الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تحديقٌ في مرايا الذاكرة

نمر سعدي - فلسطين
A+ A-

قبل أيام كنتُ حاضراً في أمسية ثقافية في حيفا نظَّمها قسم العلوم الإنسانية في جامعتها احتفاء بترجمة رواية جديدة إلى اللغة العبرية عنوانها "الذاكرة حدَّثتني ومضت... سيرةُ الشيخِ المشقَّقِ الوجه"، وهذه الترجمة هي لرواية فلسطينية تدعى "ذاكرة". ضيف الأمسية صاحب هذه الرواية الكاتب والروائي الكبير الصديق سلمان ناطور القابض البارع على تلك اللحظات الهاربة من الذاكرة. وكان موضوع النقاش يتمحور حول قضية النكبة وتداعياتها وما بقي منها بعد سبعة وستين عاماً على حدوثها.
للمرَّة الأولى أستمع بشغف ووجع وبدمعة كبيرة على طرف عيني وبحرقة في القلب، إلى كاتبٍ فذٍّ يتحدث بطلاقة وحرية وذكاء وبلغة تصل إلى القلب قبل الأذن. غاص الكاتب وتغلغل في أصغر تفاصيل النكبة وأسئلتها؛ التفاصيل التي لا تهمّ الباحثين والدارسين بقدر ما تهمنا نحن كبشر، والأسئلة التي تتردَّد بمرارة: كيف خرجوا؟ هل يترك الإنسان بيته بهذه البساطة ويركب الريح متكئاً على حلم أو أمل منخور؟ كيف تناثر على هذه الأرض أكثر من نصف مليون مشرَّد في غضون أيامٍ معدودة؟
خلال النقاش الموضوعي استرجع الكاتب حكاية الشاعر القومي أبو سلمى ولقاءه به في ألمانيا وكيف أنه هُجِّر من بيته (كما سواه من سكان الجليل خصوصاً) وسافر في سفينة لكن مفتاح بيته بقي في يده ولم يسقط كما سقط دفتر أشعاره في البحر لأنه كان مؤمناً بعودته خلال أيام. أضاف أنه كان يمرّ يوميا في محاذاة بيت الشاعر ولا يعرف أن هذا البيت الذي يئنّ من الحزن والوحدة في الحيِّ القديم في مدينة حيفا كان ملكاً للشاعر الفلسطيني الذي مات بعيداً عن حيفا وهو يحلم بالعودة إلى مدينته الفاضلة.
الروائيّ الفذّ هو الذي يجعلك تعيش الحدث بكامل ما فيه من شجون وما فيك من رفضٍ له أو تماهٍ معه. تتسلّل إلى الرواية لتعيش ولو لحظات فيها. يقول سلمان: هناك كائنٌ حيّ من لحم ودم ترك بيته في لحظة ما، أو طُرد منه بقوة السلاح لكنه لا يزال يعيش في مكانٍ ما من هذا العالم، يحنّ إلى وطنه ويتوجّع بصمت وهو يحتفظ بمفاتيح بيته ويحلم بالرجوع في كلِّ لحظة. القضية إذاً لا تزال مفتوحة على كلِّ ما في هذه الحياة الخلّبيّة القصيرة من ألم. أسمع محللاً بعد يومين يقول إن الفلسطينيين هربوا لأن الجيوش العربية طلبت منهم ذلك، وآخر يقول بل بفعل القتل واغتصاب النساء. كنتُ أودّ الالتقاء بأحد مسنِّي قرية عيلوط يوما ما ليحدّثني عن مجزرة منسية، لأن لا أحد من الشيوخ في قريتي يريد أن يتذكر شيئا من تلك الحقبة المسربلة بالدم. لا يهمّ كثيراً الآن كيف طُردَ شعبٌ من أرضه. عندما يحدِّق الضحيَّة في عينَي مَن كان سبباً في خراب حياته ومملكته، تتناسل أوجاعٌ وعذاباتٌ وأسئلة كثيرة. كانت هذه الأمسية فرصةً للتحديق، وفسحةً للكتابة في ظلِّ الدمع. أفكِّر الآن كيفَ استطاع جدّي أن يحيا ثلاثَ عشرةَ سنة بطلقين ناريين في القلب بعد معركة يعبد الشهيرة في العام 1935 التي استشهد فيها الشيخ القسَّام، متنقلاً بين سجن نابلس وسجن عكا لكن قلبه انفجر من الحزن بعد النكبة بشهورٍ قليلة.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم