الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رمضان في لبنان: من الفتّوش إلى الحدف (2)

المصدر: النهار
زياد سامي عيتاني *
رمضان في لبنان: من الفتّوش إلى الحدف (2)
رمضان في لبنان: من الفتّوش إلى الحدف (2)
A+ A-

المسحراتي


تأثرت وتفاعلت المدن اللبنانية خلال الحقبة الماضية وفي عصرنا الحاضر بظاهرة "المسحّراتي" الذي صار مع مرور الزمن يشكل جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليدًا ملازمًا له. فما إن يهلّ هلال رمضان حتى يتطوع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحّراتي" فيرتدي زياً خاصاً ويجول في الشوارع ليلاً ضارباً على طبلته بقضيب من "الخيزران" ومرسلاً صوته الشجيّ ومنشدًا أناشيد دينية ومناديًا الناس بأسمائهم وداعيًا إيّاهم لتناول طعام السحور.
وقد جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية" وهي عبارة عن مجموعة من منشدي أشعار السحور على أنغام الرق والمزاهر فتخرق أصواتهم سكون الليل لتُسمع مناجاتهم في كل المنازل التي تلقى الاستحسان عند أصحابها. ومن الأشعار التي كانوا ينشدونها:
يا نفس نلت المنى فاستبشري وسلي هذا الحبيب وهذا خاتم الرسل
وهو الذي عند يوم الحشر نافعنا إذا استغثنا به من شدة الوجل


****
الأطباق الرمضانية


اقترن شهر رمضان بمأكولاته الخاصة التي صارت تعرف بأطباق رمضان، نظراً لعدم خلو مائدة منها على مدى ثلاثين يوماً متواصلة.
فالمأدبة الرمضانية في بيروت زاخرة بالأصناف المتنوعة ذات المذاق الشهي والفائدة الصحّية التي تساعد الصائم على مقاومة ساعات الصوم ومشقاتها.
ومن الأطباق الرمضانية التي لا تغيب عن مآدب الإفطار "الفتّوش"، و"حساء العدس"، و"التسقية" المعروفة بـ"الفتة"، و"الثريد"، و"الحرّاق أصبعو" و"الكبة بالصنية"، و"الأرنبية" و"الأرز على لحم أو الدجاج"، وسواها من المأكولات القديمة التي لا تجيد طهيها سوى ربات البيوت من الجيل القديم.
وفي حلقتنا اليوم سوف نتناول بشكل أساسي نوعين من المأكولات المرتبطة بالشهر الكريم في لبنان: "الفتّوش" و"الأرز باللحم والدجاج".
الفتّوش
عرس ومهرجان الخضراوات يتجمع في طبق واحد هو طبق "الفتّوش" الذي يزين مائدة رمضان بمكوناته التي تضمّ باقة غنية ومتنوعة من الخضار الشهية والطازجة التي تزهر وتثمر في كل المواسم، فيضفي رونقاً ولا أجمل على المائدة الرمضانية سواء لجهة نكهته اللذيذة أو لجهة ألوان الخضراوات المقطعة الزاهية فكأنه حديقة مصغرة على المائدة.
و"الفتّوش" هو السلطة اللبنانية بامتياز، لأنها انطلقت من المطبخ اللبناني وارتبطت باسمه، لتشتهر بها بعد ذلك سائر المطابخ العربية على الإطلاق، لاسيما في سوريا والأردن وفلسطين.


وشهر رمضان المبارك أكسب "الفتّوش" شهرة واسعة لا تُضاهيها شهرة أي نوع من السلطات، لأنه الطبق اليومي على موائد الإفطار.
فخلال فترة الصوم والامتناع المؤقت عن الطعام يحتاج الجسم إلى نظام غذائي سليم يعتمد بالدرجة الأولى على الخضراوات الغنية بالألياف والفيتامينات والأملاح المعدنية. وهذا ما يتوفر بكثرة في صحن الفتّوش، الذي يتمتع بفوائد غذائية عديدة، حيث صُنف بأنه صيدلية طبيعية.
فـ"الفتّوش" يتكون من الخس والخيار والبندورة والنعناع والبقلة والبقدونس والفجل والفيلفلة الخضراء والبصل الأخضر والزعتر الأخضر، ويُضاف إليه السماق وعصير الحامض ودبس الرمان والثوم والملح والبهار وزيت الزيتون والخبز المحمص أو المقلي.


وهناك حكايتان شعبيتان عن سبب تسمية هذا النوع من السلطة بـ"الفتّوش":


الحكاية الأولى تُرجع أصل الكلمة إلى "فتّ وشوف"، أي يتمّ تفتيت الخضار والخبز إلى فرمات صغيرة، وعندما يُصبح جاهزاً تصبح مشاهدة ألوان مكوناته الزاهية أمراً يبعث على الاستلطاف لناظره. فسُمّي "فتّ وشوف"، ومع مرور الزمن صارت تُلفظ "فتّوش".
أما الحكاية الثانية فتُعيد التسمية إلى أن أصول إعداد وتحضير "الفتّوش" يقتضي تقطيع الخضار بأحجام صغيرة جداً وعندما تُمزج في الطبق تضيع هوية الأصناف فيحتاج كل من يتذوق الفتّوش أن يفتّش (أي يبحث) عن كل قطعة صغيرة في حال أراد التمييز بين مكونات "الفتّوش". فأُطلق عليه تسمية "فتّوش" بمعنى التفتيش.


وكان أهل بيروت وطرابلس قديماً يسمون "الفتّوش" "زريقة"، وذلك لغلبة اللون الأزرق أي الأخضر عليه.
على كل حال فإن "الفتّوش" هو الطبق الذي يرافق الصائمين يومياً عند إفطارهم وفيه الكثير من الجود والكرم اللبناني لكثرة وتنوع مقاديره، فهو سلطة كل الخضرة الخضرا الطازجة والتي تجعلها تقرمش عند تناولها.


الأرز باللحم والدجاج


يكتسب طبق الأرز باللحم أو الدجاج منذ زمن بعيد أهمية خاصة، كونه يرتبط بالمناسبات والأعياد، لأنه كان عالي الكلفة، خصوصاً في زمن المجاعة التي عاشتها بيروت زمن الدولة العثمانية، على اعتبار أن الأرز كان مادة نادرة ومستوردة، في حين أن البرغل كان متوفراً وبكلفة زهيدة لذلك كان معتمداً في تحضير أغلب الأكلات اللبنانية. ومن هنا جاء المثل الشعبي: "العزّ للرزّ والبرغل شنق حالو".
يُضاف إلى ذلك ان استخدام اللحمة والدجاج لم يكن بالأمر اليسير ولا في متناول ربات البيوت، كما هو الحال في يومنا هذا، في ظل وجود البرادات الكهربائية مع إمكانية توفرها في أي وقت.
فكان رب الأسرة يقصد سوق اللحّامين في وسط بيروت المجاور لسوق الخضار المعروف بـ "سوق النورية" لشراء حاجاته من أصناف اللحوم قبل انتشار محلات القصّابين في الأحياء والمناطق السكنية، أو كان يقصد "درج خان البيض" مقابل "اللعازارية" المقابل لساحة السمك لشراء الدجاج الطازج.
هذا ما جعل طبق الأرز باللحم أو الدجاج من الأصناف المميزة على المائدة الرمضانية، إذ تحرص الأمهات والزوجات على اعتباره طبقاً رئيسياً خلال الشهر الكريم، حيث يعمدن إلى تزيينه بالمكسرات والزبيب وحب الهال، لإضافة نكهة مكملة لمذاقه الطيب والشهي.
****


الحدف


بيروت عاصمة الجمال والذَّوْق والتذوُّق أتقنت منذ زمن بعيد صناعة أصناف عديدة من الحلويات الشرقية كـ"البقلاوة" و"الكنافة" و"المعمول" و"البرما" و"الكلاج" و"القطايف"، حتى إنه كان يوجد في باطن بيروت سوق معروف بـ"سوق القطايف" على الجهة الجنوبية الشرقية من شارع "المعرض" الحالي. وقد أُزيل أواخر العهد العثماني بالتخطيط الذي أجراه والي بيروت عزمي بك. وأُطلق عليه اسم "سوق القطايف" لأنه كان مركزاً لتجمع دكاكين باعة هذا النوع من الحلويات العربية.
واقترنت أسماء العديد من العائلات البيروتية بصناعة الحلويات التي تعاقبت عبر الأجيال على إتقانها وابتكارها وانتشرت معاملها منذ القرن التاسع عشر وما زالت مستمرّة حتى أيامنا هذه.


ومن أوائل الذين اتخذوا صناعة الحلوى مهنة وحرفة، كما يؤكد المؤرخ عبد اللطيف فاخوري، شخص يُدعى سعيد الزغلول، الذي اشتهر بصنع نوع من البقلاوة المحشوة بالجوز. وذاع صيتها وأقبل الناس عليها لاسيما في شهر رمضان المبارك ونُسبت إليه فعُرفت بـ"البقلاوة الزغلولية". وكانت عبارة عن قطع صغيرة على شكل Lozange.


وقد تعلّم الكثير من "الحلونجية" في بيروت صناعة "الزغلولية" على يدي سعيد الزغلول وفي مقدمهم ابن عمه عبد القادر أبو عمر، الذي فتح محلاً في منطقة المرفأ في منتصف عشرينات القرن الماضي.
وخلال شهر رمضان المبارك كان يرسل منها عدداً من الصدور إلى جانب مدخل الجامع العمري الكبير في شارع "المعرض" عند صلاة العصر، فُيقبل عليها الصائمون لدى خروجهم من المسجد قبل موعد الإفطار بشكل كبير فيبيعها كلها. وهذا ما جعل "البقلاوة الزغلولية" حلوى موسمية مرتبطة بشهر رمضان المبارك.
ومع مرور الزمن سُميت "البقلاوة الزغلولية" ، بعدما صارت كل محلات الحلويات العربية تصنعها خلال رمضان بـ"حدف رمضان". وأطلق عليها هذه التسمية لأن طريقة تحضير عجينة هذه البقلاوة الرمضانية تقتضي من "الحلونجي" حدفها من اليد اليسرى إلى اليمنى وبالعكس وبطريقة حرفية خاصة، حتى تُصبح العجينة جاهزة للمد في الصواني.


الجلاب


وفي رمضان لا تخلو مائدة رمضانية في بيروت من شراب الجلاب، لأن الصائمين يحتاجون إلى شراب يبدّد شدّة الظمأ وغلّة العطش الذي يسيطر عليهم، خصوصاً إذا تزامن في فصل الصيف، حيث يكون النهار مديدًا والحر شديدًا. وهذا ما عبَّر عنه الشاعر البصري بقوله:
حـزيـران وتـمـوز وآب ثـلاثـة أشهر فيها العـذاب
فإن قُرنت بشهر الصوم صرنا سـبائـك في بواتقها تُـذاب
فالجلاب شراب منعش وطيب ولذيذ وطعمه مدهش، وهو يسمّى شراب الزبيب لأنه في الأصل كان يُصنع من عصير الزبيب ويتمّ تطييبه بالبخور قبل أن يُصبح تحضيره صناعياً بواسطة ثمرة الخروب.
وقد أُطلق عليه هذه التسمية لأن تناوله يجلب الانتعاش والشعور بالبرودة وحلاوة الإحساس، فضلاً عن فوائده الكثيرة المستمدة من الزبيب الذي هو عبارة عن العنب المجفف.
فلقد عرف العرب الزبيب منذ مئات السنين. وأجود الزبيب ما كبر حجمه وسمن شحمه ولحمه ورق قشره. ومدح بعض الشعراء الزبيب ومنهم أبو طالب المأموني الذي قال في وصفه:
وطائفي من الزبيب به
ينتقل الشرب حيث ينتقل
كأنه في الإناء أوعية
من النواجيد ملؤها عسل
وقال فيه ابن سينا: الزبيب صديق الكبد والمعدة وينفع الكلى والمثانة.


وصناعة الجلاب شأنها شأن كل المهن والحِرف تتطلب المهارة و"المعلمية" والذوق الرفيع، لذلك اشتهرت بعض المحلات في لبنان وسوريا بجودة صناعتها لشراب الجلاب واكتسب شهرة كبيرة، وما زالت حتى اليوم تشهد إقبالاً شديداً من المستهلكين خلال رمضان.
وهذه المحلات إضافة إلى بيعها للمشروبات العربية، فكانت تبيع أيضاً الثلج قبل أن تَعرِف بيروت البرادات الكهربائية، حيث كان يُعطى الشاري مع كل قنينة شراب قطعة من الثلج يغلّفها بمحرمته حتى وصوله إلى المنزل فيقطعها شقفاً صغيرة ويضعها في داخل الكبايات التي يسكب فيها الشراب حتى يتمكن أفراد العائلة من تناوله باردا.


• إعلامي وباحث في التراث الشعبي


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم