الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

على مدى العمر

أنطوان الدويهي
على مدى العمر
على مدى العمر
A+ A-

في تلك السنين الحافلة بالعنف، لم يكن في "الحي القديم" الملتئم منذ قرون حول كنيسته الأثرية، أيّ مقهى، أو نادٍ، أو ملتقى. حتى لم يكن من طبيب، باستثناء "الدكتور فيليب"، طبيب الأسنان، المقيم ها هنا من زمان، الهادئ، الرزين، الرفيع الخُلق، وسط بحر الاضطراب. كنت أتساءل : كيف لـ"الدكتور فيليب" نعمة السكينة؟


كان هناك فقط "صالون فؤاد للحلاقة". كان فؤاد يأتي بـ"النهار" كل يوم، وكنت أطّلع عليها عنده كل يوم، بعد عودتي من "معهد الأخوة دولاسال" في طرابلس، وآخذ وقتي في قراءتها في أيام العطل. وخصوصاً صفحة "أدب فكر فن". هكذا على مدى سنين. وكنت أشتري "النهار"، مرّة في الأسبوع، يوم صدور "الملحق"، لأقرأه واحتفظ به.
كان "معهد الفرير" صرحاً تعليميّاً باهراً، خرّج، على مدى أكثر من قرن، نخب الشمال. وأنا أكنّ محبة وتقديراً عميقين، لأولئك الأخوة، الذين عاشوا نذور "الفقر والطاعة والعفّة"، وكان يربطهم بالبيئة المقيمين فيها الكثير من الودّ والعرفان. أدرك الآن، تمام الادراك، أن الذين كانوا ينجحون، آنذاك، في الوصول إلى صف الفلسفة في "معهد الفرير"، وهم قلّة مختارة، ويحصلون على شهادة الفلسفة اللبنانية، أو الفرنسية، أو خصوصاً على الشهادتين معاً، كانوا، بلا شك، أرفع مستوى، في المعرفة والثقافة واللغات والتأليف، من معظم حملة شهادة الدكتوراه اليوم. لا مجال للمقارنة. في مرحلة "حرب السنتين"، بعدما شاخ، أو توفّي، الأخوة الفرنسيون والأوروبيون، وتسلّمَ زمام الأمور الأخوة المحلّيون، حضرت "الشطارة اللبنانية" إلى المكان، وتمّ بيع المعهد، كما أراضيه الجميلة عند بحر الميناء، في صفقة تجارية- سياسية معروفة الأشخاص والخيوط، ثم جرى هدمه، وتشييد مبان على أرضه، بشاعتها لا توصَف. هكذا فقدتْ طرابلس والشمال أهمّ صروحهما العلمية والمعمارية في القرن العشرين. لم يعد لـ"معهد الفرير" و"بريّة" الميناء من وجود إلاّ في أحلامي الليلية.
إلى جانب "المعهد"، كان هناك، طوال تلك السنين، مصدر معرفي مهمّ آخر، "الملحق" وصفحة " أدب فكر فن" في جريدة "النهار"، اللذان أكملا ثقافة "المعهد" الكلاسيكية المتينة، بتوفير ثقافة طليعية، معاصرة، منفتحة على أرجاء العالم، ومشبعة بالجرأة والنقد وإعادة النظر والتسامح والتعدد، وبروح الحريّة، كان لها وقعها في نفسي، كما في جيل كامل وما تلاه. لذلك، ولاعتبارات إبداعية أخرى، كتبتُ مرّة، قبل عام، في "رسالة إلى أنسي الحاج"، أنّي لو سُئلتُ مَن هم الأشخاص الأكثر تأثيراً في الذات اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، لذكرتُ عائلةً ورجلاً. العائلة هي عاصي وفيروز رحباني، والرجل هو أنسي الحاج. أنسي الشاعر الرائد، وأنسي "الملحق"، وصفحة " أدب فكر فن".
غاب "الملحق" طويلاً، ثم عاد. استغربتُ كثيراً غيابه، ولم أفهم الأسباب. ثم عاد مع الروائي الياس خوري، وفي فترة لاحقة انضم الشاعر عقل العويط، وقد جهد الإثنان في إحياء تلك الروح الطليعية، وتلك المساحة الفريدة من الحريّة، في زمن مختلف، أشبه ما يكون بالمستنقع، خلّفته وراءها الحروب المتوالية منذ عقود على أرض لبنان. زمن الركام. وأنا أقدّر وأثمّن تلك المحاولة وأحيّي رمزَيها.
ثم، منذ سنين، بات عقل العويط، الوثيق الصلة بروحيّة المؤسِّس، يحمل وحيداً مشعل "ملحق النهار". برز في زمنه تحّولٌ هائل، لم يكن يتوقّعه أحد: الثورة العربية، التي أطاحت ديكتاتوريات طاغية، بدت أبدية في بقائها الطويل وجمودها وتخلّفها. مع أن لا شيء ثابتاً حقاً في المجتمعات.
جعل عقل من "الملحق" مرآةً وصوتاً لتلك الثورة التي رفعت عالياً راية الحرية البشرية. وأضحى "الملحق" ملتقى أحرار العالم العربي في زمن بيروت الجريح، التي انطلقت منها، أساساً، الشرارة. لكن ما لبث الحلم الكبير أن ضاع في متاهات مؤلمة، وبرزت على جوانبه الأهوال، وأفلتتْ جحافل التطرّف والجنون من عقالها في كل مكان، وها هي المنطقة بأكملها على شفير الهاوية. إلى أين؟ لم يعد مَن يقدر على الإجابة. و"الملحق"، من منارته الثقافية التنويرية، يدقّ ناقوس الخطر كل أسبوع، ويساهم جاهداً، وسط متاهات المرحلة، في منع الكارثة.
لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّي لست قارئ "الملحق" فقط، بل كاتبه أيضاً. منذ نحو ربع قرن، هو المساحة التي أنشر فيها، إلى نصوصي الأدبية، الشعرية والسردية، ما أصوغه حول هواجس فكرية ثلاثة: مسألة الحريّة، الدفاع عن الطبيعة وجمالية المشهد، ومعنى التاريخ اللبناني.
يبقى عليَّ القول، في هذه الشهادة الذاتية، بأن علاقتي بـ"ملحق النهار" تتجاوز صفة القارئ، المتابع منذ زمن الصبا الأوّل، كما تتجاوز صفة الكاتب.
"الملحق" هو أيضاً، وخصوصاً، بيت الصداقة الوثقى. فأنسي الحاج وعقل العويط هما صديقا العمر، على مدى الزمن، في الإقامة والهجرة، والحضور والغياب، والماضي والآتي، وفي مطارح الروح.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم