الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رشة ملح - على باب الخليفة

جواد الساعدي
A+ A-

يكرر إعلاميون وكتّابٌ صحافيون ومثقفون وسياسيون أن تنظيم "داعش" هو صنيعة المخابرات السورية، وبعضهم يضيف الإيرانيةَ إلى ذلك، مستندين إلى تقارير ووثائق أمنية كشفها هذا المصدر أو ذاك ويدعمونها بحوادث منتقاة، مبتورة السياق، متغاضين عن حوادث ومسارات أُخَر لا تخدم هذا الغرض. لا أزعم القدرة على مناقشة التقارير والوثائق الأمنية ولا أريد ذلك، على الأقل لأنها كُتبت بأيادٍ مخابراتية، ولأن أجهزة المخابرات، إلى أي دولة عادت، ليست محط ثقة واحترام المقهورين و"الغلابة"، وأنا منهم، كما لا يهمّني هنا الدخول في جدل يبدو لي أنه سيكون عقيما حول ما يسوقه الأولون من حوادث ووقائع لتدعيم استخلاصاتهم، وذلك تفادياً لقانون "عنزة ولو طارت". لذلك، سأسلّم بصحة ما يستنتجون، مُلقياً بالشكوك الديكارتية في سلة المهملات، مدفوعاً برغبتي الصادقة والمتوافقة مع رغبتهم، الصادقة أيضاً، في دفع وصمة التطرف والإرهاب عن الإسلام وعن أكبر طائفة إسلامية، وعن الذين ثاروا من أبناء سوريا المعذّبة في سبيل مطالب محقة على طريق تحقيق الكرامة والدولة المدنية الديموقراطية. غير أنني بعد هذا التسليم، لا أجد فكاكاً من الافتراض الواقعي بأن أجهزة المخابرات السورية والإيرانية قد أفادت تماماً، وهي تخطط لصنع "داعش"، من سابقة السي آي أي والمخابرات السعودية في التمهيد لصنع "القاعدة" والتأسيس لنشوئها. عندما يواجهني هذا الافتراض، الذي لا بد منه، تنفجر في عقلي جملة من الأسئلة: لماذا لا يكف هؤلاء عن الإرهاب بعد أن ينقلبوا على أجهزة المخابرات، أي عندما "ينقلب السحر على الساحر" كما يردد لسان الحال؟ لماذا يطال إرهابهم المسيحيين والأيزيديين والأكراد وغيرهم من كل مُختلِف؟ لماذا يستهدفون حتى المتاحف والآثار ولم تسلم منهم رموز الحضارة؟ لماذا ينوجد وينتشر إرهابهم في أماكن لا وجود فيها لـ"الرافضة والنفوذ الإيراني"، كمصر، ليبيا، تونس، الصومال، نيجيريا، الفيليبين؟ ذلك على سبيل المثل لا الحصر. لماذا يهددون روما ولا يستهدفون دولاً بعينها، كقطر وتركيا وإسرائيل؟ مرةً أخرى على سبيل المثل لا الحصر.
قائمة الأسئلة طويلة، لكن السؤال الأهمّ من بين ذلك كلّه هو: ما الذي يُغري مطابخ أجهزة المخابرات ويُمكّنها من جعل "شباب الإسلام" عجينةً طيعةً للإرهاب، فتجندهم وتديرهم بهذا الشكل الضخم الواسع الممتد إلى أصقاع عديدة من العالم، وخصوصاً عندما تكون تلك الأجهزة "نصرانية كافرة" أو"رافضية كافرة"؟
تلك هي المسألة التي يجب على المثقفين الساعين الى التغيير والتنوير معالجتها وعدم القفز فوقها. معالجة فكرية لا إعلامية؛ معالجة ترتقي فوق الخطاب السياسي ولا تنحدر إلى مستويات الخطاب التعبوي أو إلى التماثل مع التعليقات المتسرعة على مواقع "التواصل الاجتماعي" التي يتسم معظمها بالسطحية والانفعال العاطفي؛ معالجة تخوض في المراجِع الفكرية والتاريخية والفقهية، تكسر استبداد المتسلطين على النص الديني ولا تترك الأمر حكراً عليهم، كي لا نضطر إلى إعادة إنتاج الموروث مكللاً بخطاب تبريري، ولا نذعن تالياً لجراحات تجميلية ليس أسهل من إثبات زيفها عند الاحتكاك بالواقع.
على المثقف أن يكتبَ ما يليق بمساحته الثقافية، وأن يتحلى بالجرأة الفكرية فينتفض أيضاً على تسلط السياسي الذي يريد أن يدفعه في اتجاهات مغايرة لما هو مطلوب من معالجات. على المثقف ألاّ يخشى قول ما يجب أن يقال وألاّ يخون ضميره ومهمته في مراكمة الوعي الحقيقي، فيندفع لحساب لحظة سياسية خادعة سرعان ما تكشف له ولجمهوره من القراء أنها خادعة، وليس وراءها سوى أبواب الخيبة والخذلان.
كان الشاعر بشار بن بُرْد في مجلس حاجب الخليفة العباسي المهدي ينتظر الإذن للدخول عليه وكان معه آخرون بينهم داعية عباسي. بينما هم يتجاذبون أطراف الحديث سأل الداعية: هل تعرفون ما المقصود في قوله تعالى "يخرج من بطونها شَرابٌ مختلفٌ ألوانُه فيهِ شِفاءٌ للناس"؟ (سورة النحل) قالوا: العسل. قال: لا، هو العلْم يخرج من بطون بني هاشم. فردّ عليه بن برد: جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غَثاثة.
قالها بشار وهو على باب الخليفة العباسي، الهاشمي. هنا يحضرنا نموذجان، نموذج الداعية الذي يتسلط على النص الديني ويتلاعب بتفسير نصوص القرآن خدمةً للحاكم، ونموذج الشاعر، المثقف، المتهم بالزندقة، ربما لجرأته في قول الحق، وهو يرفض هذا التأويل المتعسف، بشجاعةٍ متناهية. فأين نحن من ذلك؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم