الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

النكبة مستمرة

محمود الزيباوي
النكبة مستمرة
النكبة مستمرة
A+ A-

في منتصف الشهر الحالي، أحيا الفلسطينيون الذكرى السابعة والستين للنكبة، وشددوا على تمسكهم بحق العودة إلى وطنهم وإقامة دولتهم المستقلة، وطالبوا بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور المشؤوم والتوقف عن الانحياز لإسرائيل، وأقاموا في رام الله مسيرة حملوا فيها كما كعادتهم أسماء القرى والبلدات الفلسطينية التي هُجِّروا منها. خارج فلسطين المحتلة، مرت "ذكرى النكبة" هذه السنة بشكل عابر، وضاعت وسط مسلسل النكبات الكبيرة التي يعيشها العالم العربي اليوم.


في نهاية نيسان 1948، كتبت مجلة "المصور" المصرية: "كانت عمان والقاهرة طوال الأسبوع الماضي مركزاً للنشاط العربي الجديد الذي بدأ إثر سقوط حيفا في أيدي الصهيونيين، كما كانتا قبلة أنظار الدول العربية والشعوب العربية على السواء. ففي المؤتمرات العسكرية والسياسية التي عقدت في هاتين العاصمتين تقررت الخطة الايجابية الحاسمة لردع الصهيونيين وإنقاذ فلسطين. وقد أسرّ صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله لخاصته بعدما اختلى بجلالة الملك فاروق أنه كان يعرف أن جلالته متحمس لقضية فلسطين، لكنه لم يكن يتصور أن يصل هذا التحمس إلى ما لمسه سموّه في جلالته عندما تحدث إليه. وقال إن الفاروق وافق على كل الخطط التي اتفق عليها جلالة الملك عبد الله ملك شرق الأردن مع العراق، ورحب بالخطوات التي رأى الملك عبد الله أن يبدأ بها حركاته العسكرية في فلسطين. وقد اتفق الأمير عبد الإله مع جلالة الملك فاروق على الأماكن التي يحتلها كل جيش من جيوش الدول العربية في فلسطين والجهات التي يبدأ منها كل واحد من هذه الجيوش هجومه".
في هذه المناسبة، سألت المجلة سماحة السيد أمين الحسيني عن شعوره ازاء تحرك الدول العربية لنصرة فلسطين، "فأجاب بأن الدول العربية لم تكن واقفة تماماً على نوايا الصهيونيين الخبيثة وغدرهم بكل شيء يتعلّق بالشرف، وأنه عندما صرّح بأنّ السيف قد تكلّم فعلى القلم أن يسكت كان يعني أن تستعد الدول في دول الشرق قاطبة للتدخّل عسكرياً من أجل فلسطين، ولكن المباحثات التي دارت في أميركا بشأن القضية قد أضاعت بعض الوقت في الاستعداد لمواجهة الموقف في أحزم حالاته، والحمد لله على أن تمكن العرب أخيراً من المبادرة إلى علاج الحالة بالحزم والعزم المكينين، وأنه يثق ثقة تامة في أن النصر سيكون للعرب وأن فلسطين ستظل عربية إلى أبد الآبدين، رضي الصهيونيون أم كانوا لذلك كارهين". رافق هذا الحديث صورة تمثل زعماء مصر وسوريا ولبنان، مع تعليق يقول: "على أثر انتهاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية خرج من القاعة أصحاب الدولة رياض الصلح بك ومحمود فهمي النقراشي باشا وجميل مردم بك، وأعلنوا أن كل شيء قد تم على أحسن ما يرام، وأن الدول العربية قررت أن تزحف جيوشها لإنقاذ فلسطين".
تحت عنوان "الجيوش العربية تزحف لإنقاذ فلسطين"، نشرت "المصوّر" خريطة لفلسطين تمثل "الدولة العربية المنشودة حسب مشروع التقسيم"، و"الدولة اليهودية المنشودة حسب مشروع التقسيم"، و"منطقة القدس الدولية"، إضافة إلى طرق "الزحف من سوريا"، و"الزحف من المملكة الهاشمية ومن العراق"، و"الزحف من المملكة العربية السعودية" و"الزحف من مصر"، مع تعليق يقول: "خريطة فلسطين كما أرادتها لجنة التحقيق في مشروع التقسيم الذي أقرّته هيئة الأمم المتحدة، وقد ظهرت فيها المواقع التي يحتلها العرب واليهود، والمراكز التي هاجمها جيش الهاغانا، وكيفية زحف الجيوش العربية، وترى إلى اليمين أريحا، أولى البلاد الفلسطينية التي دخلتها جيوش شرق الأردن". وجاء في الخبر: "في الأسبوع الماضي، انتقل اليهود فجأة، في فلسطين، من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم. والغرض الذين يرمون إليه واضح جلي، فهم يريدون إحراز انتصارات عسكرية براقة يستغلونها في التأثير على مندوبي الدول في هيئة الأمم المتحدة، في أثناء عرض قضية فلسطين على بساط البحث. والأهداف العسكرية التي يضعونها نصب أعينهم واضحة جلية أيضا. فهم يعملون لاحتلال المناطق المعينة لهم في مشروع التقسيم، والسيطرة عليها، بحيث يمكن الادعاء أمام هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أن التقسيم قد تم وأصبح واقعاً. وهناك فريق من زعماء الصهيونية يرون وجوب مهاجمة المناطق العربية نفسها واحتلال فلسطين كلها. وقد ظهر بما لا يدع مجالا للشك أن اليهود مسلحون بمعدات حديثة فتاكة، وأن التغلب عليهم لا يمكن أن يتم على يد فرق للمتطوعين العرب، بل لا بد من تدخل الجيوش النظامية العربية لإنقاذ الموقف والقضاء على الدولة اليهودية قبل قيامها. وهذا ما قررته الحكومات العربية بعد تردد أوشك أن يجر على فلسطين الوبال. فعُقد مؤتمر عمان، ثم في القاهرة، وتقرر أن تزحف جيوش الدول العربية النظامية وتدخل فلسطين ويحتل كل منها منطقة معينة. ومما يُثلج الصدر، ويجعل الأمل يقيناً، أن الدول العربية متفاهمة في ما بينها على الخطة التي يجب اتباعها لإنقاذ فلسطين أولاً، ثم لتقرير مصيرها ونظام الحكم فيها".


مشكلة اللاجئين
تأخّر هذا "الزحف العربي" لإنقاذ فلسطين، وجاء بعد سلسلة من المواجهات الدامية. اشتدّ الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة الوافدين في العشرينات، فكانت انتفاضة "موسم النبي موسى" في القدس في نيسان 1920، وتبعتها انتفاضة يافا يوم عيد العمال في العام التالي، ثمّ معارك "البراق" حول الحائط المعروف بهذا الإسم. احتدمت هذه المواجهات بشكل كبير في الثلاثينات، فكانت ثورة تشرين 1933، ثمّ الثورة الكبرى التي تواصلت فصولها بين 1936 و1939. توقفت هذه المواجهات خلال الحرب العالمية الثانية، واستؤنفت بحدة من بعدها. أعلنت بريطانيا شكلياً نهاية الانتداب، وأعلنت الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين في تشرين الثاني 1947، وتبعه إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 أيار 1948. توجهت خمسة جيوش عربية لمساعدة الفلسطينيين في حربهم على هذه الدولة الطارئة، وكانت النكبة العظمى. في حزيران، قبلت الدول العربية بهدنة لمدة أربعة أسابيع. في تلك الفترة، بدأت الإذاعة المصرية ببثّ القصيدة التي لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب عن فلسطين من شعر علي محمود طه، ومطلعها: "أخي جاوز الظالمون المدى/ فحقّ الجهاد وحقّ الفدا".
في تموز، انقضت الهدنة وتجدّد القتال، ودخلت القوات الاسرائيلية مدينة اللد، وبعدها تمّ توقيع الهدنة الثانية بين القوات العربية والقوات الاسرائيلية. سيطر الكيان الصهيوني على ثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين، وبات قطاع غزة تابعاً لمصر، بينما تمّ ربط مناطق الضفة بالدولة الأردنية. اعتمدت مصر والأردن سلسلة من الطوابع موشّحة بكلمة فلسطين على الأجزاء الواقعة تحت سيطرتها، وعمدت المقاومة الفلسطينية الناشئة إلى إصدار سلسلة من الطوابع الرمزية، منها طوابع تجمع قبة الصخرة وكنيسة القيامة تحت عبارة "فلسطين للعرب" بالعربية والانكليزية. تكرّرت صورة الجامع والكنيسة على طابع تعلوه عبارة "يوم سوريا ولبنان". في القسم الأعلى من الصورة، حضرت أعلام البلدان الثلاثة. وفي القسم الأسفل حلّ بيت من قصيدة أحمد شوقي خلّده صوت محمد عبد الوهاب: "وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجة يدق".
في 12 تشرين الثاني 1948، تحت عنوان "772 ألف عربي مهددون بالفناء"، تحدثت مجلة "المصوّر" عن "مشكلة اللاجئين"، وقالت في تقريرها: "لعله من سخرية القدر أن يؤدي عطف بعض الأمم على اليهود الذين شرّدهم هتلر إلى تشريد سبعمئة ألف عربي بيد اليهود أنفسهم، ومع ذلك تقف هذه الأمم جامدة، كأن اخراج هؤلاء العرب من ديارهم أمر طبيعي لا تعافه الإنسانية ولا يأباه كل ذي ضمير حي". أعدّت الجامعة العربية يومذاك تقريراً عن حال اللاجئين الفلسطينيين الذين شرّدهم الصهيونيون من ديارهم، وحددت عددهم في سوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق ومصر، ووصفت حالهم المزرية. نقلت الصحف والمجلات العربية صور هؤلاء اللاجئين، ورصدت تجمعهم في مخيمات خاصة بهم أنشئت في سوريا والأردن ولبنان. وتفاعل العرب مع هذه المأساة، من المحيط إلى الخليج.
في حزيران 1967، تكررت المأساة، وتعاظمت بعد الحرب التي يدعوها الإسرائيليون "حرب الأيام الستة"، والتي يطلق عليها العرب اسم "النكسة". في فترة وجيزة، احتل الكيان الصهيوني قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان، وضاعف مساحته إلى أربعة أضعاف. في تموز، قدّمت فيروز على مسرح الأرز "زهرة المدائن"، "للأخوين رحباني مهداة إلى القدس"، كما جاء في كتيّب الحفل. نجحت "زهرة المدائن" نجاحاً كبيراً، وانتشرت بسرعة الضوء، وبثّت مصوّرة على شاشات السينما في وصلة مستقلة عند عرض "سفر برلك" في مطلع تشرين الأول. ردّ أهل فلسطين التحية في منتصف العام 1968: حمل نائبا القدس إميل غوري ومحيي الدين الحسيني مفتاح القدس إلى بيروت وسلّماه إلى فيروز مع صينية مصنوعة من الصدف تمثل المسجد الأقصى، وذلك في احتفال مهيب تناول فيه الكلام منصور رحباني: "لن نكف عن الغناء لفلسطين. والعودة ستجرح سماء العالم بصراخنا. وفرحنا العظيم يوم تتدافع الأيدي السمر عائدة حاملة مفاتيح بيوتها".
في هذه المناسبة، أعلنت فيروز عملاً جديداً مهدى إلى فلسطين، عنوانه "جسر العودة"، وقرأت منه: "أحترف الحزن والانتظار/ أرتقب الآتي ولا يأتي/ تبدّدت زنابق الوقت/ عشرون عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظار/ عبرت من بوّابة الدموع/ إلى صقيع الشمس والبرد/ لا أهل لي في خيمتي وحدي/ عشرون عاماً وأنا يسكنني الحنين والرجوع/ كبرت في الخارج/ بنيت أهلاً آخرين/ كالشجر استنبتهم فوقفوا أمامي/ صار لهم ظلّ على الأرض/ ومن جديد ضربتنا موجة البغض/ وها أنا أستوطن الفراغ/ شرّدت عن أهلي مرتين/ سكنت في الغياب مرتين/ أرضي ببالي وأنا أحترف الحزن والانتظار".


وفاة العرب
اختار الفلسطينيون يوم الخامس عشر من أيار لإحياء "ذكرى النكبة"، وهو اليوم التالي لذكرى إعلان قيام دولة إسرائيل، وذلك في إشارة إلى كل ما اقترفته المجموعات المسلحة الصهيونية من ظلم في حقهم من أجل التمهيد لقيام هذه الدولة الخاصة باليهود وحدهم. بعد مرور سبع وستين سنة على ضياع فلسطين، تبدو البوصلة ضائعة، ويبدو العالم العربي غارقا في بحر من النكبات المستديمة. في آب الماضي، أعلنت "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" أن عدد اللاجئين السوريين تجاوز الـثلاثة ملايين شخص، وقالت "إن ما يقرب من نصف السوريين اضطروا إلى مغادرة ديارهم، والفرار للنجاة بحياتهم، بسبب تعرض السكان في بعض المدن للحصار والجوع، فيما يجري استهداف المدنيين وقتلهم دون تمييز". وأشارت مفوضية اللاجئين في بيانها إلى "أن واحداً من بين ثمانية سوريين على الأقل، فرّوا عبر الحدود، وهو ما يساوي تماماً مليون شخص منذ أكثر من عام، إضافة إلى وجود نحو ستة ملايين وخمسمئة ألف نازح داخل سوريا"، وأكدت أن أكثر من نصف هؤلاء اللاجئين والنازحين من الأطفال. من جهته، قال أنطونيو جوتيريس رئيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة: "كانت سوريا قبل خمسة أعوام ثاني أكبر بلد يستضيف لاجئين في العالم. بات السوريون الآن على وشك أن يحلّوا محلّ الأفغان كأكبر عدد من اللاجئين في العالم". وأضاف: "يحز في قلبي أن أرى أن هذا البلد الذي استضاف على مدى عقود لاجئين من دول أخرى يتمزق على هذا النحو ويجبر هو نفسه على المنفى".
في المقابل، أوضح الناطق الصحافي باسم "المنظمة الدولية للهجرة" ليونارد دويل أن "نحو مليونين وثمانمئة وخمسة وثلاثين ألف مواطن عراقي اضطروا للفرار من منازلهم في الفترة الممتدة بين كانون الثاني 2014 ونيسان 2015"، وأعرب رئيس المنظمة الدولية للهجرة توماس لوثر فايس عن قلقه العميق من حركات النزوح الجديدة في العراق. بالتزامن مع هذه التحولات، يتزايد عدد اللاجئين اليمنيين إلى جيبوتي والصومال، ويتواصل تدفق الليبيين بأعداد كبيرة في اتجاه معبر رأس جدير الحدودي مع تونس بمعدل بين خمسة وستة آلاف شخص في اليوم، بحسب وزير الخارجية التونسي منجي الحامدي. وتتحدث الحكومة التونسية اليوم عن نحو مليوني ليبي يستأجرون شققاً ومنازل في أحياء شعبية ضمن المدن التونسية وينفقون من أموالهم الخاصة.
تبدو "النكبة" الفلسطينية "صغيرة" اليوم أمام هذه النكبات التي تكبر وتتعاظم، ويبدو العرب عاجزين عن الخروج من هذا المستنقع الذي غرقوا فيه منذ عقود. تعود إلى الخاطر كلمات كتبها نزار قباني في "وفاة العرب": "حاولت منذ بدأت كتابة شعري/ قياس المسافة بيني وبين جدودي العرب/ رأيت جيوشا ولا من جيوش/ رأيت فتوحا ولا من فتوح/ وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزة/ فقتلى على شاشة التلفزة/ وجرحى على شاشة التلفزة/ ونصر من الله يأتي إلينا على شاشة التلفزة".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم