الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"لغة الضاد" بين أنياب "الفسبكات" وصحافة "الوجبات السريعة" و chatting

شربل أبي منصور
"لغة الضاد" بين أنياب "الفسبكات" وصحافة "الوجبات السريعة" و chatting
"لغة الضاد" بين أنياب "الفسبكات" وصحافة "الوجبات السريعة" و chatting
A+ A-

بعدما كانت موئلاً لنفيس الكلام ودُرره وتُخطّ بماء الذهب، أمسَت مرتعاً لسفيه الكلام وأبخسه ترويها المياه الآسنة، وبعدما اعتدناها حبراً في الدواوين والمجلّدات والكتب، تحوّلت أثيراً في عالم افتراضي. ولكنْ، شتّانَ بين حال الأمس واليوم.

هي في جوهرها وبنيتها طيّعة كعجينة، حيّة، قادرة على التكيّف مع التطور بكل وجوهه غير أنها لا ترضى الميوعة والخِفّة والاستسهال. لذا، فكلّ مَن يحاول أن يرود ملعبها ويخوض غمارها، وليس نظيراً لها ولا ندّاً، بانَت عيوبُه وكثُرت سقطاته فتوسّل مصادر أجنبية مُتذرِّعاً بتحجّرها وعدم مجاراتها الحاضر وقدرتها على التعبير عنه. لكن للحقّ، أقول، هي بَراء من هذا كله. فحرّاس هيكلها هم مَن فرّطوا بالأمانة وخانوا الثقة واستساغوا الأحجار الزائفة بدل الكريمة منها. وأيضاً، للأمانة أقولُ، ليس الجميع، فلا يزال هناك ثوارٌ وأنقياء يخوضون معركة الحق. ولا مجالَ فيها للمُهادنة والتخاذل فهي معركة هُويّة ووجود.


قد يبدو كلامي،  لبعض القرّاء، مُلتبساً أو رماديَّاً أو مبالغاً فيه. لذا، هاكم بعض توصيفات وملامح قد تقشعُ الغيومَ وتُبدّدها: هي ظَبيةٌ من قُريش أدْماء. كِنيتُها الضادّ. تعبقُ في ثناياها رائحة الهال. في عينيها حور. جسدها مخضّب بالحِنّاء. تلازم خِدرها خوفاً من العيون. يغارُ من بياضها الثلج، وتحترق الشمس لملامسة بشرتها. هي تسكن القلب، واللسان، والفكر، هي الأم والحبيبة والزوجة، هي لغتنا العربية.

ربما يقول قائلٌ أيّ هُراء هذا يتفوّهُ به، وآخر يراه تروبادورياً أو يوتوبياً، وثالث قد يجد فيه غلوّاً ومغالاة، ولكن، أسألكم: أليس مُسفّاً ومُعيباً أن نشهد في الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع ووسائل التواصل ما يحطّ قَدْر #اللغة_العربية وينتهك قواعدها ويغتصب بنيتها ومفاتنها؟ أيقبلُ أحدٌ أن يخونَ إمرأته لمجرّد تمنّعِها، وأن يجلبَ لها أجنبيات دخيلات إلى عقر دارها؟ أليس هذا انتقاصاً من قيمته أولاً قبل أن يكون انتقاصاً من إمرأته؟ إذاً، لمَ نقبلُ بالحاصل على لغتنا؟ لماذا دائماً نفضّلُ لغاتٍ أخرى على لغتنا وكأنّ "الكنيسة القريبة لا تشفي"؟، أيُفترضُ أن أُجيدَ لغات أجنبية لأكون مثقفاً وذا قيمة وإن حافظتُ على لغتي العربية وأتقنتُها أكونُ رجعياً متخلِّفاً؟


يبدو أننا كنّا غافلين عن لغتنا لنلحظَ مدى الهُزال والهشاشة اللذين أصاباها حتى لنكاد نقولُ إنّها على وشك الاندثار! وربّما ما فتّحَ أعيُننا على بؤس حالها والدَّرك الذي وصلته هو ما نشهده في #الشبكة_العنكبوتية من لَغْوٍ ولَحَن وهنات في اللسان العربي، وخصوصاً الميديائية حيث لا اعتبار لأبسط مقوّمات اللغة لئلّا نقول ازدراء بيّناً. فالصحافة الإلكترونية أصبحت كالوجبات السريعة (Fast food) يهمّها إشباع القارئ بغضّ النظر عن نوعية المادة وجودة محتوياتها، ومغذِّياتها وصحتها. وهذا ما يُفسد ذائقة القارئ، ناهيك بتهشيم قواعد اللغة فيُمسي الفاعل مفعولاً به والمفعول به مضافاً إليه وهلمّ جرّاً.


أما لو جُلْتَ بناظرَيك في "تويتر" وفايسبوك" فتشعرُ كأنّك في "برج بابل" جديد. تغريدات و"فسبكات" لا يمكنك تمييز اللغة المكتوبة فيها، أحقّاً  ما نقرأه كُتب بالعربية، أم هو بالسنسكريتية أو المسمارية؟ وكذلك تشيع حالياً  لغة بين الشباب تعرف بـ "Chatting" توالف بين الأرقام والحرف الأجنبي (2ana ، 3ende، 7abibi...)، وهذا يزيد الشرخ بينهم وبين العربية ويُضاعف النأي عنها. في المقابل، نحن لا نتوخّاهما وسيلتَيْ فصاحة، ولكن أيضاً لا أن تصيرا وسيلتَي سفاهة. جرائم "داعشية" تُرتكب لا قانون يُحاسب عليها: تزوير مقالات، انتحال صفات (شاعر، روائي، صحافي...)، تحوير أشعار وأقوال، تشويه نظريات وخلخلة أُسس وانتهاك قواعد... والسؤال: أين الإنسان من احترامه لغتَه التي تنبع من احترامه ذاتَه، فكرَه، إرثَه الثقافي، تاريخَه، وجودَه؟


لا شكّ في أنّ ما آلت إليه اللغة العربية هو نتيجة تراكمات مزمنة، لا يتحمل مسؤوليتها الجيل الحالي وحده، بل إنّ جميعنا في موقع المساءلة والاتهام. ونحن لسنا في وارد الوقوف على الأطلال والبكاء على مُلكٍ قد يضيعُ منّا، بل نسأل: ألسنا نحن مَن تركنا أرضنا بوراً، من دون حراثة، وشلَحنا معاولنا حتى صدأت واهترأت؟ ألسنا نحن مَن استبدلنا دوالينا بأشجار من اللبلاب وانتظرنا العنب والزبيب والنبيذ؟! ألسنا أنفسنا مَن دفنّا الوزنات، واختلفنا في ما بيننا على قسمة تَرِكة هذه الأرض، حتى فقدَتْ قيمتها وأصبحت سائبة ومشاعاً، فتركنا أشجارها من غير تشذيب ولا تشحيل ولا تطعيم، واستنظرنا ثماراً؟


القرّاء الأعزاء، الحبّ دائماً هو السبيل والخلاص والملاذ. وحده يُصلح ما أفسده الدهر واقترفته أيدينا. لذا، ها أنا أعلنُها مجدداً، جَهاراً وعلى الملأ، حبيبتي. ولكن لا يظنّنَ أحدٌ أنّ وصالَها اشتمام زْهر، بل هو أقرب إلى ترويض النفس، إلى الإدمان، إلى الانتحار. أنا في حضور غادتي الحسناء العاشقُ الولِه. أتوسّلُها كغريقٍ طوقَ نجاة. أداهنُها، أتملّقها، أتحايل عليها علّها تغدق عليّ بعض فُتاتها. أنتحبُ على قدميها كخاطئ يكفّر عن ذنوبه. لكنّ، حبييتي وحشيّة يصعُب ترويضها، متونُها واسعة وشعابها وعرة وحفافيها عالية، لأصلها عليّ أن أعبر البحار والصحاري، وأستعيد ألف ليلة وليلة، وأجبه حراسها وشعراءها وأخلّاءها ومريديها ومناصريها، وأبيع روحي من شياطينها، وأميط الف لثام ولثام عن ماضيها، وأغرف من حكمة متنبّيها، وأتقن الفروسية كعنترتها، وأذوبُ هياماً ووَجْداً كجميلها، وأتبحّرُ بلاغةً في نهج عليِّها.


اللغة هي ابنة بيئتها ولسان حال أبنائها، وهذان التشظّي واللاتوازن اللذان يصيباها هما نتيجة التأزم والتقهقر اللذين يعانيهما العالم العربي. وما السبيل إلّا باحتضان لغتنا والإيمان بها، والتفاعل مع الوارد إليها لا فقط التلقي سلبياً وببغائياً، إذ بعدذاك لا ينفع الندمُ "ولاتَ ساعةَ مَندمٍ"...


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم