الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

درس في المسيحية الشرقية

الأب جورج مسّوح
درس في المسيحية الشرقية
درس في المسيحية الشرقية
A+ A-

لمناسبة عيد مار إلياس (20 تمّوز) انتشرت الأسبوع الفائت على مواقع التواصل الاجتماعيّ صور القدّيس حاملاً سيفًا يقطر دمًا، ذابحًا به وباترًا رؤوس كهنة البعل الوثنيّين. السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًّا هو لماذا يهمل المسيحيّون نشر صور مار إلياس الأكثر انسجامًا مع التراث المسيحيّ، ولا سيّما مع الصليب، لصالح صور تُبرز مار إلياس كأنّه عضو في إحدى المنظمّات الإرهابيّة يذبح أعداءه بوحشيّة نافرة؟


أثناء الحروب المتعدّدة الاسم التي وقعت على أرض لبنان منذ العام 1975 ولـمّا تنتهِ بعد، تكاثرت المزارات المسيحيّة على الطرق وفي الأحياء الداخليّة. كان اللافت حينها تماثيل لمار إلياس تصوّره حاملاً سيفًا يذبح به الكهنة الوثنيّين. هذه المقالة ستحاول مقاربة هذا الموضوع من منظار تداخل العوامل الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في خدمة الدعاية لأهداف شتّى معظمها مخالف لكلّ ما تمثّله شخصيّة يسوع المسيح.
انتشار تماثيل مار إلياس وأيقوناته، مع السيف، عمره ليس من عمر الحروب اللبنانيّة. بل يعود إلى أزمان بعيدة، ولا سيّما أثناء الأخطار التي كانت تهدّد المسيحيّين في وجودهم وبقائهم. وكان لهذا الانتشار إبّان الحروب في لبنان وظائف عدّة، منها حاجة الميليشيات المسيحيّة إلى تبريرات شرعيّة من التراث المسيحيّ لما كانت تقوم به من أفعال. وجدت هذه الميليشيات أنّ المسيح وصليبه لا ينفعانها في دعايتها للقتال، فوجدت في سيف مار إلياس سندًا شرعيًّا في حروبها الداخليّة مع المسلمين، لبنانيّين وغير لبنانيّين، ووجدت في ذبح مار إلياس كهنةَ البعل ما تبرّر به ذبحها لأعدائها.
حلّ السيف مكان الصليب، وإن بقي الصليب هو الشعار. أمّا سائر الناس الخائفين على مصيرهم، فوجدوا في كلّ رجل من رجال الميليشيات مار إلياس آخر أرسله الله كي يدافع عنهم في وجه الأعداء الذين يريدون القضاء على وجودهم وعلى دينهم. بلغ الأمر بالناس حدّ اعتقادهم أنّ لغة الصليب لا تنفع في أزمنة الحرب. ما ينفعهم هو سيف مار إلياس وشجاعته.
بيد أنّ ما يتغافل عنه المسيحيّون، هو أنّ مار إلياس اكتشف بعدما أعمل السيف في رقاب الكهنة الوثنيّين أنّ الله لا يحبّ العنف. "فقال (ملاك الربّ لإلياس) اخرجْ وقفْ على الجبل أمام الربّ. فإذا الربّ عابر وريح عظيمة وشديدة تصدّع الجبال وتحطّم الصخور أمام الربّ، ولم يكن الربّ في الريح. وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الربّ في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار، ولم يكن الربّ في النار. وبعد النار صوت نسيم لطيف" (سفر الملوك الأوّل 19، 11-12). هذه الرؤية شاء الله أن يُظهرها لإلياس كي يريه أنّه ليس عنيفًا، بل لطيفٌ كالنسيم العليل. قبل هذه الرؤية يقول إلياس: "غيرةً غرتُ للربّ إله الجنود، لأنّ بني إسرائيل قد نبذوا عهدك، وقوّضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي، وقد طلبوا نفسي ليأخذوها".
من هنا، تفضّل الكنيسة الأرثوذكسيّة أن تصوّر إلياس في أيقوناتها الأصيلة جالسًا في الصحراء، منتظرًا الغربان آتيةً إليه بالطعام من لدن الله. غير أنّ الناس يفضّلون إلياس حاملاً السيف الذي يقطر دمًا وباترًا رؤوس كهنة البعل. يفضّلون الله العنيف وإلياس القاتل على إلياس التائب. يسعنا هنا القول إنّ الناس، على المستوى الذاتيّ، يريدون أن يكون الله وقدّيسوه على مستوى شهواتهم وأحقادهم، لذلك يتغافلون عن الصفات الحسنة التي تَزَيّن بها القدّيسون، ويبرزون بعض نقائصهم التي تراجعوا عنها بعدما كشف الله لهم ذاته ومحبّته للبشر.
هذا الأمر لا يقتصر على النبيّ إيليّا وحده، بل يتعدّاه إلى سواه من القدّيسين. فالقدّيس جاورجيوس، قائد الجند الذي تخلّى عن سلاحه من أجل أن يشهد للمسيح وكنيسته بدمه وحياته، لا يراه المؤمنون بسوى صورة الجندي المحارب الذي يذود عنهم بالرمح والترس. ففي إبّان الغزو المغوليّ، انتشرت أيقونة للقدّيس جاورجيوس في بلاد العراق تمثّله ممتطيًا حصانه وقاتلاً برمحه جنديًا مغوليًا عوضًا من التنّين، رمز الشرّ، كما في أيقونته التقليديّة.
عوض أن يرتقي المؤمنون إلى مثال القدّيسين، نراهم يجعلون القدّيسين على مثالهم. فجاورجيوس يساند مسيحيّي العراق ضدّ المغول، والقدّيس ديمتريوس يقاتل في صفوف اليونانيّين ضد الأتراك العثمانيّين... فيما نرى إلياس يذهب إلى أرملة من "صرفت صيدا" ليساعدها، علمًا أنّ أرامل كثيرات كنّ في قومه إسرائيل. إلياس تجاوز الحدود الجغرافيّة، فالله ليس حكرًا على قوم من دون قوم. الله لا يقاتل قومًا، دفاعًا عن قوم آخر، أو أهل ديانة دفاعًا عن أهل ديانة أخرى. الله وقدّيسوه وأبراره ليسوا عنصريّين ولا طائفيّين ولا مذهبيّين. الله أكبر من كلّ هويّة يحاول البشر أن يحصروه فيها. أمّا معظمهم فيريدون تصويره مع السيف فقط.
صحيح أنّ الكتاب المقدّس يؤكّد أنّ الله وحده هو القدّوس، لكنّه يدعو كلّ إنسان إلى بلوغ القداسة في حياته: "بل على مثال القدّوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قدّيسين في تصرّفكم كلّه، فإنّه كُتب كونوا قدّيسين فإنّي أنا قدّوس" (رسالة القدّيس بطرس الأولى 1، 15-16). بطرس نفسه يذهب أبعد من ذلك حين يدعو المؤمنين إلى أن "يصيروا شركاء في الطبيعة الإلهيّة" (رسالة بطرس الثانية 1، 4). مشاركة الإنسان في الطبيعة الإلهيّة لم تكن متاحةً قبل أن يتجسّد كلمة الله ويصبح إنسانًا؛ فبفضل يسوع المسيح الإله المتأنّس صار في إمكان الإنسان، وفق التراث الآبائيّ، أن يصبح بالنعمة إلهًا، كما صار الكلمة الإله الأزليّ بالحقيقة إنسانًا.
إذا نُسبت القداسة إلى البشر فهذا لا يعني أنّهم كانوا معصومين عن الخطيئة أو منزّهين من الخطأ، بل هي تُنسب إليهم لأنّهم قد أدركوا أنّهم خطأة فسعوا بكلّ قدرتهم وقوّتهم إلى التوبة. القدّيس ليس سوى ذاك الذي أقرّ بخطاياه وقرّر الابتعاد عنها وسلك طريق التوبة وتقدّم فيها. لذلك توجّه الرسول بولس في رسائله إلى عموم المؤمنين الأحياء مسمّيًا إيّاهم بالقدّيسين على سبيل الرجاء. القداسة هي الجهاد اليوميّ الدائم، على الرغم من السقطات الكثيرة، في سبيل عيش الخيرات الآتية في عالمنا الحاضر.
من هنا، تدرك الكنيسة أنّ القداسة ليست أمرًا استثنائيًّا أو طارئًا، وليست حدثًا يفوق الطبيعة، بل هي دعوة مفتوحة لكلّ البشر. والقدّيسون هم الدليل الساطع على قدرة كلّ إنسان، مهما ارتكب من خطايا وآثام، أن يصبح قدّيسًا بمؤازرة نعمة الله. فسلسلة القدّيسين تضمّ الزناة واللصوص والقتلة وسواهم من مرتكبي الكبائر، غير أنّ توبتهم كانت عظيمة إلى حدّ محو كلّ ما اقترفوه آنفًا. القدّيسون، إذًا، هم نماذج حيّة تجعل المؤمنين لا ييأسون من رحمة الله، وقادرون أيضاً على مثال مَن سبقوهم أن يصبحوا قدّيسين. أمّا الانتفاع من سير القدّيسين فيكون باتّخاذهم قدوة في سبيل بلوغ ما بلغه هؤلاء.
بعضهم لم يكتفِ بتوظيف مار إلياس في مشروعه السياسيّ أو العسكريّ، بل ذهب إلى استعمال صورة مريم، والدة الإله في التراث المسيحيّ، مريم الطاهرة، النقية، رمز السلام والوداعة والرحمة... ووظّفها في حربه وانتقامه من الأعداء. فالأب توم سيكينغ أدرج شهادة أحد المواطنين اللبنانيّين في دراسته النقديّة، "الزرع الطيّب والزؤان في بعض الممارسات الدينيّة الشعبيّة في لبنان" (في كتاب "ما هو إلهك؟"، منشورات جامعة القدّيس يوسف، بيروت، 1994). مفاد هذه الرواية أنّ أحد المؤمنين، "وكان شديد التعبّد للعذراء. وقد حدث أثناء الحرب (1975-1976) أن قتل بعض الفلسطينيّين أخاه في طرابلس، فنوى الانتقام لأخيه وطلب مساعدة سيّدة الحصن لإتمام قصده، وذهب لزيارتها في إهدن وقدّم لها مبلغًا من المال، وفي اليوم التالي قفل راجعًا. وقد استطاع على إثر هذه الزيارة أن يتحقّق من هويّة قتلة أخيه الأربعة، فقتلهم كلّهم وعاد من حيث أتى سالمـًا معافًى". يؤكّد الراوي أنّ "العذراء هي التي ساعدته على ما قام به، فهي تحبّ أهل هذه المنطقة بوجه خاصّ.
نعم، ثمّة إغواء شديد لدى الناس يقودهم إلى السعي لاحتكار الله والقدّيسين ومصادرتهم، بل لتوظيفهم في سبيل تحقيق مآربهم وأحلامهم وبلوغ شهواتهم وأمانيّهم. وما الرواية أعلاه سوى نموذج عن روايات شعبيّة كثيرة تشوّه السيرة النقية والسلوك المثاليّ للقدّيسين. فمريم، البارّة الوديعة، لا يمكن أن تصبح ابنة الطائفة أو ابنة المنطقة أو القبيلة أو العائلة، وأن ترشد ساعيًا إلى الانتقام إلى قتلة أخيه، فتصبح شريكة في الجريمة!
لقد أصاب هذا الإغواء الجميع. ليس ثمّة مَن هو أفضل من الآخرين! الجميع سقط في غواية احتكار الله والقدّيسين والأبرار. الأحزاب والتيّارات المسيحيّة والإسلاميّة، على اختلاف مذاهبها، باتت تجاهر أنّ "الله معنا"، و"الله لنا"، و"الله في خدمتنا"... ما عاد الله إله أحد، بات خادمًا لأهواء خلقه!
لذلك، يخطئ مَن يظنّ أنّ ثمّة فرقًا منهجيًّا أو ذهنيًّا بين حزبين طائفيّين أو مذهبيّين ينتسبان إلى ديانتين مختلفتين. ليس ثمّة فرق بنيويّ بين مسلم ينتمي إلى حزب مذهبيّ وبين مسيحيّ ينتمي إلى حزب طائفيّ. فكلاهما يستنجد برموزه الإيمانيّة وبتاريخه الدينيّ في سبيل تثبيت مريديه وإغواء المزيد من أبناء الطائفة أو المذهب للانضمام إليه. لا أحد منهما يرتدع عن استعمال الدين وأبهى ما فيه من أجل الدعاية، ولا سيّما في أوان الانتخابات واستجداء أصوات الناخبين.
أن يستعمل حزبٌ طائفيّ أسماء مؤسّسيه وكبار سياسييه ومنظّريه في الدعاية لنفسه، فهذا أمر طبيعيّ. لكنّ استعمال أسماء الله الحسنى وصور السيّد المسيح وأمّه مريم وتماثيل القدّيسين وأيقوناتهم في الدعاية الحزبيّة فلا يسعنا اعتباره إلاّ تعدّيًا على رموز جامعة لا تنتمي إلى فئة دون أخرى. فالمسيح أكبر من أن تحضر صورته على دعاية حزبيّة، وأكبر من أن يتساوى ورجال سياسة وفكر مهما جلّ شأنهم في نظر محازبيهم. ومريم هذه المرأة الناصعة العفيفة أعظم من أن يقحمها حزب في دنس هذا العالم، هي التي اختارت أن تبقى بتولاً منقطعة عن كلّ ما يمكن أن يلطّخ نقاء روحها.
لقد قلنا منذ شهر، ونكرّر الآن ما قلناه معتذرين، إنّنا، نحن الساعين إلى فصل حقيقيّ ما بين الدين والدولة، ما بين الدين والسياسة، قد أزعجنا منظر اقتحام الجموع لمجلس النواب حاملين تمثال القدّيسة مريم. ثمّة إصرار لدى بعضهم على إبقاء النظام الطائفيّ البغيض الذي لم يجرّ سوى الويلات على رؤوسنا منذ قرنين على الأقلّ. وما الاعتداء الذي تمّ على مجلس النواب سوى إشارة واضحة إلى أنّنا نوغل أكثر فأكثر في الخيار الطائفيّ عوض أن نسعى إلى القضاء عليه سريعًا.
نعم، زاد إحباطنا، نحن الساعين إلى الدولة المدنيّة، دولة المواطنة والقانون، حين شاهدنا الجموع تصلّي من أجل انتخاب رئيس للجمهوريّة، عوض أن تطالب، بالوسائل الشرعيّة المتاحة وبالتظاهرات الوطنيّة وبالإضرابات، بتأمين الكهرباء والماء والطبابة المجّانيّة والتعليم المجّانيّ والضمان الصحّيّ وضمان الشيخوخة... ثمّ هل كانت الجموع المسيحيّة، مثلاً، لتصلّي مع مريم من أجل تعيين رئيس (سنّيّ) لمجلس الوزراء لو كان ثمّة رئيس للجمهوريّة (مارونيّ) في موقعه وكانت المشكلة في اختيار رئيس للوزراء؟
لا ريب في أنّ عالمنا الراهن يسوده تنامٍ مَرضيّ للتطرّف الدينيّ، وليس ثمّة ديانة تخلو من المتطرّفين. فالوباء مُعدٍ، والتطرّف ينادي التطرّف ويسكب على ناره زيتًا على زيت. وهذا التطرّف له وجهان: وجه عنفيّ تمارسه بعض الجماعات ضدّ كلّ مَن يخالفها في الدين أو المذهب، ووجه سلميّ يقتصر على التمسّك بظاهر الشرائع والقوانين والطقوس والشعائر مع إهمال جليّ لروحها وجوهرها.
نشهد، إذًا، في ظلّ ما يجري في بلادنا من حوادث وتطوّرات، هيمنة للتيّارات المتشدّدة على المساحات الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. أمّا ما ينجم عن ذلك فقلقٌ لدى مَن لا حول لهم ولا قوّة، وخوف على المستقبل وعلى المصير. هذا يؤدّي لدى هؤلاء إلى التقوقع على الذات، والانعزال عن قضايا المجتمع والناس، والانكفاء عن المشاركة الوطنيّة والسياسيّة، والانضواء الحصريّ تحت سقف الهويّة الدينيّة أو الطائفيّة.
المسيحيّون العرب ليسوا في منأى من هذا الوباء، وباء التشدّد. فثمة "سلفيّة" مسيحيّة، سلميّة إلى الآن، تنمو بين ظهرانينا باسم المحافظة على الهويّة الدينيّة. ولا تخلو هذه السلفيّة من الروح الفرّيسيّة، أي التمسّك بحروفيّة النصوص الدينيّة التراثيّة، من كتاب مقدّس ومؤلّفات آبائيّة وأقوال رهبانيّة، من دون الأخذ بمقاصد هذه النصوص ومقتضياتها الإيمانيّة، وبالسياقات التاريخيّة والظروف الاجتماعيّة التي تفرض ذاتها على كلّ جيل من الأجيال.
من سمات هذه "السلفيّة" الناشئة، احتكار الحقيقة والمعرفة الدينيّة والتقوى والغيرة على الإيمان والتفسير الوحيد الصحيح للكلام الإلهيّ. أمّا مَن يخالف بعض الآراء "السلفيّة" فهو جاحد بالحقيقة، ويحيا في الباطل، ولا يقارب التقوى، ويفرّط بالإيمان، وينحرف عن التفسير الصحيح... هو كافر غارق في الضلال المبين، وغير مهتدٍ بنور النهج الأمين.
من هنا، يأتي الحديث عن الانفتاح الأصيل البعيد عن التراخي والمساومة والانفلاش. هذا الانفتاح المتجذّر في الإيمان الذي لا يخشى من مواجهة التحدّيات والمصائر بعزم قويّ وإرادة صلبة. فالشهادة المسيحيّة، في ديار العرب، لا تتحقّق عبر التشدّد والمزيد من التزمّت، ولا عبر أنواع ممجوجة من التلفيق الكاذب. فالأمانة للأصالة تعني الدعوة إلى قبول التنوّع والتعدّد والاختلاف، وإلى احترام الإنسان القيمة الكبرى في الخليقة. وهي لا تعني التقيّد بظاهر الشرائع والشعائر وحسب، بل السلوك بموجب المحبّة والرحمة والسلام والتآخي... والتزام قضايا الوطن والمجتمع والإنسان.
من مظاهر هذه السلفيّة المعاصرة، وبلا ريب، اللجوء إلى تشويه القدّيسين وجعلهم مقاتلين، وإلى زياحات وقداديس تخلط ما بين الدينيّ والسياسيّ، وإلى التفاخر بأكبر صليب في الشرق، أو بأكبر تمثال للعذراء مريم أو للمسيح... إنّها أزمة هويّة دينيّة عميقة يلجأ فيها المسيحيّون إلى مزيد من التقوقع والانعزال والتفاخر بالقشور على حساب جوهر وجودهم في الشرق، وهو أن يكونوا ملحه الذي من دونه لا نكهة له ولا نكهة لهم أيضًا.
سوف نستحضر الآن نصًّا من نهاية القرن الثاني الميلاديّ، عنوانه "الرسالة إلى ديوغنيطس"، وهي رسالة دوّنها كاتب مسيحيّ مجهول الهويّة وجّهها إلى شخص وثنيّ يحتلّ موقعًا مهمًّا في الأمبراطوريّة الرومانيّة اسمه ديوغنيطس طلب من كاتب الرسالة تعريفًا بالمسيحيّة والمسيحيّين، وبخاصّة تعريفه بإله المسيحيّين، وكيف يجلّه المسيحيّون؟ ولماذا لا يكترثون للموت في سبيل إيمانهم؟ يفيدنا أسلوب الرسالة بأنّ كاتبها كان مثقّفًا كبيرًا وضالعًا باللغة اليونانيّة والبلاغة والخطابة بالإضافة إلى اللاهوت.
تقول هذه الرسالة بوصف علاقة المسيحيّين الأوائل بأوطانهم: "لا يتميّز المسيحيّون عن سائر الناس لا بالبلد ولا باللغة ولا باللباس. ولا يقطنون مدنًا خاصّةً بهم، ولا يستخدمون لغة محلّيّة غير عاديّة. ونمط عيشهم ليس فيه أيّ تمييز... وهم يتوزّعون في المدن اليونانيّة أو البربريّة حسبما قُسم لكلّ منهم. وهم يتكيّفون والعادات المحلّيّة المرعيّة، في ما يخصّ الملبس والمأكل وأسلوب المعيشة، فيما هم يجاهرون بالشرائع الغريبة وغير المألوفة حقًّا الخاصّة بملكوتهم الروحيّ، ويقيمون كلٌّ في وطنه، ولكن كغرباء مستوطنين ويؤدّون واجباتهم كاملة كمواطنين، ويتحمّلون كلّ الأعباء كغرباء. فكلّ أرض غريبة هي بمثابة وطن لهم، وكلّ وطن هو بمثابة أرض غريبة".
في وصفه للشهداء وشجاعتهم يتابع كاتب الرسالة إلى ديوغنيطس قائلاً: "ألا ترى كيف يرمون بالمسيحيّين للوحوش كي يرغموهم على نكران السيّد (المسيح) فلا ينغلبون؟ ألا ترى أنّه كلّما كثر الشهداء زاد عدد المسيحيّين؟ لسوف تحبّ وتعجب ممّن يتعذّبون لأنّهم لا يريدون أن ينكروا الله. عندما تعلم ما هي الحياة الحقيقيّة، عندها تحتقر ما نسمّيه، على هذه الأرض، الموت". لم يكن الموت ليخيف المسيحيّين من أن ينقص عددهم، لذلك واجهوه بإقدام وببسالة، وكان عددهم يزداد، على الرغم من الاضطهادات، بسبب اقتناع الناس بصدق إيمانهم ورجائهم بإلههم الفادي.
صحيح أنّ "الرسالة إلى ديوغنيطس" عمرها ثمانية عشر قرنًا، لكنّها تخاطب أيضًا مسيحيّي هذه الأيّام، كما خاطبت آباءهم وأجدادهم عبر التاريخ. فالمسيحيّون الأوّلون، وفق الرسالة، عاشوا بحسب مقتضيات الإنجيل، وسلكوا دروب الربّ غير خائفين من الاستشهاد وتقديم ذواتهم قرابين في سبيل الإيمان. وفي الظروف التي تمرّ بها بلادنا هم مدعوّون إلى حفظ الأمانة والشهادة حيث شاء الله أن يولدوا ويكونوا.
في أوج أزمنة الضيق والاضطهادات، لم ينكفئ المسيحيّون ولم يعزلوا أنفسهم في غيتوات منغلقة على ذاتها ومنقطعة عن محيطها وبيئتها، بل انخرطوا في قضايا أوطانهم، وتقاسموا هموم مواطنيهم وهواجسهم.
أدّوا واجباتهم تجاه مجتمعاتهم، ولم يطالبوا بحقّ لهم سوى الحقّ في وجودهم وممارسة اقتناعاتهم الإيمانيّة والاعتراف بحقّ ديانتهم في الوجود إلى جانب ديانات الأمبراطوريّة المعترف بها.
ومع كونهم أقلّيّة عدديّة رفضوا التصرّف إلاّ بكونهم مواطنين كاملين. وما الشعور الأقلّويّ والانكفاء إلى الهويّة الطائفيّة والانعزال عن الشركاء بالمواطنة سوى سمّ زعاف وانتحار جماعيّ.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم