الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - فنٌّ سوريّ في الزمن الصعب

محمد شرف
تحت الضوء - فنٌّ سوريّ في الزمن الصعب
تحت الضوء - فنٌّ سوريّ في الزمن الصعب
A+ A-

ليست هي المرة الأولى تقيم فيها "دار الإقامة الفنية" في عاليه معرضاً تشكيلياً، كما ليست هي المرة الأولى يُكتب فيها عن نشاط هذه الدار. يعود الفضل في بعث الحياة في هذا المشروع إلى الناشطة رغد مارديني، ويهدف إلى تقديم مواهب وتجارب تشكيلية سورية شابة وجديدة، إلى الجمهور. لم يقم المشروع في منطقة تنعم باسترخاء سياسي واجتماعي، كما هو معروف، بل سلك دربه إلى الحياة بالرغم من الظروف غير العادية، التي نعيشها جميعاً، وخصوصاً تلك التي يعيشها مَن أسسه، ومَن يشارك في نشاطاته.


هي المرة الأولى نزور فيها معرضاً نظمته هذه الدار، وقادنا الفضول للتعرف إلى مختلف جوانب هذه الخطوة التي بدأت منذ العام 2011، وأخذت ثمارها بالظهور بعد مضي عام لاحق: معارض فنية تشكيلية في لبنان وخارج لبنان، تحتضن أعمالاً لفنانين أُقفلت في وجوههم أبواب الخلق في بلدهم سوريا، الذي كان شهد، قبل اشتعال الحرب المدمّرة، نهضة تشكيلية وصلت أصداؤها إلينا، ولو أنها ارتبطت، في بعض الأحيان، بعمل تسويقي محموم دفع أسعار المنتج الفني إلى مستويات عالية. انتشرت المحترفات في أحياء دمشق القديمة حينها، ولم يشغلها، في الواقع إلاّ بعض المكرّسين، في حين عمل كثيرون ضمن ظروف تذكّر بظروف الفنان السائدة في أزمنة وأمكنة كثيرة، صارت تراثاّ في ضيق الأحوال، الذي تعمر به قصص الفنانين، وسير حياتهم المتعثرة.


الهاجس الجمعي والأساليب المتنوعة
لكن إطلاقنا صفة مكرسين، وأيضاً محظوظين، على البعض، لا ينفي، في أي حال من الأحوال، المستوى الفني اللائق لهؤلاء، وهذا حديث آخر لا مجال، الآن، للخوض فيه. ما يهمنا، في هذه اللحظة، هي الفرصة التي وفّرتها "دار الإقامة" للجميع، على قدر الإمكان، ولكن صروف الدهر شاءت أن تتوفر هذه الفرصة في بلد آخر، ولو أنه يلتصق بالبلد الأم من نواح عدة. كان من البديهي أن تأتي أعمال مَن سكن "دار الإقامة" وعمل فيها، معبّرة عما يجول في خاطر الصانع وما يلتصق، في شكل مباشر أو غير مباشر، بما يحدث في وطنه سوريا. ثمة حالات مشابهة في التاريخ القريب، اضطر فيها كتّاب ومسرحيون ومغنّون وفنانون تشكيليون للعمل خارج أوطانهم، التي وقعت ضحية حروب مدمّرة، وشكلت أعمال هؤلاء علامة فارقة في مسيرتهم، وفي نتاجهم الشمولي.
ما نلاحظه، في حالة سوريا، وفي شكل موضوعي، أن "المهاجرين" الموقتين التزموا أساليب متنوعة، في سعيهم للتعبير عما يحدث في وطنهم، وهذا طبيعي وبديهي. في هذا المعرض الأخير المسمّى "فن سوري في زمن صعب"، الذي نظمته "دار الإقامة الفنية"، لا نرى تصويراً مباشراً للحرب على النحو الذي شهدناه لدى بعض التيارات الواقعية في الزمن الماضي، حيث تسمّى الأشياء بإسمائها رسماّ لا كتابة. لا نشاهد أبنية متهدمة وجدراناً اخترقها الرصاص، أو قتلى في الشوارع تسيل الدماء منهم. لم يقع الرسامون المشاركون في فخ الإنفعال، وتقليد الصور التي أتخمتنا بها وسائل الإعلام. رأينا، لديهم جانباً من فرنشيسكو غويا، وهو الجانب الأكثر تعبيراً عن البعد الإنساني، وبعضاً من التعبيرية الألمانية، وتذكّرنا شريط أندره تاركوفسكي السينمائي المسمى "طفولة إيفان"، الذي يصور فيه المخرج جانباً من الحرب العالمية الثانية، التي خاضها بلده روسيا وخرج منها بعشرين مليون ضحية، لكننا لم نسمع في الشريط المذكور طلقة نار واحدة.
لاحظنا لدى الفنانين المشاركين في المعرض وجوهاً تراوح تفاصيلها بين الإختصار، وذكر بعض الملامح المعبّرة عن القلق والخوف والتحدي أيضاً. رأينا فراغاً ماحقاً في بعض الأعمال، يقابله تكثيف مطبق في أعمال أخرى، ورأيناً قماشات تجريدية. لدى دخولنا إلى البيت القديم في الجميزة، المسمّى "فيلا باراديزو"، على ما نعتقد، تستقبلنا قامة بشرية مصنوعة من المعدن، للفنان ساري كيوان، تقف على برميل فارغ، وتمد ذراعها اليمنى الكبيرة نحو المجهول، كأن تلك الذراع ممدودة صوب ما لا نعرفه، ولا يعرفه الصانع. مَن منا يعلم إلى أين تسير سوريا؟ صارت مجريات الحوادث غامضة إلى الحد الذي يفتح الباب واسعاً أمام المحللين والفقهاء والعرّافين، على أنواعهم، وصار الأفق مفتوحاً لإجتهاداتهم المتذاكية، في حين ينوء شعب بكامله تحت ثقل أزمة متشعبة، أغرقته في مستنقات الفقر والعوز، من دون أن تفقده الأمل بحياة كريمة، بالرغم مما يتعرض له من محن، وما يعترضه من صعوبات لا عد لها ولا حصر.
رأينا، أيضاً، لدى فادي حموي خروفاً بهيكله العظمي. يبدو الحيوان الذي تتغذى الخليقة بلحمه كأنه تعرّض لتصوير شعاعي. لم يغب الرمز عن ذهننا، شاهدنا في الخروف الذي لم يبق منه سوى العظام، صورة لكل ما يتصل بوطن نُهش لحمه. هذا خروف يختلف عن خروف علي الديك، المربوط مع أقران له في حديقة تلفزيونية مصطنعة، يؤدي المغني الصارخ فيها أناشيد نوستالجية في مديح زمن متهالك. نفّذ محمد لبشي عملاً تجريدياً تفوح منه رائحة المأساة، رغم أنه لم يتعاط معها من منظور واقعي. أما وجوه غيلان الصفدي فتحمل كل التعابير الممكنة، علماً أنها رُسمت بالأسود والأبيض على الورق وبمقاسات صغيرة؛ وجوه محشورة ضمن مساحة الورق ومتفاعلة في ما بينها. ثمة وجوه أيضاً لأنسي حمصي، مبعثرة على القماش عمودياً وأفقياً وبالألوان التي يبرز منها الأحمر أكثر من سواه. لم يشأ الصانع أن يترك فسحة تساعد اللوحة على التنفس، مع أنها كانت واجبة في اعتقادنا لضرورات تأليفية، لكن هذا التكثيف الظاهر قد يكون ذا معنى ودلالات. هذه الفسحة حاضرة في العمل العائد إلى حسكو حسكو، علماً أنها عبارة عن فراغ مستقى من حيثيات الطبيعة، يفصل بين حيوانين يصعب تحديد هويتهما، ينظران أحدهما إلى الآخر شذراً عن بعد، ويتهيأ لنا أنهما يستعدان لمعركة طاحنة، في محيط طبيعي أقرب إلى صحراء منه إلى واحة. أما رسم عادل داوود الغرافيكي فهو ذو إتجاه تجريدي، ويشي بحرفية في التكوين الذي تفوح منه رائحة الرمز. لفتنا العمل الذي نفّذه ربيع كيوان، نظراً إلى المقاربة التأليفية التي انتهجها بوضعه مجموعة من القامات البشرية في الجزء الأعلى من العمل، تكاد رؤوسها أن تلامس حدود القماش، وهي في وضعية علائقية يؤكدها التشابك القائم في ما بينها، في حين تدلت الأرجل نحو الأسفل، ويُضاف إلى ذلك أن وجوه القامات تحمل تعابير مختلفة، بالرغم من وحدتها وتقاربها في المردود التشكيلي، كأنها انعكاس لحالات إنسانية متقاربة – متباعدة، بحسب تعاملها مع الحدث، وعلاقتها به.


استنتاجات
وإذا شئنا بلوغ استنتاجات معينة، على قاعدة ما رأيناه، وما ذكرناه، فيمكن القول إننا في صدد التعرّف إلى خامات عديدة، بلغ بعضها درجة الإستحواذ على مفرداته التشكيلية، في حين لا يزال البعض الآخر في طور التجريب، من دون أن تُفهم مسألة التجريب، هنا، كإشارة إلى ضعف معين، بقدر ما هي تعبر عن محاولات البحث المستمر، لدى الجميع بلا إستثناء، بغية الوصول إلى خلاصات وأساليب مكتملة، ولو نسبياً. في كل الأحوال، لا يبقى لنا إلاّ أن نشيد بالجهد الذي تبذله دار الإقامة في عاليه، في سعيها نحو خلق مساحات حرّة وفرص للتشكيليين الشباب، الذين سيساهمون حكماً، وبمشاركة أقران لهم، أكان في سوريا أم في بلاد أخرى، في تقديم إضافات إلى عالم التشكيل في سوريا، وهو العالم الغني أصلاً.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم