء مما تشركون. وبلغ خبره نمرود فأرسل إليه فيها، ثم جعل إبرهيم يكسر أصنامهم، فيقول: ادفعي عن نفسك، فألهب نمرود ناراً ووضعه في منجنيق ورمى به فيها، فأوحى الله إليها: أن كوني برداً وسلاماً على إبرهيم، فجلس وسط النار ما تضرّه، فقال نمرود: من اتخذ إلهاً، فليتخذه مثل إله إبرهيم، فآمن معه لوط، وكان لوط ابن أخيه خاران بن تارخ. وأمر الله، عزّ وجلّ إبرهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشام الأرض المقدسة، فخرج إبرهيم وامرأته سارة بنت خاران بن ناحور عمه، ولوط بن خاران، مهاجرين حيث أمرهم الله، فنزلوا أرض فلسطين، وكثر ماله ومال لوط".
دخل في مواجهة مع أبيه ومع قومه ومع ملكهم النمرود، ولما عجزوا عن الردّ على حججه أوقدوا النار وألقوه فيها لإحراقه حياً، فنجّاه الله منها، وجعلها "برداً وسلاماً" عليه. ذُكرت هذه الواقعة بشكل مختزل للغاية مرةً في سورة الأنبياء، ومرةً في سورة الصافات، ومرةً في سورة العنكبوت، وتحولت في كتب التفسير والتاريخ إلى قصة مطولة مليئة بالتفاصيل.
نقرأ في سورة الأنبياء: "قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين" (68-70). في سورة الصافات: "قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين" (97-98).
وفي سورة العنكبوت: "فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" (24). ينقل الطبري في تفسيره قصة مطولة اختصرها ابن كثير في "البداية والنهاية". تقول هذه القصة إنّ القوم أخذوا إبرهيم وسجنوه في بيت، ثم قاموا جميعا بجمع الحطب، "حتى أن المرآة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبرهيم". "ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة (أي حفرة)، فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط، ثم وضعوا إبرهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن، وكان أول من صنع المجانيق، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم أخذوا يقيّدونه ويكتّفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك". وُضع الخليل في كفة المنجنيق "مقيداً مكتوفاً"، ثمّ أُلقي إلى النار، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقيل إن جبريل "كان معه يمسح العرق عن وجهه"، ولم يصبه من النار شيء آخر. وقيل: "ما أحرقت النار من إبرهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به". وقيل إنه كان "في روضة خضراء"، من حولها النار، "والناس ينظرون إليه، لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم". وذُكر أنه "مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً، وأنه قال: ما كنت أياما وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها".
ألقي إبرهيم في "الجحيم"، "والجحيم عند العرب، جمر النار بعضُه على بعض، والنار على النار"، كما قال الطبري. رفع الخليل رأسه إلى السماء، "فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا، إبرهيم يُحرق. فقال: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه. وقال إبرهيم حين رفع رأسه إلى السماء: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل". وهتف الهاتف: "يا نار كوني برداً وسلاماً على إبرهيم"، "فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها". شهد النمرود مشدوهاً هذه الواقعة أم العين مع رجاله، وخرج خصمه منتصراً. "أرادوا أن ينتصروا فخُذلوا"، يقول ابن كثير، "وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغُلبوا". هجر إبرهيم قومه، "وقال إني مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم" (العنكبوت، 26)، ومعناه: "إني مهاجر دار قومي إلى ربّي، إلـى الشام".
لا يذكر القرآن ما آل إليه الملك الذي ادعى لنفسه الربوبية، لكن كتب التفسير تروي نهايته الرهيبة. في قصة ذكرها الطبري، بعث الله إلى الجبّار ملاكاً يقول له: "آمن بي وأتركك على ملكك"، فردّ قائلا: "وهل ربّ غيري؟". "فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه". وقال له الملاك: اجمع جموعك. فجمع الجبّار جموعه، ففتح الملاك عليها باباً من البعوض، "فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربع مئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربع مئة عام، فعذبه الله أربع مئة سنة كملكه، وأماته الله. وهو الذي بنى صرحاً إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد".
تستعيد هذه الرواية الآية السادسة والعشرين من سورة النحل: "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون". تفسيرها في "فتح القدير": "ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهبّ الله الريح، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا".
ملك النمرود بلاد الأهواز وفارس والعراق، جبّر في الأرض، وادّعى الربوبية، وأمر قومه بالسجود له، فأذله الله، وأسقط الصرح الذي بناه عليه وعلى قومه.


الموقع الاثري
لم يرد إسم النمرود في النص القرآني، غير أنه بقي ثابتاً في الذاكرة الإسلامية في الماضي والحاضر. نقل الطبري في تفسيره حديثاً نبوياً يقول: "ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر، مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين، بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم".
ونقل السيوطي في "الحاوي": "ملك الأرض أربعة، مؤمنان وكافران، فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان، والكافران نمرود وبخت نصر، وسيملكها خامس من أهل بيتي". في زمننا الحاضر، بات نمرود اسماً لمدينة تُعدّ درّة الحضارة الآشورية وموطناً لكنز من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين. تُعتبر هذه المدينة من أبرز المواقع الأثرية في العراق، وهي ضمن المواقع المرشحة للاندراج على لائحة الأونيسكو للتراث العالمي.
تعرضت مدينة نمرود للنهب إبان الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003، وخربت أخيرا على أيدي تنظيم "داعش". وصفت منظمة الأونيسكو تدمير المدينة الأثرية بأنه "عمل جنوني" ونددت بإرادة "محو تاريخ الشعب العراقي".
وقالت المديرة العامة لمنظمة التربية والعلوم والثقافة ايرينا بوكوفا: "أدين هذا العمل الجنوني المدمر الذي يسجل تصعيدا جديدا في الوحشية". وأضافت: "هذا يثبت أن الارهابيين لا يكتفون بتدمير المنحوتات والزخارف والتماثيل الموجودة في المدينة، بل أيضا الموقع الأثري بأكمله وجدرانه باستخدام مطرقات ومتفجرات ليمحوا بشكل ممنهج أي أثر لتاريخ الشعب العراقي".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم