الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

يوم الاعلاميين الوطني في وادي قاديشا - قنوبين

المصدر: "النهار"
وادي قنوبين - رونيت ضاهر
يوم الاعلاميين الوطني في وادي قاديشا - قنوبين
يوم الاعلاميين الوطني في وادي قاديشا - قنوبين
A+ A-

"انتو صوت الوادي"، هكذا خاطبنا الأب هاني طوق في "يوم الاعلاميين الوطني في وادي قاديشا- قنوبين". أراده يوما تكريميا لنا نختبر بأنفسنا ملاقاة الله في صمت الطبيعة والمغاور التي سكنها المسيحيون الأوائل وتمتمات صلوات وترانيم ينقّلها نسيم الوادي، فيتّحد زائر هذه الأرض المقدّسة بعبق التاريخ والايمان والشهادة ويدخل في عالم الله الروحاني. هذا الشعار حمّلنا كإعلاميين وزنات الشراكة في الدفاع عن روحية الوادي وقدسيته ووضعنا امام اختبار التوازن الروحي والجسدي لاجتياز الوادي بروحانية جديدة.


أكثر من 250 اعلاميا وأصدقاء، بالتنسيق مع الإعلامية ريما رحمة، لبّوا دعوة الأب طوق وكانوا نموذج لبنان المنوّع مناطقيا وطائفيا. توحّدوا تحت شعار "انتو صوت الوادي" وانطلقوا متّكئين على بعضهم البعض لاكتشاف الوادي الأعمق في لبنان عبر بلدة حوقا. وكان سبق ذلك محطة في بلدة بشري اختبرنا فيها كرم أهل البلدة وضيافتهم وحفاوة استقبال رئيس البلدية انطوان الخوري طوق الذي رافقنا في الجولة واضعا بتصرّفنا كلّ ما يسهلّ رحلتنا.
منحدرات وطرق وعرة وممرات تكاد تتسّع لخطوة صغيرة يسلكها الزائر بتأنّ، تختلجه مشاعر يختلط فيها الايمان بالاندهاش والرهبة. كل ما في الوادي يدعو الى التأمّل والزهد في النفس والصلاة. ترسم مخيّلته صورا لرهبان ونسّاك وبطاركة أقاموا في هذا الوادي الذي يفرض على زائره أن يأتيه سيرا على الأقدام لاهثا ومرتعدا وتعبا لأنّ طريق القداسة شاقة أيضا. على طول المنحدر مناظر تستحضر جمال الخالق، يخرق شعور الدهشة بالمغاور المنقوشة في الصخر عند أعلى الجبل تعاطفا مع المسيحيين الأوائل والموارنة الذين احتموا بها هربا من الاضطهاد والقتل. في كل مرحلة يعيش الزائر مسيرة الآلام التي عاشها مؤسّسو الطائفة المارونية في هذا المكان فقدّسوه بقدسيتهم وقدّيسهم، مسيرة لم تنتهي بعد مئات السنين كأنّ ورثتهم من أبناء الطائفة أساؤوا الأمانة والعهد وأضاعوا مجدا وتاريخا استشهد لأجله كثيرون.


في حضرة النسك
يخرق جلالة السكون في الوادي محطتان واقعيتان لكنّهما تنقلان الزائر ايضا الى أجواء روحانية، اوّلها دير سيدة حوقا حيث يعيش الحبيس الكولومبي الأصل الراهب داريو اسكوبار في عزلة الا مع الله. خلع عنه رداء الغنى وقصد المكان الوحيد في العالم الذي، حسب رأيه، يوجد فيه نسّاك حقيقون، وهو الوادي المقدّس.
بهامة تشبه القديس شربل يطلّ الراهب داريو الذي انتسب الى الكنيسة المارونية مرحبّا بضيوفه(علما انّه لقاءاته بالزائرين قليلة)، لا تفارق البسمة وجهه واحيانا يحادث مخاطبيه بكلمات عربية. وعندما مازحناه بأن صديقتنا شيعية ونريد أن نعمّدها في هذا المكان علّق بثقة بالفرنسية: "الأديان ليست مشكلة الله، انما هي مشكلة البشر"، وكيف يمضي كلّ حياته في المكان وعمّا اذا كان يشعر بالملل، أجاب: "كما يحبّ العاشق عشيقته ولا يرغب بمفارقتها، هكذا أنا أعشق الله وأودّ تمضية كل وقتي معه". يمضي الراهب الحبيس داريو أكثر من خمسة عشر ساعة في الصلاة والتأمل ويكتفي بوجبة واحدة في اليوم. وقار حضوره وهيبة وجهه لا تمنعانه من المزاح مع ضيوفه، يخاطبهم ببعض من العربية، وكثير من الفرنسية والانكليزية. وعندما خاطبته بلغته الأم أي الاسبانية ابتسم وأكمل حواره بالاسبانية.
لا تقلّ دهشة ومتعة الحديث مع الراهب داريو اهمية عن دهشة جمال الدير الذي يبدو معلّقا بين السماء والأرض ويفوق عمره ال800 عام، فيه الكثير من المغاور التي تحوّلت كنائس يشتهي الزائر ان يمضي اطول وقت فيها بالتأمّل والصلاة. لكلّ حجر حكاية مع القداسة وفي كلّ زاوية تمتمات ترانيم تعود لمئات السنين يشعر بها الزائر ويمزجها بصلواته وتضرّعاته.
نودّع الناسك داريو ليعود الى صومعته للصلاة ونتابع مسيرة الحج في المسالك الوعرة، وكلّما انحدرنا ازداد الوادي جمالا وغموضا وفي بالنا أسئلة كثيرة كيف عاش آباؤنا وأجدادنا في هذا المكان، وكيف لا تزال بعض العائلات تسكن الوادي رغم كل الظروف الطبيعية القاسية.


وفي حضرة التاريخ الديني
نكمل مشوارنا مع القداسة في حضرة الطبيعة التي لم تعبث بخيراتها حتى اليوم يد الإنسان، ما دفع منظّمة الأونيسكو عام 1998 الى ان تدرج الوادي على لائحة التراث العالمي، على أمل أن تستمرّ الكنيسة وبعض الجمعيات والبلديات في المحافظة على هذا التراث الديني والبيئي والسياحي. نصل دير سيدة قنوبين، ونتوقّف عند كنيسة القديسة مارينا التي تنكّرت بثياب رجل لتتمكّن من الدخول للدير. في الكنيسة المحفورة في الصخر يرقد البطريرك المكّرم اسطفان دويهي، وتستوقفنا لائحة بأسماء البطاركة الموارنة السبعة عشر الراقدين في الدير. وعلى بعد أمتار ندخل الدير الذي كان مقر الكرسي البطريركي بين عامي 1440 و1823. يخطفنا مشهد عناق حجارة الدير مع الصخور التي تشكّل انحدار الوادي الى حقبة شهدت أوج الكنيسة المارونية رغم الاضطهاد والقتل. تنتشر في محيط الدير مغاور تحضن في جدرانها صلوات وتأملات وطلبات من سكنها تنسّكا او هربا من الاضطهاد. في كلّ مكان من الدير تعبق رائحة القداسة، فمن مرّ به سار على خطى السيد المسيح ومنهم من اصطفاه ورفعه الى رتبة القداسة. وفي احدى غرف الدير يُعرض جثمان البطريرك يوسف التيان الذي لا يزال سليما دون تحنيط(توفي عام 1820).
تقيم في الدير ثلاث راهبات انطونيات يعشن في جوّ من الصلاة والتأمّل ويستقبلن زوّار الدير وطالبي الرياضات الروحية. حضّرنا لنا الطعام، كما يفعلن لكلّ الحجّاج، وتشاركنا الغداء سويا قبل ان نلتقي في صلاة مشتركة في الكنيسة التي تعود للعام 375 وفيها جداريات قاومت بشدّة عوامل الزمن. وبعد مشاهدة فيلم توثيقي عن الوادي المقدّس، توقيع ميلاد طوق، كانت كلمة مؤثّرة ومعبّرة للأب هاني طوق حدّد فيها أهداف هذا اللقاء الوطني الروحي، وقال: "الهدف الأول هو اننا ننتمي لكل لبنان، فكل منطقة هي ملك للجميع وليست حكرا لطائفة او فئة معيّنة. من هنا جاء هذا الخليط المنوّع الذي يجسّد كل لبنان على اختلاف طوائفه ومذاهبه. تأملوا كيف اتّكأنا على بعضنا طول الطريق وعاونا بعضنا خوفا من الانزلاق، فلو وقع احدنا توقّف الجميع، هذا هو لبنان اذا سقط احدنا لا يستطيع الباقون اكمال الدرب". اما الهدف الثاني الذي حدّده طوق فهو تكريم الاعلاميين، "لأنّ الجميع يسمع لهم ويقرأ ويشاهد مجانا طيلة الساعات الاربع والعشرين فيستحقون منّا كلمة شكر وعرفان لجهودهم وأقلامهم"، على حد قوله مشيرا الى ان الهدف الثالث هو دعوة لزيارة الدير حيث تقيم راهبات يؤمنّ بالقضية وينتظرن المؤمنين في حجّهم لهذا الوادي المقدّس. يتحدّين كل الظروف الجغرافية الصعبة من ثلوج وانقطاع الكهرباء وغيرها لكنّهن ثابتات في الايمان ويحافظن على الدير ويستقبلن الزوّار ويؤمّنّ لهم كل تسهيلات الزيارة والمأكل والمنامة.
وعبّرت رئيسة الدير الأخت لينا خوند عن فرحتهنّ بلقاء الزوّار مؤكّدة على أن الدير يفتح أبوابه دوما، واقامتهنّ نابعة من الايمان بضرورة المحافظة على هذا التراث الماروني مشيرة الى انّهنّ يتشاركن العائلات التي تقيم في الوادي ظروف الحياة الصعبة، لكن ثباتهم في هذه الأرض متين كالموارنة الأوائل لا تزعزعه أي تحديات ولا صعوبات.
من الدير تابعنا المسير والعودة الى هدوء الطبيعة والوادي حيث تمازجت حجارة منازل البلدة القديمة باخضرار الطبيعة كأنّها نُثرت في غقلة من الزمن ولا تزال ثابتة كما اهلها، ولا يكسر هذا الهدوء سوى مياه الشلالات التي ترتمي بدلال على الانحدارات الصخرية لتتجمّع أسفل الوادي. وعند نهاية الطريق وقد أثقلنا المشي والتعب، يشدّ عزيمتنا دير مار اليشاع المحفور بالصخر الذي كان شاهدا على ولادة الرهبنة المارونية.


رسالة رجاء


ينتهي يومنا الطويل بصور حفرت عميقا في مخيّلتنا وأحاسيس خرقت عمق ايماننا بالخالق وصداقات جديدة جمعتنا بها اختبارات مختلفة عاشها كلّ منّا على طريقته خلال الزيارة. قدسية المكان ورهبته جمعت المسيحي والمسلم والدرزي من ابناء الوطن وكذلك مشاركين غير لبنانين بينهم الاعلامية المصرية عبير المرسي من جريدة الأهرام، لولا لهجتها المصرية اعتقدنا انّها لا تشذّ عن هذا النسيج. تعبّر عن فرحتها بالمشاركة في هذا اللقاء والصفاء الروحي الذي اختبرته وعاشته في هذا الوادي المقدّس مع زملاء لها في المهنة، لكنّها تلوم الاعلام اللبناني الذي يظهّر الأخبار السيئة عن لبنان ويضخّمها، فيما الحقيقة والواقع مختلفان. وعلّقت بلهجتها المصرية التي تنساب بخفّة: "لبنان جميل وبيستحق تتكلموا عنو بايجابية. انا ما بخافش الاخبار التي بتنشروها ودايما بزور لبنان الجميل. عندكوا وادي قنوبين وبتخافوا؟؟ انا حجيب مصر كلّها هنا تشوف جمال المنطر دا".
يستحقّ كلام عبير التفكير بالمسؤولية التي تقع على عاتقنا كإعلاميين والصورة التي ننقلها للعالم عن "وطن المتناقضات". نملك ثروات طبيعية وتراثية جميلة تستحقّ منّا التفاتة في زمن طغا عليه العنف والكراهية والتعصّب الديني. زيارة وادي قنّوبين شكّلت لنا انتفاضة داخلية وعبرة لنا جميعا، فجمال الوادي وروعته يجب ان يبقى كما هو وكما كان منذ مئات لا بل آلاف السنين. المسؤولية نتحمّلها جميعا للمحافظة على هذا الإرث الماروني المسيحي الوطني بدءا من الكنيسة المارونية القيّمة عليه مرورا بالبلديات والجمعيات والمجتمع المدني والاعلام والمواطنين...
وادي قنوبين أو وادي القديسين رسالة رجاء لكلّ مسيحيي الشرق ومن بينهم لبنان أنّهم "ليسوا أقلية بل جماعة متجذرة في محيطها، وليست بحاجة إلى طلب وصاية أو حماية من أي من سلطات المنطقة سياسية كانت أم عسكرية"، على حدّ قول البابا فرنسيس، ما يعني أنّهم ليسوا أهل ذمّة وليسوا بحاجة لمن يحمي وجودهم، ومن له أذنان فليسمع!


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم