الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - إملي نصرالله تتذّّكر

سلمان زين الدين
تحت الضوء - إملي نصرالله تتذّّكر
تحت الضوء - إملي نصرالله تتذّّكر
A+ A-

في 28/ 4/ 2015، أطلقت الهيئة الوطنية للأونيسكو رواية "طيور أيلول" للروائية اللبنانية إملي نصرالله مطبوعة بصيغة "البرايل" للمكفوفين، فأتاحت لهذه الشريحة الاجتماعية فرصة الاطلاع على هذه الرواية الجميلة والتمتع بها حكايةً وخطابًا. "طيور أيلول" هي رواية نصرالله الأولى التي شكّلت جواز سفرها إلى عالم الأدب، وحظيت منذ صدورها في العام 1962 باهتمام الأوساط الأدبية، فنالت جائزة أصدقاء الكتاب، وجائزة الشاعر سعيد عقل، وطُبِعت حتى تاريخه أربع عشرة مرة، وتُرجِمت إلى اللغة الألمانية، وجرى الاحتفال منذ ثلاثة أعوام بمرور خمسين عامًا على صدورها، وها هي تصدر في طبعة "البرايل".


هذه الواقعة شكّلت فرصة للجلوس إلى الكاتبة، والاصطلاء بجمر الذكريات خلل رماد السنين. هناك في شقّتها البيروتية المطلة على البحر والجامعة الأميركية، بما يحيل الأول على الهجرة التي تُعتبر فضاءً محوريًّا في عالمها الروائي، وتحيل الثانية على أيام الدراسة الجامعية التي في البال، كان ثمة لقاء مع الكاتبة، هبّت فيه ريح الذكريات، فراحت تُزيل الرماد، على رسلها، عن النشأة، والأسرة، والضيعة، والدراسة، والعمل الصحافي، والمسيرة الأدبية. وكان لي متعة الإصغاء والتدوين، والتدخّل أحيانًا لردم بعض الفجوات الزمنية. لم أكن لأفاجأ بالحضور الذهني الساطع، وبالذاكرة الحادّة، وبالتسلسل المنهجي لهذه السيدة الكبيرة التي لم يتمكّن رماد الأيام من جمر ذكرياتها. أليست الرواية تذكّرًا وتخيّلاً وهندسةً وبناءً فنيًّا وتقنيات تمارسها إملي نصرالله بامتياز؟


النشأة والدراسة
تتذكّر إملي نصرالله نشأتها الريفية والشخصيات الأولى التي تركت تأثيرها في حياتها وأدبها. تقول: "نشأتي لا تختلف كثيرًا عن نشأة أية فتاة في القرية. والدتي من الكفير، وأبي من كوكبا، لكنّه كان "صهر بيت" إذ انتقل للإقامة في بلدة أمّي، وأنا وُلِدت في كوكبا قبل الانتقال المذكور. أهلي ملاّكو أراضٍ مزروعة بالزيتون والكرمة، وكان أبي يسوس هذه الأرزاق بعد وفاة جدّي لأمّي، وكان يعيش معنا في العائلة رجل آخر هو الخال أيوب أحد أبطال روايتي الجديدة التي أكتبها حاليًّا. هذا الخال نشأتُ على ساعديه مذ كان عمري سنتين اثنتين، وهو متعلم بعكس الوالد الذي كان أميًّا. لعل السبب في ذلك يعود إلى التعليم المبكر في الكفير على يد البعثة الروسية التي أقامت مدارس ابتدائية في القرى الأرثوذكسية، الأمر الذي لم يكن متاحًا في كوكبا، قرية الأب. أشهر من تخرّج من هذه المدارس المفكّر الكبير ميخائيل نعيمة. وكان المتخرّج المتفوّق من هذه المدارس يُرسَل إلى معهد الناصرة لمتابعة الدراسة الثانوية فيما كانت المتخرّجة المتفوّقة تُرسَل إلى شفا عمرو في فلسطين".


الخال أيوب
تمضي نصرالله متذكّرةً الشخصيات الأولى التي أثّرت في حياتها وخياراتها، فتُفرد للخال أيوب حيّزًا في تذكّرها: "الخال أيوب هو الوحيد من مدرسة القرية أُرسِل إلى الناصرة شرط أن يعود للتدريس في قريته ومدرسته، لكنه حين أنهى دراسته الثانوية وعاد للوفاء بالشرط، كانت المدرسة قد أُقفِلت بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ممّا جعله يهاجر إلى أميركا ويعيش في نيويورك، وكان قريبًا من الرابطة القلمية، كتب في صحف عربية بينها "مرآة الغرب" التي كانت تصدر في نيويورك في ذلك الحين، وتكشّف عن وعي مبكّر بخطورة المشروع الصهيوني حيث كتب مقالاً يفنّد فيه وعد بلفور، أرفقه برسم كاريكاتوري تظهر فيه فلسطين على شكل حمامة، والصهيونية على شكل أفعى تحاول ابتلاعها. للأسف - تضيف نصرالله – أصيب الخال بمرض باركنسون العصبي، فعاد إلى الكفير، إذ كان بحاجة إلى من يعيله جسديًّا. هذا الخال هو مدرستي الأولى ومَن فتح عيني على معنى الكلمة. ثم في ما بعد، هو مَن ساعدني للتواصل مع خالي الآخر توفيق، رجل الأعمال في أميركا، بهدف الحصول على مساعدته في متابعة دراستي الثانوية، إذ لم يكن في القرية صف أعلى من الثالث الابتدائي".


الخال توفيق
الخال الآخر الذي كان له تأثيره في حياة الكاتبة، هو توفيق الذي "اختير بدوره لمتابعة الدراسة في الناصرة غير أن والده منعه بحجة أنه يكفي العائلة متعلّم واحد، وبذريعة الحاجة إليه لمساعدته في "الرزقات". "عندما طلبت مساعدته لمتابعة الدراسة"، تقول نصرالله، "بادر إلى إرسال شيك يغطي نفقات الدراسة في المعهد الثانوي لأربع سنوات، وهذه الواقعة بقيت لغزًا يحيّرني لسنوات، إلى أن التقيتُ به في أميركا لدى أوّل زيارة قمت بها، وكنت أحمل إليه سؤالي: كيف سارعت إلى مساعدتي وأخوتي وأنت من تعب وشقاء لتأسيس أعمالك في هذه البلاد؟ تأمّلني لحظات قبل أن يجيب بأنّها لا تزال حسرة في نفسه على رغم مرور السنين ونجاحه في الأعمال أنّ والده حرمه من متابعة الدراسة".


جدّتي تغرس الحكاية فيّ
الشخص الآخر الذي كان له تأثيره في نزوع الكاتبة المبكّر الحكائي هو جدّتها لأمّها. تعترف نصرالله بفضلها بالقول: "كان هناك شخص آخر غرس الحكاية فيّ، وهي جدّتي لأمّي، وكنت أغفو في حضنها وهي تروي. لها أنا أهدي الرواية الجديدة التي أكتبها حاليًّا".
هذه الخلفيات هي في جذور نشأة إملي نصرالله كفتاة قروية عاشت مثل سائر الفتيات تعمل في البيت كما في الحقل، وأحيانًا كانت الأشغال شاقّة على تلك السن المبكّرة. وقد عرفت، بإيجابيّتها، كيف تستثمر هذه الخلفيات روائيًّا: "إنما أنا بطبعي إيجابية، وحوّلت هذه التجارب كلّها إلى مجرى الرواية، وهي ما أبقاني دائمًا على تواصل مع الطبقة الكادحة خصوصًا في السن المبكّرة من العمر".


"عديم وقع في سل تين"
عن شغفها المبكّر بالقراءة، تقول: "حين دخلت الكلية الوطنية في الشويفات، حضر معي جوعي المزمن للمطالعة، وصدف أن كلّفتني مديرة الكلية الأميرة أسمى أبي اللمع الاهتمام بالمكتبة وأنا في القسم الداخلي، فصحّ فيّ المثل الشعبي القديم: "عديم وقع في سل تين"، فكنت أنفق كلّ أوقات الفراغ في ترتيب المكتبة حتى إذا حان وقت النوم كنت أصطحب معي كتابًا خلسةً إلى غرفة النوم، وأغرق في قراءته على نور السلّم المتسلّل من خارج الغرفة. في تلك المرحلة، اغتنمت فرصة لم تكن متاحة لي من قبل، إذ كانت مطالعاتي الأولى قصاصات صحف، أو الكتاب المقدّس الذي لم أكن أفهم منه شيئًا. ولعلّي فعلت ذلك تعويضًا عمّا فاتني، حتى أنّي كنت أهرب من المشاركة في الرحلات المدرسية وألجأ إلى المطالعة، ولم أكن أبالي بالقصاص الذي يترتّب على ذلك".


الحبّ الأوّل
بعد تخرّجها في الكلية الوطنية، كان على إملي نصرالله أن تخوض تجربتها العاطفية الأولى. عن تلك التجربة، تقول: "عدت أدراجي إلى القرية بهدف التدريس في مدرستها. هنا، شاء القدر أن يتقدّم لخطبتي شاب محامٍ هو غالب الخوري، ابن أخي فارس الخوري من الكفير، رئيس وزراء سوريا في حينه، ودامت الخطبة أحد عشر شهرًا قبل أن يُصاب بداء اللوكيميا القاتل. هكذا، عرفت صدمة قاسية لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها ممّا دفعني لأغادر القرية، وأعود إلى الكلية الوطنية للتدريس، حتى لا أسمع عبارات الشفقة من قبيل: "يا فقيرة، ويا مشحّرة، وشو هالحظ". وأمضيت سنتين في التدريس".


الدراسة الجامعية
تُواصل إملي نصراللة استعادة شريط الذكريات: "بعد ذلك، شعرت أنّي لن أكتفي بما حصّلته من الدراسة، فسعيت إلى الالتحاق بكلية بيروت للبنات، وأقمت في القسم الداخلي من المدرسة الأهلية مقابل قيامي بالتدريس حصّتين اثنتين يوميٍّا. أمّا القسط الجامعي فكنت أجمعه ممّا يتوافر لي من كتابة المقالات والبرامج الإذاعية والتدريس الخصوصي، لكنّ القسط الأوّل، على ما أذكر، استدنته من زميلة في "المدرسة الأهلية" هي المرحومة جليلة سرور".
تتابع شريطها بالقول: "بعد سنتين من الدراسة الجامعية، وكانت الجامعة في حينه للبنات فقط، شعرتُ بحاجة إلى جوٍّ تكون فيه المنافسة أشدّ وأقوى، فانتقلت إلى الجامعة الأميركية حيث يختلط الجنسان. وهناك درست سنتين اثنتين لأتخرّج بشهادة بكالوريوس في التربية العام 1958، في تلك السنة كنت حاملاً بإبني البكر رمزي، إذ كنت قد تعرّفت إلى شريك العمر فيليب نصرالله، فقيل لي يومها إنني تخرّجت ب BA with baby بدلاً من BA with honor. خلال تلك المرحلة، كنت أكتب لمجلة "الصياد"، وأغتنم فرصة وجودي في الجامعة لأحرّر موضوعات مستوحاة من الحياة الجامعية".


إملي الصحافية
حياة إملي نصرالله الصحافية حافلة بالذكريات ولا سيّما خلال عملها في مجلة "الصياد". تتذكّر كيفية انتقالها إلى المجلة: "في العام 1955، بدأت العمل في مجلة "الصياد"، وكنت قد كتبت من قبل لمجلة "صوت المرأة" التي كانت تصدرها إدفيك جريديني شيبوب. كانت "الصياد" تبحث عن محرّرة، وكانت الواسطة للتعرّف إلى المجلة، الصحافية جاكلين نحاس من جريدة "الحياة". بقيت في المجلة حتى العام 1970، وكانت هذه المرحلة تغني تجربتي في الكتابة والتعرّف إلى شتّى أنواع البشر، إذ لم أكن ألتزم فقط الكتابة النسائية إنّما كنت حيثما وُجِد موضوع شيّق وجديد أسعى إليه. وكانت توصية الأستاذ سعيد فريحة دائمًا لي: "يا إملي اكتبي صحافة وخفّفي من الأدب! إلى أن تغلّب الأدب على الصحافة، بعد نشر روايتيَّ "طيور أيلول" 1962، و"شجرة الدفلى" 1967، فاستقلت من "الصياد" في العام 1970 لأتفرّغ للعائلة والرواية والقصة".
تستعيد نصرالله ذكريات متفرّقة من تلك المرحلة، تتوزّع على الفني والرياضي والسياسي والأدبي، منها: "طلب مني الأستاذ سعيد فريحة أن أشارك في مقابلات ثنائية مع الظريف نجيب حنكش حيث كان يطرح الأسئلة على الضيف وأقوم أنا بتحرير المقابلة، وأوقّع باسم نجيب حنكش منفردًا. وهذا ما دفعه إلى معاتبتي في حينه".
"أذكر من طرائف تلك المرحلة أن الأستاذ سعيد انتدبني لأكتب تقريرًا صحافيًّا عن فريق "هارلم" لكرة السلّة، ولم أكن أفقه شيئًا عن هذه اللعبة، وكان السبب الوحيد الذي جعله يكلّفني هذه المغامرة هو معرفتي باللغة الإنكليزية".
"أذكر من ذكريات تلك المرحلة أن الأستاذ سعيد انتدبني لحضور عرس شاه إيران محمد رضا بهلوي وفرح ديبا، فرفضت القيام بتلك المهمة لتعاطفي مع الجميلة ثريّا، زوجته السابقة، التي طلّقها لرغبته في أن يكون له وارث للعرش".
"أذكر أنه خلال زيارة جواهر لال نهرو مع ابنته أنديرا إلى لبنان، دُعيتُ إلى حفل استقبال أقامته السفارة الهندية، وكانت زوجة القائم بالأعمال السيدة روبا جنسن صديقتي، وتدعوني إلى لقاء الشخصيات الهندية التي تزور لبنان. في ذلك الحفل فاجأتني بسؤالها: متى ستكتبين روايتك الأولى؟ فشكّل سؤالها الشرارة التي أشعلت فتيل الأدب لديّ. بالطبع، كان قد تراكم لديّ من التجارب الإنسانية والأدبية ما يؤهّلني للشروع في هذه المغامرة وخصوصًا أن اثنين من أخوتي كانا قد هاجرا إلى كندا، وعرفت كيف تتفرّق العائلة وتهاجر الطيور، فشرعت بكتابة "طيور أيلول"، روايتي الأولى".


إملي الأديبة
كيف كتبت إملي نصرالله "طيور أيلول"؟ تجيب: "خلال عملي في "دار الصياد"، كنت أقيم في الحازمية، وكنت أمًّا لطفلين اثنين، فصرتُ أسرق الوقت مغتنمة عرضًا قدّمته إليَّ الصديقة الأديبة آنجيل عبود، المرأة اللبنانية الأولى التي تؤسّس دار نشر هي "المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر"، فكنت أسرق نفسي يوميًّا من عائلتيّ، الصحافية والطبيعية، وأمضي إلى مكتبها في بناية اللعازارية حيث تُقفل الباب عليَّ في غرفة منقطعة عن العالم وتتركني للكتابة، وبقيت على هذه الحال بضعة أشهر، إلى أن وُلدت "طيور أيلول"، وأذكر أن آنجيل حرّرتني من التزامي لدارها، إذ دفعتني إلى الاتصال بناشرين آخرين، لكنّني عدتُ إليها بعدما أُصبت بخيبات عدّة، وقامت هي بنشر الرواية".
كيف استُقبِلت الرواية في حينه؟ وإلام آلَ مصيرها؟ تجيب: "في تلك المرحلة، كان هناك جائزة أصدقاء الكتاب للرواية، فرشّحت آنجيل الرواية للجائزة في اللحظة الأخيرة، ونالتها مناصفةً مع رواية "أصابعنا التي تحترق" للدكتور سهيل إدريس. في العام 1962، نالت الرواية جائزة الشاعر سعيد عقل، وقد طُبعت "طيور أيلول" حتى تاريخه أربع عشرة مرّة، وتُرجِمت إلى اللغة الألمانية، ومؤخّرًا صدرت خاصة منها بصيغة "البرايل" للمكفوفين".
عن حصادها الأدبي الذي راكمته منذ "طيور أيلول"، تقول نصرالله: "منذ ذلك التاريخ، لا أزال والحمد لله، أخوض تلك المغامرة الجميلة، وأكتب القصة، والرواية، والمقالة، والسيرة، والشعر، والتراجم، وأدب الأطفال والفتيان. وقد بلغ حصادي الأدبي حتى تاريخه تسع روايات، وعشر مجموعات قصصية، وسبعة كتب للفتيان، وخمسة كتب للأطفال، وستة أجزاء من "نساء رائدات"، وخمسة أجزاء من "حصاد الأيام"، ومجموعة شعرية واحدة، وكتاب ذكريات مهنية. وأخيرًا، أعددتُ عشرين مخطوطة للطبع في الحقول الأدبية المختلفة. وتجدر الإشارة إلى أن عددًا من مؤلفاتي جرت ترجمته إلى لغات أجنبية كثيرة، ما أتاح لي الإطلالة على ثقافات وحضارات متنوّعة تغني تجربتي الأدبية، وتتيح لها مجال الانتشار".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم