الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ريبورتاج - زيارة سريعة للبقاع الشمالي عمران لبنان المتجانس في أرضٍ للغزو والحرب

محمد أبي سمرا
ريبورتاج - زيارة سريعة للبقاع الشمالي عمران لبنان المتجانس في أرضٍ للغزو والحرب
ريبورتاج - زيارة سريعة للبقاع الشمالي عمران لبنان المتجانس في أرضٍ للغزو والحرب
A+ A-

هناك، وسط اتساع المساحات المنبسطة الرحبة الممتدة أفقياً في البقاع الشمالي؛ عابراً في السيارة يشعر الزائر بالضيق والكآبة والوحشة: تكرار رتيب في المشاهد. يباس مديد. خواء تحت شمس بلا رحمة، على عشب جفَّ وتيبّس، وعلى إسمنت عمران فوضوي فقير، ضئيل وأغبر بلا لون، على جانبي الطريق.


مديدٌ هو الوقت، خاوٍ، مستقيم، مسطّح، ومبنّج. كأن لا وقت ليمضي وينقضي. لا ظلَّ. لا مسافات. في هذا العراء المرهِقِ للبصر، ولسواه من الحواس. كل شيء هنا مبنّج، قديم وآنيّ كالطبيعة، أو صار عتيقاً فجأة: الإسمنت والنبات الضئيل، البشر والوقت والحياة العلنية المكشوفة، كالسماء، كالشمس، كندرة الظل.
حياة عارية. وفي العراء. على الرغم من سيولتها وقوتها أحياناً، تبدو آنية واقفة. لا تتراكم. لا تنبني. ولا تنطوي على عمقٍ ما، على داخل حميم أو أليف، غير مرئي. كل شيء واضح وموقت في هذا الداخل البقاعي الذي لا داخل له ولا عمق. المنبسط والمتسع شمالاً حتى الأفق البعيد، حيث يُقال إن سنابل القمح كانت تتماوج في هذا المدى المترامي، أيام كان البقاع "إهراءات قمح" الأمبراطورية الرومانية التي شيّدت معابدها الوثنية في "مدينة الشمس".
لكن اليوم، يبدو البشر كائنات ضئيلة، طارئة وتاعسة، في هذا المدى، على الرغم من قوة شكيمتهم الفجّة الفوضوية الفقيرة، التي تُسلّمهم إلى الضياع والتيه. بلا بوصلة ولا اتجاه. بلا محور ولا مركز، في هذا العراء الجغرافي الفسيح الأرجاء الذي يبعث على الاختناق، بين جبل شرقي أجرد من النبات والبشر، وجبل غربي ضخم، خالٍ تقريباً، يدير للسهل ظهرَه الشرقي، كأنه يريد الانفصال عنه والتبرّؤ منه وتركه وحيداً في العراء.
* * *
كلما ابتعد الزائر العابر شمالاً في البـــقاع الشـــتمالي، ازداد الأفق اتســـــاعــــاً، حتى يبلغ ذروته في بلدة القاع، وما بعدها في "مشاريعها" الزراعية. هناك تمتد بقع فسيحة من البساتين وحقول بطيخ مخضّرةٍ في الأمداء المترامية تحت الشمس المسلطة بكل قوتها لإنضاج رؤوس البطيخ الأحمر. بل كأنها تطبخها بلا هوادة. حتى إذا انفلعت بطيخة تهاجمها أرتال الذباب الجائعة العطشى لتلتهم جوفها وتمتصّ ماءها الساخن.
حتى مياه الآبار الجوفية العميقة التي تسقي مزروعات السهل، يصعب تخيّلُ أنها ليست ظمأى الى نسمة هواء ظليلة. كأنها مياه تُنضِجُ فيما هي تروي. وتلتهبُ شوقاً الى الجبل. ولا جبل إلا عارياً أجرد وظمآن، هنالك في البعيد. ويلتهب مثلها شوقاً الى الينابيع. ولا ينابيع إلا في اللبوة غير البعيدة، التي تجري من نبعها ساقية الى بساتين القاع القديمة قبل بوارها وموتها في زمن الحرب.
آنذاك، بارت البساتين وماتت، على الرغم من أن أهل القاع كانوا مسالمين في قريتهم النائية المعزولة، ليتحول بعضهم محاربين مهجّرين في ضواحي المدينة. فأهل الحرب آنذاك، لم يتركوا ماء الينابيع والنبات خارج حروبهم. وبدل بساتينهم وحقولهم التي بارت جنوب بلدتهم، أنشأ أهل القاع "مشاريع" زراعية جديدة في أرض القفر واليباس المترامية شمال بلدتهم التي عادوا إليها بعد الحرب.
لكن ها هي أقدار الجغرافيا والمأساة السورية وحزب الولوغ فيها وفي دمها، تعيد وضع القاع وأهلها ومشاريعها الزراعية الجديدة على خريطة الحرب.
أحد مشايخ الحروب القديمة الذي شاءت أقداره أن يتقاعد في البقاع الشمالي، ناقم على ما يحدث في لبنان وسوريا والبقاع والقلمون وحزب حروب القلمون. بعد تقاعده، لم يعد يرى في الحرب إلا الخراب والدمار. لكنه اليوم مختنق الصوت وخالي الوفاض من القدرة على التأثير حتى في محيطه القريب.
* * *
بعيدٌ وناءٍ هو البقاع الشمالي. كأنه منذ زمن بعيد يعيش خارج قدر لبنان الذي لم يثبت ولم يصمد قدره أصلاً على حال ووجهة واتجاه، إلا في ما ندر من فرص ومناسبات، سرعان ما تتبدّد، فلا يبقى منها سوى الذكريات وقليل من الندم. لكن البقاع الشمالي محروم حتى من تلك الذكريات. ومن ذلك الندم. لأن الفرص والمناسبات اللبنانية التي تبدّدت، لم يصل إليه منها شيء يذكر، كي يندم عليها. كان قاحلا وكئيبا، ولا يزال.
مرةً، في حقبة مرّت، ضحك القدر للبنان في الخمسينات والستينات. فمنح بعلبك وقلعتها مهرجانات فنية ظللت لياليها المضيئة كزائر موقت غريب في المدينة الداخلية. ذلك الزائر الغريب لم تألفْهُ ولم تشغفْ به، سوى فئةٍ من الشبان والشابات المتعلمين. كأن شغفهم ذاك وصل إليهم من البعيد، من زوار القلعة الغرباء والأجانب، من بيروت ومن لبنان الساحل.
وها هي بعلبك، عبثاً يحاولون النأي بها عن الداخلية البقاعية القاحلة والكئيبة. حتى أنها أزالت عنها ذلك الضوء الموقت الخافت الذي منحها إياه المهرجان في ما مضى.
أما زحلة، مثلاً، وسواها من البلدات المجاورة، فقد يكون عصمَها من ذلك المصير البقاعي الكئيب، قدرُها الجغرافي الذي شدّها، على السفوح الشرقية من السلسلة الغربية، الى لبنان الجبل والساحل.
هذا يؤكد أن لبنان "الكيان"، "لبنان في شخصيته وحضوره"، وفقاً لرؤية مهندس "كينونته" في التاريخ والجغرافيا البشرية والسياسية، ميشال شيحا، إنما هو وليد المساحات الفسيفسائية الضيقة غير المستوية في تعرجاتها وانحناءاتها. ووليد المسافات القصيرة في الجبل المطل على البحر، وفي الشريط الساحلي الضيق. وذلك ضدّاً للداخلية ومساحاتها الشاسعة المنبسطة القاحلة، إلا إذا توافرت لدى البشر قوة وقدرة وإرادة على إخراج الداخل من داخليته، ومن الطبائع الداخلية، وإلحاقه المركّب بالساحلية.
لكن هذا دونه الصغائر والأنانيات والضغائن اللبنانية. ودونه أيضاً القدر الجغرافي اللبناني الصعب الذي يهبّ عليه من الداخلية شرقاً. ومن جنوبه الأشد مضاضة عليه من الداخلية الشرقية. وهذه انفجرت أخيراً انفجارها الكبير غير المسبوق من دمشق حتى طهران، مروراً ببغداد. فإذا بحزب المقاومة الطهراني الحرسيّ في الجنوب، يضع لبنان كله - المتفسخ أصلاً - في مهب ذلك الانفجار.
* * *
هل يصحّ القول، إذاً، إن البشر في لبنان أبناء أقدار الجغرافيا الطبيعية ومصادفاتها وتمزقاتها الشرقية أو المشرقية، تلك التي تتحكّم بطبائعهم وولاءاتهم وعمرانهم ومصيرهم؟
وهل هذه الأقدار أقوى بكثير من قدرة الجغرافيا البشرية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بتقسيماتها المركّبة وحدودها الإدارية "الكيانية"، على تغيير تلك الطبائع والولاءات وذلك العمران؟
لكن أيّ قدرٍ ذاك الذي أدى الى أن يتحول ما صنعته الجغرافيا البشرية والاجتماعية ومركّباتها من عمران في لبنان الجبل والساحل طوال نحوٍ من قرنين، ركاماً وهباءً منثوراً؟!
هل شراسة وثنية محدثة هذه التي دبّت في بشر الجبل والساحل والوافدين من الداخل، فحملتهم على تدمير عمران استمروا طويلاً ومديداً في إنشائه بطيئاً وأليفاً، قبل أن يجعلوه أقرب الى ديار غزوٍ وحرب، كأنما أعداؤهم أنشأوه وشيّدوه وأقاموا فيه؟
هكذا تساوى وتجانس لبنان الجبل، ولبنان الساحل، ولبنان الداخل البقاعي، وغير البقاعي:
عمران وثنيٌّ فخم مترف. وعمران وثنيٌّ بدائي وفقير. وكلاهما في دار غزو وحرب.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم