السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - الدين والتديّن بين الإيمان الفردي الخاص ودبيب الهويات الطوائفية الجامعة

محمد أبي سمرا
تحت الضوء - الدين والتديّن بين الإيمان الفردي الخاص ودبيب الهويات الطوائفية الجامعة
تحت الضوء - الدين والتديّن بين الإيمان الفردي الخاص ودبيب الهويات الطوائفية الجامعة
A+ A-

ليس التدين في لبنان والمجتمعات العربية مسألة ثابتة. بل هو متغير ومتحول وفقاً للظروف والحوادث وموقع الجماعات وهويتها من السلطات الاجتماعية والسياسية. أما الإيمان الديني على المعنى الفردي والشخصي، وعلى معنى الصلة الخاصة بين الخالق والمخلوق في الأديان السموية، فيكاد يكون عملة نادرة في زمن طغيان السياسة المذهبية الطائفية وحروبها على الحياة العامة.


في فصل من كتابه "مدن متنازعة"، يروي الباحث الفرنسي المستعرب فرانك مرميه الوقائع الاجتماعية لما يسمّيه "معركة السماء في بيروت: جامع محمد الأمين وكاتدرائية مار جرجس" في وسط بيروت المديني الجديد، فيشير في مستهل هذا الفصل الى أن جامع الأمين البيروتي "حلقة من سلسلة جوامع جديدة كبرى شيّدت في الأعوام الأخيرة في أنحاء العالم العربي، ولا تزال تشيّد على وقع مضاربات لا تقاوَم مثل جامع الحسن الثاني في الدار البيضاء، وجامع السلطان قابوس في مسقط، وجامع الشيخ زايد في أبو ظبي، وجامع الصالح في صنعاء". ما يسمّيه الباحث "مضاربات"، ينطوي على اختلاط ظروف وظواهر ومظاهر ونزاعات شتى، لا ينفصل الديني منها عن الاجتماعي والسياسي والعقاري والاقتصادي في المجتمعات العربية التي تتداخل فيها هذه المستويات عضويا، فيصعب الفصل والتمييز بينها، إلّا في استطلاعات وأبحاث ميدانية تؤرخ أنثروبولوجياً، بطيئاً وجزئياً، لتحولات اختلاط الدين والتدين ومظاهرهما في الحياة العامة والخاصة، بسائر الصراعات والنزاعات الاجتماعية والسياسية.


التدين هوية اجتماعية
هذا ما روى مرميه فصوله في ما يتعلق بجامع الأمين وكاتدرائية مار جرجس في بيروت. فبين الظروف التي أدت الى تحول "زاوية أبي النصر" الدينية الصوفية التي أنشأها الشيخ محمد أبو النصر اليافي في العام 1853، مسجداً جامعاً ضخماً في طرف ساحة البرج أو الشهداء، ابتداء من العام 2003، وما حدث طوال اكثر من قرن ونصف القرن بين هذين التاريخين، هو مرآة لاستعمال الدين والتدين وبناء الصروح الدينية، عناصر أساسية في توكيد حضور الهوية الاجتماعية – السياسية وقوتها لدى الجماعة والجمعيات الأهلية والمؤسسات الدينية الإسلامية البيروتية (السنية)، وتوظيف علاقاتها الخارجية في توكيد قوة تلك الهوية وشموخ الصروح الدينية. هذا يعني أن الدين والتدين ليسا مسألة فردية وشخصية تتمثل في علاقة الفرد الروحانية بالدين والخالق والرسل والكتب السموية. بل هما ظاهرة اجتماعية – سياسية متغيرة ومتحولة، وتتعلق بالجماعة وهويتها ونزاعاتها مع سواها من الجماعات. أما الدين والتدين بمعناهما الفردي والشخصي والإيماني، فالأرجح أنهما ظاهرتان ضعيفتان وهامشيتان في المجتمعات العربية التي لم ينفصل فيها الدين والإيمان والمسلّمات والمعتقدات الدينية عن هويات الجماعات وطموحاتها وأهوائها السياسية وسلطانها السياسي. في هذا المعنى، غالباً ما يحضر الدين والتدين حضوراً طوائفياً عصبوياً في هذه الجماعات، أقله منذ عهد نظام الملل والنحل العثماني.
في الحقبة الاخيرة من ذلك العهد، أي في العام 1894، دُشّنت كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت القديم، "فكرّست بضخامتها – على ما كتب مرميه - تنامي مكانة الطائفة المارونية في بيروت، وفي مجمل البلاد". لكن ضخامة جامع محمد الأمين الذي شيِّد ملاصقا لها تقريباً، أثارت انتقادات أوساط مسيحية وغير مسيحية. وهذا ما أدى - بعد إعادة ترميم الكاتدرائية التي دمرت الحرب أجزاء منها - الى تنادي شخصيات مسيحية نافذة لإنشاء برج للكاتدرائية بلغ طوله 70 مترا، يعلوه صليب، ومزوّد جرساً في الإمكان سماع دقّاته حتى مسافة 10 كلم تقريباً، في موازاة تسامق مآذن جامع الأمين. وهذا ما يسمّيه الباحث الفرنسي "معركة في سماء بيروت".
إنها سياسات الهوية ومنازعاتها الدنيوية، إذاً، ما يحتل موقع القلب والعصب في التدين وبناء الصروح الدينية، وليس الإيمان الديني بوصفه علاقة عبادة روحانية بين الأفراد والجماعات والخالق وتعاليمه. هذا ما عاشه ويعيشه لبنان واللبنانيون بوتائر تخبو تارة، وترتفع طوراً، بحسب الظروف والحوادث والمنعطفات التاريخية.


التديّن خبا في الستينات
جيل الستينات والسبعينات الشبابي اللبناني في القرن العشرين مثلاً، عاش حقبة خبت فيها - وربما ترسّبت - المظاهر والشعائر والشارات الدينية الى قيعان الحياة الاجتماعية. وذلك نتيجة الإقبال الواسع على التعليم والإقامة والإختلاط في المدينة (بيروت) وضواحيها، إضافة الى الاستقرار الاجتماعي والسياسي. حتى أهل ذلك الجيل كان الدين والتدين تقليديين وعاديين في حياتهم اليومية والاجتماعية، ويقتصران على عادات وتقاليد وشعائر وطقوس، مجالها الحياة الخاصة والدوائر الأهلية والقرابية، من دون استحضار رموز الدين وعباداته وتعاليمه وشاراته في دوائر العلانية العامة. وكانت الصلوات والعبادات تقتصر على المناسبات والأعياد، وتتخذ أشكال شعائر اجتماعية متبادلة بين الطوائف المختلفة.
أما أبناء ذلك الجيل الشبابي الذين تخالطوا في المدارس والجامعات ودورة الحياة المدينية، فصار الدين والتدين والعبادة والصيام والصلاة في أوساطهم نسياً منسياً، إلّا في ساعات التدريس الديني المدرسي الذي لا يترك سوى أثر لا يعتدُّ به في علاقات التلامذة.
التمايزات والنوازع ذات الطابع الديني لدى ذلك الجيل، تراجعت وتقلصت لصالح علامات وشارات وملامح ثقافية تتعلق بالمراتب الاجتماعية واللباس والأزياء والأذواق والأهواء الإيديولوجية. وهذه كلها ترسبت في قاعها الملامح والعوامل الطائفية التي هي دوما مظاهر اجتماعية أكثر منها دينية، على معنى الإيمان والعبادات.
فشبان الستينات والسبعينات المسلمون، كان يندر بينهم الصائمون في رمضان، ندرة مرتادي المساجد للصلاة في نهارات الجمعة وسواها من النهارات، إلّا في بيئات أهلية ضيقة، بل كانت تضيق يوماً بعد يوم. حتى صلوات الأعياد في المساجد الجامعة، كان يندر فيها الشبان، ويقتصر جمهورها العريض على الأهل والمسنّين.
ارتياد الكنائس للعبادة لم يكن بدوره يختلف عن ارتياد المساجد، لجهة الأعمار والأجيال. حتى في نهارات الآحاد كان ارتياد كنائس القرى والبلدات وأحياء المدن شعيرة اجتماعية عامة أكثر منه شعيرة دينية تعبدية.


التديّن الحربي
لكن ما أزاحته الستينات والسبعينات ورسبتاه لدى ذلك الجيل الشاب، ما لبث أن ظهر وطفا في عشايا الحرب الأهلية الملبننة (1975 - 1990). فاتخذ ما ترسّب شكل الانقسامات الطائفية والجغرافية المسلحة، من دون أن يكون الدين والتدين على المعنى الإيماني والتعبدي، من مظاهر تلك الانقسامات وحروبها التي لم يكن التدين، بل العصبيات الطوائفية والمناطقية والأهواء الأيديولوجية والسياسية، من عواملها المؤطرة والفاعلة، في الشوارع والأحياء وعلى خطوط التماس الحربية، وخلفها أيضاً. حتى ظهور أطياف الشخصيات الدينية المقدسة، كالعذراء والإمام المهدي، في بعض منعطفات الحرب وويلاتها المدمرة، لم يكن طابعها الديني الأسطوري يخفي استنجاد الجماعات بتلك الشخصيات لتمدّها بالصبر على تحمل عثرات الحرب ومجازرها الدموية، أو لتمنحها النصر.
لعل العامل الأبرز في استدخال الدين والتدين وتراثهما وشعائرهما في العمل والتأطير الحربيين ظهر ما بعد الثورة الإسلامية الخمينية في إيران العام 1979. فالثورة تلك وإصرار قادتها من رجال الدين على تصديرها الى خارج إيران، كانت لهما أصداؤهما القوية في العالم الإسلامي، وخصوصاً في الجماعات العروبية واليسارية المحاربة في لبنان. فقبيل ولادة "حزب الله" اللبناني الخميني الذي جعل التدين الشيعي وشعائره وطقوسه مادة وحيدة وعارية للخطابة والتأطير الديني الطائفي الحربي، كان بعض الدعاة اليساريين الماويين قد انقلبوا دعاة خمينيين، ومنهم من شارك في تأسيس النواة الأولى لـ"حزب الله" الذي سبقه الشيخ سعيد شعبان وبعض من أتباعه في تأسيس إمارة إسلامية في طرابلس، متأثرة بالدعوة والمَدَد الخمينيين والعرفاتيين (نسبة الى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات).
الحق أن لبنان وحروبه ما قبل الثورة الخمينية والاجتياح الاسرائيلي (1982)، غيرهما ما بعد تلك الثورة والاجتياح اللذين أديا الى التحام الطوائف اللبنانية التحاماً طوائفياً حربياً عارياً، بإدارة إقليمية سورية أسدية وإيرانية مشتركة. هذا فيما كان "حزب الله" ينجز تحويل التشيّع الديني وشعائره وطقوسه وتراثه على مثال جديد تتطابق مذهبيته الدينية تطابقاً كاملاً مع دعوته الاجتماعية والسياسية والعقائدية في مجتمع حربي متكامل.
أما المنعطف الآخر الذي ترك أثره على بعض هوامش المجتمع السني في لبنان، فكان مع بروز ظاهرة "الأفغان العرب" وغزوتهم في نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001. ففي تلك الهوامش، أخذت تظهر بين وقت وآخر خلايا التدين السلفي الجهادي والانتحاري.


تديّن المجتمع المسيحي
في المجتمع المسيحي اللبناني اتخذ التدين بصيغته غير الإيمانية الفردية أو الشخصية أشكالاً مختلفة في زمن الحرب وما بعدها. ففي الشوارع والأحياء والمناطق المسيحية ظهرت أمام البيوت والمباني وعلى جنبات الطرق وقمم التلال صلبان معدنية وخشبية وتماثيل صغيرة أو متوسطة الحجم للقديسين والعذراء ويسوع المسيح داخل منحوتات اسمنتية مزججة لحفظها. وذلك إشهاراً للهوية الدينية الطائفية للمناطق السكنية والسكان والأهالي، إيماناً منهم بأن هذه الأنصاب والصلبان والتماثيل تحميهم وتدرأ عنهم الخوف، وقد تنصرهم في الملمات، وخصوصاً في زمن الحرب التي مُنِيَ فيها المسيحيون بهزائم متلاحقة، وصولاً الى ما سمّي بـ"الإحباط المسيحي" ما بعد الحرب. وما خروج هذه الرموز الدينية من الحيز الخاص المنزلي والبيتي الى الشوارع وزوايا المباني السكنية ورفعها على الروابي والتلال، أي الى الحيز العمومي، إلا كناية عن إظهار الطابع الجمعي للتدين بصفته هوية للجماعة، يغيب عنه الطابع الفردي والشخصي الحميم.
لكن إشهار التدين المسيحي في الحيز العام، اقتصر على هذه الأشكال، فلم يتخذ طابعاً دعوياً سياسياً وتعبوياً عاماً في الخطابة الدينية، كما في المساجد الاسلامية التي أخذت تتحول في زمن ما بعد الحرب مقار للتعبئة الدينية الطائفية. وفي سير الإسلاميين الجهاديين والانتحاريين، يندر ألاّ يحضر المسجد بصفته مكاناً للهداية والتعبئة. أما في المجتمع المسيحي فنادراً ما تحولت الكنائس مقراً للخطابة التعبوية في زمن الحرب وما بعدها. على العكس من ذلك في بعض الحالات، ظهر أن خروج بعض المقاتلين المسيحيين من الحرب، ارتدى طابعاً إيمانياً رهبانياً شخصياً وفردياً. كأنما الحرب نفسها، في هذه الحال، كانت خروجاً على تعاليم الدين، ليأتي الإيمان الرهباني بعدها تكفيراً عن ذلك الخروج.


بين الايمان والهويات
اليوم، في أزمنة التجييش الطائفي حتى الأقاصي بين المذاهب الإسلامية، يبدو التدين الإيماني الشخصي والفردي عملة نادرة في الديار والعوالم العربية الغارقة في حروب ظلامية دموية تجاوزت الحدود الوطنية للدول والبلدان وحطمتها. وما انبعاث الدين وهيمنته كشعائر وشارات عامة على مشاهد الحياة اليومية، إلا صورة ناصعة لإشهار الهويات المذهبية والطائفية الدنيوية التي يمكن أن تدل على كل شيء، سوى على الدين والتدين على الصفة الإيمانية.
وقد لا تدل الاستطلاعات الإحصائية على براءة الدين والتدين في المجتمعات العربية (ومنها لبنان) من الإيمان على المعنى الشخصي والفردي. ذلك لأن سؤال الأشخاص واستجوابهم في مسألة إيمانهم الديني لا يُظهِران صورة فعلية عن الدين والتدين إلا على معنى إيمان الأشخاص والأفراد بالهويات الطوائفية الدنيوية لجماعاتهم المذهبية والسياسية في المنازعات الأهلية على التصدّر والمراتب والسلطان.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم