السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"الحالة صفر" لعماد فؤاد: تهاويم متأخرة عن الستينات

محمد أبي سمرا
"الحالة صفر" لعماد فؤاد: تهاويم متأخرة عن الستينات
"الحالة صفر" لعماد فؤاد: تهاويم متأخرة عن الستينات
A+ A-

في روايته الاولى، "الحالة صفر"، يروي الشاعر المصري عماد فؤاد حنيناً متأخراً الى عقدي الستينات والسبعينات من القرن العشرين. وهو حنين جارف الى نيرفانا التحرر والتشرد والكحول والماريغوانا والحشيشة والحب الجنسي، والى الانعتاق من الانتماء الى جغرافيا وهوية ومكان، للاستغراق والتوحد في الذات ومع الذات في حضور الآخر.


الرواية من منشورات "ميريت"، القاهرة، 2015، يتناوب فيها راويان اثنان على رواية مشاهد ولحظات من علاقتهما المستغرقة في طقوس من الحب الجسدي والماريغوانا والحشيشة والكحول في مرابع ليلية ومقاهٍ في مدن اوروبية وغير اوروبية كثيرة. لكن مدينة أمستردام هي مسرح الرواية وطقوس العلاقة الأساسي، حيث "فُتحت أبواب الجنة أمام باولا وجيلها من الهيبيز المولعين بالتشرد في الشوارع وممارسة الحريات على حوافِّها القصوى، حين سمحت هولندا في العام 1970 بتجارة المخدرات الخفيفة وبيعها في مقاهٍ وأماكن خصّصتها لذلك".
باولا في "الحالة صفر"، طيف بعيد، لكنه تأسيسي في الرواية، بوصفها أم ميشيل المولودة من رجل مجهول. تروي ميشيل مقتطفات من سيرتها للراوي الآخر المغفل الاسم، الذي يروي بدوره مقتطفات من سيرته. المقتطفات التي يرويانها تتخذ أحياناً صيغة حوارات حضورية، وحيناً صيغة اعترافات شبيهة بالرسائل، وثالثة صيغة الكتابة التأملية في الذات والرغبة والعالم. عن أمها تروي ميشيل أنها قالت لها إنها لا تعلم من هو والدها "في أحد شتاءات العام 1969 (حينما كانت) متشردة في إحدى القرى الهولندية، بصحبة فتيات من جنسيات كثيرة، جمعت بينهن المصادفات والأرصفة على مقاعد دراسة الموسيقى والعمل في مزارع الزهور والعنب، وفرّقت بينهن السبل والشهوات وأمزجة الرجال". في السادسة من عمر ابنتها، أي في صيف 1976، قرّرت باولا الرحيل في سيارتها "الفولكس فاغن من الجنوب البلجيكي، الى أمستردام التي كانت تعتبرها وجيلها الجنة الخضراء". طوال الطريق كانت الطفلة ميشيل على مقعد السيارة الخلفي، و"انتبهتْ للمرة الاولى الى الفرق بين رائحة دخان الماريغوانا ورائحة التبغ العادي"، إذ كانت أمها "تقود السيارة وتشعل بين حين وآخر سيجارة جديدة".
الراوي الآخر، المغفل الإسم، لأنه هو محور الرواية، والغريب القادم من عالم آخر غير أوروبي، ليعيش في عالم ميشيل، سليلة حقبة التشرد الشبابي بين الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وليستعيدا معاً حال ذاك التشرد وطقوسه بين نهايات ذلك القرن وبدايات الالفية الثالثة. على الصفحة الاخيرة من "الحالة صفر" يكتب عماد فؤاد أنه وضع روايته هذه ما بين 2011 و2014، متنقلاً بين أنتوريب، بون، أمستردام، القاهرة، مار ماريس، بوخارست، مراكش، برلين، ولشبونة. كأنه في إشارته هذه يحاول الكشف عن خيط ما يصله بالراوي المغفل الإسم الذي استهل الرواية بمشهد من طقوس الماريغوانا والحشيشة والكحول مع ميشيل في حانة ليلية، حيث "الأصوات تختلط بنداءات وصرخات وهتافات وأغانٍ مبحوحة تأتي من جُبٍّ عميق، وأشعر بأكفّ وأصابع كثيرة تجذبني أو تدفعني أو تلامسني في أماكن متفرقة من جسدي". هذا قبل أن يميز "همس ميشيل: أريد أن أقدم لك سيرينا، من البرازيل". في الفقرة الثانية من "الحالة صفر" ينتقل الراوي من صيغة الوصف الحضوري أو الآني لمشهد أو للحظة من علاقته بميشيل، الى مخاطبتها غيابياً، متذكراً "الدفء الذي اختزنتْهُ شفتاكِ من فنجان القهوة الساخن، وأنا أُقبّلكِ في المقهى التركي العتيق على شاطئ مار ماريس"، حيث "كنتِ تجلسين قبالتي مرتدية معطفكِ الأسود، والهواء يطيّر شعركِ". فجأة يقطع الراوي خيط التذكر ليكتب: "أستطيع أن أكتب قصائد كاملة في وقع هذه الحركة على روحي الآن، كل مرة بطعم مختلف، بشكل مختلف، بحس إيروتيكي مختلف (...) الماريغوانا تتيح لي هذه النعمة، نعمة تعتيق الذكريات (...) نعمة التركيز في الحوادث، في الشخصيات والأفكار". على هذا النحو من الوصف الآني، من التذكر الاستعادي، من التأمل في حوادث الماضي، من رواية مقتطفات من السيرة، تستمر الرواية كلها في تناوب الشخصيتين على الكلام والاعترافات في سرد محوره استغراقهما الحسي الدائم في طقوس علاقتهما المتنقلة من مدينة الى مدينة: "في ميلان اشتريتَ (تروي ميشيل مخاطبة صديقها الراوي) حشيشاً أفغانياً من عامل مصري بالفندق، بعدما أهديتَ إليه قلادتي الفرعونية. في مدريد اشتريت الماريغوانا في ميدان لا أذكر اسمه. في الجزائر اشتريت حشيشاً محلياً في سوق شعبي مع زجاجات النبيذ الأحمر. في برلين اشتريت الماريغوانا من شابين إفريقيين (...) في لشبونة باعوك السبانخ المجففة على أنها ماريغوانا!".


فلسفة المخدر
"الحالة صفر" رواية استعادية متأخرة لطيف الحركة الشبابية الفوضوية ورغباتها التحررية الإباحية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته. وذلك على مثل ما يعيشها شخصان على نحو فانتاسمي أو هوامي: ميشيل سليلة أمها التي عاشت تلك الحقبة طولاً وعرضاً في أوروبا، فورثت عنها أسلوب حياتها. الراوي الآخر الذي تشي مقتطفات من سيرته المستعادة، بأنه مهاجر من مصر الى أوروبا، حيث يلتقي ميشيل ويصاب بلوثتها الساحرة التي تحوّل "الفعل البشري العادي، المألوف والروتيني، فعلاً استثنائياً، جديداً ومغايراً (...) تحت تأثير النبتة السحرية" التي يقصدان أمستردام لشرائها مرة في الأسبوع، ويسميانها "المؤونة". هذا قبل أن يزرعا نبتة منها في أصص قرب النافذة في المنزل، ويربّيانها يوماً بيوم لتنمو وتصير شجرة، فيقطعان محصولها في لذة لا تعادلها لذة أخرى.
في الصفحات الأخيرة من الرواية تضع ميشيل فلسفتها لـ"الحالة صفر": "كل فعل أفعله بعد دخولي (الحالة)، أراه أمام عينيَّ بطيئاً، متمهلاً، متأنياً، لا يدفعه شيء ليكون أسرع، ليجري، ليعدو. (...) تحت تأثير سجائر الحشيش تعلمتُ أن أحب الحياة، أستعذبها، أرتشفها قطرة قطرة، أتأملها بطيئاً، أتحسسها مثلما يتحسس الأعمى وجه محبوبته، تلك التي لم يرها من قبل، فتصبح أصابعه عينيه. (...) يتحسسها بأطراف أطراف أصابعه، فيما عتمة ترسم له الصورة المشتهاة، التي تنطبع في أغوار نقطة من كيانه". أخيراً، على خلاف الفكرة البسيطة الشائعة: "أنا لا أدخن المخدر لأني أريد أن أهرب من الحياة، بل لأستعيدها، لأتهجاها، لأقطّرها... مثل صانع عطور يجمع ملايين الزهور". ثم إن المخدر هو "العلاج الوحيد الذي يجعل النفوس ترى (ذاتها) على نحو أوضح وأكثر حدة". وتتيح للشخص أن "يتوحد مع ذاته... في حضور الآخر".


المثاقفة الفائتة
قد تكون "الحالة صفر" رواية حنين جارف ومتأخر الى عقدي الستينات والسبعينات من القرن العشرين. حنين أو لوثة هوامية في عبادة تلك الحقبة التي لم يعشها الراويان اللذان كانا طفلين آنذاك. لكن هذه اللوثة التي يكتب عماد فؤاد رواية في مديحها، تشبه حالة النيرفانا اللاهثة المنبثقة من مخيلة شعرية وحساسية شعرية، كأنه يحوّل اللحظات الشعرية رواية أو متواليات روائية متداخلة. قارئ "الحالة صفر" ينتابه شعور بأنه يقرأ حالة مستدركة فات أوانها، وتستعيد نوعاً من المثاقفة الفائتة مع الثقافة الأوروبية. فكرة المثاقفة على هذا النحو، تذكّر بما كتبه الروائي السوداني الراحل الطيب صالح في "مواسم الهجرة الى الشمال" التي ذهب بطلها مصطفى سعيد الى لندن مهووساً بتهاويمه الجنسية عن أوروبا.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم