الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

رشّة ملح - القرار الحكيم... بالبنفسجي

جواد الساعدي
رشّة ملح - القرار الحكيم... بالبنفسجي
رشّة ملح - القرار الحكيم... بالبنفسجي
A+ A-

في العام 1987 دعاني صديق فلسطيني لمشاهدة شريط مصوّر كان قد وزّع آنذاك بشكل خاص ومحدود على كوادر عليا في حركة "فتح". محتوى الشريط لقاءٌ عقده صدام حسين في بغداد مع قيادة الحركة بعدما عادت العلاقات بين الجانبين إلى التحسن في النصف الثاني من الثمانينات. وهو ما تلا خروج قوات الحركة من منطقة البقاع شرق لبنان ثم من طرابلس في شماله أواخر العام 1983 إثر ضغط الخصوم والمنشقين، مسبوقاً بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982.


كانت العلاقة الثنائية بين الحركة والنظام العراقي قد شهدت منذ أواسط السبعينات توترات سياسية وأمنية بعد تشكيل جبهة الرفض واحتضان بغداد لانشقاق صبري البنا (أبو نضال) عن حركة "فتح" وقيام الأخيرة باحتضان بعض أطراف المعارضة العراقية ودعمها في أواخر السبعينات.
في اللقاء المصوّر كان من الجانب العراقي صدام حسين وحده، ومن الجانب الفلسطيني كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات وأعضاء اللجنة المركزية لحركة "فتح".
بعد كلمات المجاملة من الطرفين أخذ صدام حسين يشرح للحاضرين ظروف الحرب العراقية الإيرانية التي كانت مستمرة آنذاك، وخلفياتها ومساراتها. لدى بلوغ الحديث نقطة استعادة الإيرانيين منطقة المحمرة في 24 أيار 1982، التي دفعت النظام العراقي في أوائل حزيران التالي إلى طرح مبادرته لوقف إطلاق النار واللجوء إلى التحكيم الدولي لحل النزاع بين البلدين، ثم سحب قوات الجيش العراقي فعلياً إلى الحدود الدولية بين 20 و30 حزيران استجابة لأحد الشروط التي طرحها الإيرانيون قبل موافقتهم على المبادرة العراقية، لدى بلوغ الحديث هذه النقطة، قال صدام حسين حرفياً: "كنت أضع يدي على قلبي وأخشى أن يتخذ الإيرانيون قراراً حكيماً فيوافقوا على وقف إطلاق النار. لكن، عندما رفض الخميني وقف إطلاق النار ودعا أبناء البصرة إلى استقبال الجيش الإيراني الفاتح، ارتحت وتنفّست وقلت: إيه، الآن سيعرف العراقيون أطماع إيران في العراق".
شخصياً أتذكر أنني قرأت حينذاك في الصحف اللبنانية أن مرشد الثورة الإمام الخميني قد قال أيضاً في تصريح له: "سندخل بغداد فاتحين".
هكذا، بدفعٍ ورغبةٍ من الطرفين، استمرت الحرب ست سنواتٍ أُخر قبل أن يتجرع الإمام "كأس السم" على حد تعبيره ويوافق على إيقافها، لكن بعدما حصدت ما حصدت من أبناء الشعبين وأظهرت صدام حسين "بطلاً قومياً" منتصراً، فتأخر سقوطه الحتمي بيد العراقيين أنفسهم، لأن عصب الجيش العراقي ومعه الكثير من العراقيين انشدّ آنذاك إلى التهديد الإيراني الصريح، فتغاضى ضباطه الوطنيون عن استمرار صدام وبطانته.
في آذار من العام 1991، بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت تحت ضربات التحالف الدولي، أفرغ أحد العسكريين المنسحبين رصاص سلاحه على جدارية رسمت عليها صورة كبيرة لصدام حسين في إحدى ساحات البصرة، فكانت الفتيل الذي أشعل انتفاضة شعبية عارمة امتدت إلى معظم المحافظات وشكّلت تعبيراً عما اختزنته نفوس العراقيين ضد قهر النظام وحروبه الطائشة، لكن الإنتفاضة سرعان ما اتخذت طابعاً طائفياً في محافظات الجنوب والفرات الأوسط، حيث ارتفعت صور مراجع شيعية وقادة إيرانيين وجرى التبشير بانبثاق "الجمهورية الإسلامية العراقية" وترددَ شعار "ماكو ولي إلاّ علي ونريد قائد جعفري".
في ظل هذه الأجواء التي كان يظللها مبدأ "تصدير الثورة" الإيراني، ارتفعت صيحة خليجية وصلت إلى أسماع الأميركان: "إذا نجح الشيعة في الجنوب واستولوا على بغداد، أو إذا أقاموا دولة لهم في جنوب العراق وحده، فإن المد الشيعي سوف يصل إلى الكويت والبحرين ويندفع إلى مناطق أخرى في الخليج وستكون كارثة".
استجاب الأميركان وتغاضوا عن استخدام النظام لكل وسائل القمع والتقتيل بما فيها الطيران المروحي، وذلك في الجنوب والوسط، فقُمعت الانتفاضة، وأعاد النظام سيطرته على جميع المحافظات هناك بعدما خطّ على دباباته "لا شيعة بعد اليوم"، بينما فَرضت القيود الأميركية على استخدامه للأسلحة في الشمال انسحابه من المحافظات الكردية.
هذا المصل الأميركي مدّ بعمر النظام اثني عشر عاماً إضافياً دفع ثمنها الشعب العراقي مقابر جماعية وجوعاً وتدميراً لكل مناحي الحياة الكريمة. سقط النظام في العام 2003 وانتهى، لكن مأساة العراقيين لم تنتهِ، وها هم في حرب طائفية مستعرة منذ اثني عشر عاماً أيضاً، حرب مفتوحة الأفق تغذّيها الشعارات والبرامج والأموال الطائفية من جميع الجهات. على الرغم من ذلك، لا يزال بعض القيادات الشيعية يزعل ويتذمر لو أريد فقط تجنب الشعارات التي تثير حساسية طائفية، وبعض قياداته السنية يزعل ويتذمر كُرمى لعيون "داعش".
كأن الكل الآن، مثل صدام حسين، يخشى أن يكون خصمه حكيماً، ومسالماً، أو مثل مرشد الثورة يصرّ أن يكون فاتحاً. في كل الأحوال، فإن وقود الحرب بسطاء الناس من المقهورين والغلابة، لكن هؤلاء عليهم يقع واجب التنبه لانسداد الأفق في ظل قيادات وأحزاب وبرامج طائفية، وعليهم الإيمان بأن القرار الحكيم الآن بأيديهم، وباستطاعتهم أن يخطّوه، بالحبر البنفسجي، بعد أن يشكلوا احزابهم الوطنية الديموقراطية العابرة للطوائف والأديان والأعراق ويفرزوا قيادات مثيلة، وإن بدا ذلك في هذه اللحظة حلماً ليس إلا، لكنّ إدراك ضرورة الحلم مبعثٌ للأمل.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم