الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - الحياة اليومية في رمضان: زحمة إعلانات ومسلسلات تلفزيونية في نهارات صيفية طويلة

محمد أبي سمرا
تحت الضوء - الحياة اليومية في رمضان: زحمة إعلانات ومسلسلات تلفزيونية في نهارات صيفية طويلة
تحت الضوء - الحياة اليومية في رمضان: زحمة إعلانات ومسلسلات تلفزيونية في نهارات صيفية طويلة
A+ A-

كيف يغيّر رمضان مشاهد الحياة اليومية وإيقاعها ومواقيتها؟ تبدأ الصباحات متأخرة هادئة في الصيف، ويتأخر مغيب الشمس، وتشهد الشوارع والشاشات التلفزيونية زحمة في الاعلانات والمسلسلات، وتتضاعف زحمة السير بعد الظهر، لتخمد في وقت الإفطار وبث المسلسلات الرمضانية المتكاثرة.


في اللافتات الاعلانية الترويجية على جنبات الشوارع وفضائها البصري، تختلط في استقبال فصل الصيف الاعلانات عن الرحلات السياحية والترفيهية بالاعلانات واللافتات والشعارات والمجسمات الرمضانية. اما محطات البث التلفزيوني الكثيرة فجعلت من اقتراب بداية رمضان محطة فاصلة وصاخبة لمنافساتها المحمومة على بثّ الاعلانات عن برامجها الخاصة بشهر الصيام: المسلسلات الرمضانية، الاشارات والمقدمات والشعارات ومجاميع الاعلانات التجارية والاستهلاكية الخاصة بهذه المناسبة التي تستغرق شهراً من البث التلفزيوني الذي ينطوي على اعتبار الشهر بيتياً وتلفزيونياً بامتياز.


سوق إعلانية
المصارف بدورها – وهي أقوى قطاع اقتصادي مالي في لبنان – استدخلت المناسبة الرمضانية استدخالاً واسعاً وقوياً في اعلاناتها الترويجية، فشاركت جمعيات وهيئات ومؤسسات رعائية ودينية اسلامية في اعلاناتها ولافتاتها وشعاراتها التي نشرتها في الاماكن العامة. لم تفوّت المؤسسات المصرفية المحطات التلفزيونية من حضورها الواسع، فدخلت معها في شراكات ورعايات لبرامج رمضانية كثيرة. نجوم التمثيل في المسلسلات الدرامية، هبّوا بدورهم الى الترويج لمسلسلاتهم وللمحطات التي تبثها. الاذاعات لم تدع المناسبة خارج اهتماماتها وبرامجها، فحضّت مستمعيها على الحديث عن رمضان وشعائره وطقوسه العائلية والأهلية في بثها المباشر، واستعادت من أرشيفها الإذاعي القديم منوّعات ومسلسلات وأناشيد رمضانية. المولات وسلاسل السوبرماركت الكبرى، نشرت اعلاناتها الخاصة باللحوم والمواد الغذائية على لافتات الشوارع، وضاعفت المحطات التلفزيونية هذا النوع من الاعلانات على شاشاتها، الى جانب تكثيفها برامج الطبخ.
"دار الايتام الاسلامية"، كعادتها المزمنة، هي المؤسسة الرعائية الأطول باعاً والأقوى حضوراً في استقبال رمضان في الشارع البيروتي، فنصبت مجسماتها واعلاناتها ولافتاتها في كثير من شوارع المدينة واحيائها، وسيّرت ايتامها في مواكب احتفالية في بعض الاحياء والشوارع. "دار الفتوى" و"صندوق الزكاة" حدّثا الاعلانات التي تحض على الزكاة، بتوجيهها الى فئات عمرية شابة من الذكور والاناث من اصحاب المهن والاعمال الحرة المحدثة، ودخلت في اعلاناتها هذه في شراكة مع مؤسسات تجارية كثيرة متنوعة، تحت عنوان "يلاّ نزكّي". الجمعيات والمنظمات الكشفية الاسلامية أحيت ايضا عروضها في بعض الاماكن العامة. جمعيات المساجد والروابط الاهلية لم تغب عن المناسبة، فنشرت اعلانات وشعارات رمضانية بأسمائها.
محال صناعة الحلويات وبيعها، المطاعم على أنواعها، تهيأت بدورها، فبدّلت مواقيت عملها واستقبالها زبائنها الذين يزدحمون يومياً قبيل مواعيد الافطار بساعة او اثنتين على ابواب المحال التي تقدم في الاحياء انواعا خاصة من الحلوى والافطارات طوال شهر رمضان. هناك مطاعم للفول والفتّة في الاحياء الشعبية لا تعود تعمل الا من ساعات بعد الظهر حتى مواقيت السحور، ومثلها تفعل محال بيع عصائر الفاكهة والجلاب والمعجنات والكنافة بالجبن.


رمضان الصيفي
إلى هذه السوق الإعلانية والدعائية الناشطة، يبدّل شهر الصوم إيقاعات الحياة اليومية ودورتها ومواقيتها ولغتها ومبادلاتها: المدارس والجامعات تنهي عامها الدراسي في بدايات فصل الصيف، مما يقلل زحمة السير في الصباحات التي يؤخر حلول رمضان يقظة فئات واسعة من الناس فيها لساعات، فتبدو شوارع المدينة في الصباحات الرمضانية كحالها في نهارات الآحاد هدوءاً واسترخاء حتى الظهيرة، على الرغم من أن المؤسسات العامة، الحكومية والخاصة، تفتح أبوابها وتعمل طوال هذا الشهر. لكن الناس يؤخرون، على الأرجح، متابعة شؤونهم ومعاملاتهم في هذه المؤسسات حتى الظهيرة تقريباً، كي يغطّوا في نوم رمضاني متأخر. هذا إضافة إلى أن سيدات المنازل، العاملات وغير العاملات، يؤخرن أيضاً مواعيد تبضعهن من المتاجر إلى أوقات اخرى من النهار، فتتأخر المتاجر في فتح أبوابها واستقبال زبائنها.
العوامل هذه كلها مجتمعة تجعل الصباحات الرمضانية هادئة وخالية من الضجيج وزحمات السير. ثم إن حلول رمضان في فصل الصيف يشكل عاملا إضافياً في انعدام الزحمة الصباحية التي تجتاح الشوارع في النهارات الماطرة لساعات طويلة، بعد أن تحولها مستنقعات يصعب على المشاة والسيارات الخوض فيها لاجتيازها. اما في نهارات السبت والأحد الرمضانية الصيفية، فتعيش المدينة وشوارعها وأحياؤها في حال من الخمول، إلا في مساءات ما بعد الإفطار. فسبوت رمضان الصيفي وآحاده، يقل فيها انتقال فئات من اللبنانيين إلى قراهم وبلداتهم في الجبل (وخصوصاً في الجنوب)، لكن قلة الانتقال هذه لا تعني أن هذه الفئات تكثر من التنقل في شوارع المدينة وأحيائها في عطلات نهاية الأسبوع الرمضانية.
يتضاءل في نهارات الصيف الرمضاني ارتياد المسابح والمتنزهات، حتى في الآحاد. كما يشهد السهر الشبابي في المرابع الليلية شيئا من الخفوت. فهناك شبان وشابات من رواد هذه المرابع والمسابح يكفّون عن ارتيادها في شهر رمضان وينصرفون إلى الصيام والصلاة، انسجاماً مع التقاليد والعادات الدينية في هذا الشهر.


الزحام الرمضاني
يتأخر دبيب الحياة اليومية إلى ما بعد الصباحات في رمضان، لكن النهارات الرمضانية الصيفية طويلة، قياسا إلى الشتائية. فمغيب الشمس يتأخر إلى حدود الثامنة مساء في الصيف، فيؤجل الصائمون والصائمات مواقيت تبضعهم وتبضعهن لتحضير الإفطارات إلى ما بعد الظهر بقليل، وهو وقت انصرافهم من أعمالهم ووظائفهم، فتشهد الشوارع ذروة ازدحامها في هذا الوقت. لكن هذا الزحام يختلف عنه في الأيام العادية في أنه زحام أشد توتراً واختناقاً. ذلك لأن الصيام يضاعف توتر سائقي السيارات في الزحام واستعجالهم الوصول إلى بيوتهم ومتاجر تبضعهم، لزوم الإفطار الذي يضاعف بدوره أصناف المواد التي يتبضعونها من اللحوم والخضر والفاكهة والحلويات والعصير. وهذه تكون متاجرها ومحالها قد ضاعفت كميات معروضاتها وأضافت إليها أصنافا جديدة يتزايد الطلب عليها واستهلاكها. ضيق الصائمين وغير الصائمين في ذروة ازدحام السير طوال ساعات ما بعد الظهر، تضاعفه في كثير من الشوارع موجات عبور الدراجات النارية المسرعة بين ارتال السيارات المتوقفة، مطلقة زماميرها صخّابة، كأنها طعنات صوتية في معركة حامية يختلط فيها معدن المركبات الساخن مشحوناً بتوتر السائقين وسخطهم وشتائم بعضهم، وخصوصاً سائقي سيارات الأجرة والدراجات النارية المنطلقة كأسهم نارية في الزحام الذي يمتلئ فضاؤه بسخام العوادم الكربوني الخانق، فلا يخرج الصائم وغير الصائم من هذه المعركة إلا مهدماً قانطاً.


الإفطار والسحور
لكن هذا كله لا يبقى منه أثر في الشوارع في وقت الإفطار، حين تخلو الشوارع إلا مما ندر من السيارات والمشاة وراكبي الدراجات النارية المسرعين. ولا بد من سيارة او دراجة تخترق متأخرة خلاء بعض الشوارع وهدأتها كطعنة متمادية تخلّف وراءها أصداء الطعنة الصوتية في أجسام آخر المشاة او الواقفين على الارصفة، فيطلق بعض هؤلاء شتائمه ضد سائق السيارة او الدراجة المنطلقة بسرعة جنونية، ولا يندر ان يتمنى له أن يلقى حتفه في الحال، رداً على طعنة الرعب التي ألمّت به على الرصيف، أو في وسط الشارع.
ثم ينصرف الصائمون وغير الصائمين الى افطاراتهم البيتية أو في المطاعم بعيد مغيب الشمس، فلا تُسمع في الشوارع سوى اصوات قليلة متباعدة نائية، عارية من الضجيج العمومي النهاري المنطفئ شيئاً فشيئاً، كانطفاء نور الشمس عند المغيب الصيفي المتأخر. ولا يندر أن تُسمع في هدأة شوارع الأحياء السكنية الداخلية وسكونها، بعض أصوات الملاعق والشوك المعدنية في ارتطامها ببورسلان الصحون، فيما تنتشر في الشوارع هذه روائح الطبخ قوية نفاذة. وقد يتخيل عابر ما في شارع، ذلك الصمت الذي يخيم على الموائد البيتية العامرة في لحظات بداية الإفطار. أما على رصيف كورنيش بيروت البحري فيغيب قبيل المغيب وبعده بقليل، المتنزهون من غير المشائين المواظبين على التريض والمشي السريع في الأمسيات.
شيئاً فشيئاً يبدأ خروج الصائمين من منازلهم أو من المنازل والمطاعم المدعوين الى تناول افطارهم فيها. يخرجون الى الشوارع وينتقلون في السيارات في اتجاهات شتى. إما للقيام بزيارات، وإما للترويح عن النفس والجسم من عناء الصيام وتخمة الإفطار. لكن أوقات ما بعد الإفطار غالباً ما تُخصص لحضور المسلسلات التلفزيونية الرمضانية الكثيرة على الشاشات في جلسات بيتية مسترخية. فيختار كلٌّ مسلسله المفضل، حسب ميله وهواه.
من مشاهدة سريعة متقطعة ومتنقلة بين مسلسلات محطتي "المنار" و"المستقبل" في أمسيتي اليومين الأولين من رمضان، بدا ان "المستقبل" يبث مسلسلاً يستلهم في حداثته وعصريته مشروع الحريرية "لإعادة الإعمار والبناء" في مطالع تسعينات ما بعد الحرب في القرن الماضي، مركّباً عليه قصة وموضوعا وشخصيات درامية على صلة بطموحات جيل شاب عاد إلى بيروت بعد هجرته في زمن الحرب، وتحصيله تعليماً وخبرات في الخارج. هذا فيما ظهر من مشاهدة حلقتين من مسلسلين تبثهما محطة "المنار"، استغراقهما في استلهام قيم "الإسلام الرسالي والجهادي" في البيئة الاهلية اللصيقة بـ"حزب الله" وتربيته الدينية ومعاييره الاخلاقية، مرفوعة كمثالات عليا أو متعالية ليتماهى معها الأهل في علاقاتهم ولغتهم، رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً ومشايخ. أما مرجع هذه البيئة الاهلية، فمستل من صور صنعها تديّن "حزب الله" الرسالي والشعبوي، وقبله الفولكلور الشعبوي اليساري، عن جبل عامل والجنوب اللبناني، ولهجتهما المحلية التي يبدو ان مسلسلي "المنار" رفعاها إلى مرتبة العقيدة الدينية. وكان روجيه عساف في عمليه المسرحيين، "أيام الخيام" و"من حكايات 1936"، في نهايات السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، قد رفع تلك اللهجة الى مرتبة تجديد اللغة المسرحية، بعدما أضفى على فولكلوريتها وحيويتها بعداً نضالياً شعبوياً.
في أمسيات ما بعد الإفطار، يبدأ أطفال وفتيان في بعض الأحياء الشعبية تسلياتهم بالمفرقعات النارية في الشوارع، منذ ايام رمضان الأولى. وترتفع وتيرة تسلياتهم هذه، لتصل الى ذروتها في أمسيات عيد الفطر السعيد. بعد المفرفقات والمسلسلات التلفزيونية، أي بعد التاسعة او العاشرة مساء، تستعيد الشوارع حيويتها مجدداً، حتى تخمد في منتصف الليل تهيوءاً للسحور الذي يستمر حتى وقت الإمساك قبيل الفجر.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم