الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

افتتاح كانّ 68: مادموازيل دونوف تضمّد جراح فرنسا!

المصدر: "النهار"
افتتاح كانّ 68: مادموازيل دونوف تضمّد جراح فرنسا!
افتتاح كانّ 68: مادموازيل دونوف تضمّد جراح فرنسا!
A+ A-

كاترين دونوف ابنة الثانية والسبعين التي أطلقها فيلم جاك دومي "مظلات شربور" هنا في شارع الكروازيت عام 1964 يوم فاز بـ"السعفة"، كانت نجمة افتتاح الدورة الثامنة والستين لمهرجان كانّ (13 ــ 24 أيار الجاري). فجأةً، بعد ويك إند هادئ، بدأ الناس يتوافدون من كل الأقطار الى المدينة الساحلية الفرنسية التي ذاع صيتها في أنحاء العالم بسبب مهرجانها السنوي الشهير، ليرتفع عدد سكانها أضعافاً. كانّ الذي ينعقد هذه السنة تحت شمس رحومة يعد الزائرين ــ من مهنيين ومتطفلين ــ بالكثير من العناوين البراقة، أقله في الظاهر. أحد هذه العناوين، الفيلم الفرنسي الذي كُشفت تفاصيله صباح الأربعاء أمام الصحافة: "الرأس المرفوع" لايمانويل بركو الذي يُعرَض افتتاحاً، خارج المسابقة الرسمية التي تنضوي تحتها 19 فيلماً، من ضمنها العمل الذي سيُكلل بـ"السعفة" بعد 11 يوماً.


منذ سنوات، لم يُعرَض شريطٌ بمثل هذه القوة في افتتاح كانّ. فيلمٌ يسحق القلب وتبقى ذكراه مع المُشاهد بعد خروجه من الصالة. طوال الأعوام الفائتة، انتهجت الإدارة اختيار أفلام جماهيرية يغلب عليها الطابع الاستهلاكي، بلغت نموذجها الأسوأ بعرض فيلم "غريس موناكو" العام الماضي. ربما أراد بيار لسكور الذي يتبوأ منصب رئيس المهرجان في الدورة الحالية، ترك بصمته على البرمجة التي عانت مخاضاً عسيراً نتيجة تأخر الأفلام في الوصول الى الإدارة، والخيار الواسع الذي أتاحته السينما الفرنسية ومعوّقات أخرى كثيرة.


المهم: قدّمت ايمانويل بركو في ثاني مشاركة لها في كانّ فيلماً حاداً يقطع كالسيف. تحملنا المخرجة الأربعينية برفقة ثلة من الممثلين البديعين الى الهامش الفرنسي المنسي؛ هناك حيث العيش عبءٌ والفرص نادرة والعواطف مفقودة. نرافق مالوني (رود بارادو) خطوة خطوة منذ المرة الأولى حين يطلّ برفقة أمه (سارا فوريستييه) في مكتب القاضية (دونوف). يعاني الصبي الذي سرعان ما ستتبلور ملامحه ليصبح شاباً في السادسة عشرة، اضطرابات حقيقية تُترجَم في حاجته المزمنة الى ممارسة العنف. لا جواب عنده سوى الصراخ. حيناً يسرق سيارة ويجوب بها الشوارع، وحيناً آخر يتعامل بعدوانية مع أشباهه في مركز الرعاية والتأهيل الذي زُجَّ فيه ليتم اشراكه في الحياة إسوة ببقية اليافعين.


نحن هنا أمام فيلم "بارد" أرادته بركو وشريكتها في كتابة السيناريو "مخبرياً"، نرى من خلاله الآلية البيداغوجية المعمول بها. هذا فيلم عن التربية والتسامح في نظام اجتماعي يُستَبدل فيه الأهل بالمجتمع ما إن يتم التأكد من عدم قدرتهم على التربية. إنه ايضاً فيلمٌ عن العدالة وحقّ كلّ فرد في التعلّم، ولا تتوانى بركو في ردّ الاعتبار الى هؤلاء الذين يعملون في الظل لتحقيق العدالة الاجتماعية، من قضاة ومرشدين ومصلحين اجتماعيين. ينطوي الفيلم على كمٍّ هائل من العنف يكاد يكهرب المُشاهد، بيد أنه عنفٌ منضبط يتجلّى في عيني الممثل الشاب رود بارادو وفي حاجته للعاطفة وفقدانه الأبوة الصالحة. شخصية القاضية، إيماناً منها بأن كلّ انسان قابل للاصلاح، تمنحه فرصة تلو أخرى، بيد انها لا تعرف كيف تخاطبه، أو بالأحرى ليست هناك لغة مشتركة بينهما. فالسيدة القاضية تمثّل فرنسا التقليدية، القديمة، السمحة، الآيلة الى الاختفاء، في حين يتحوّل مالوني الى رمز لتلك الفرنسا التي تُحكم قبضتها على الواقع. يبلور الفيلم شخصية الصبي المتمرّد التي عالجتها السينما الفرنسية في عدد لا يحصى من المرات، بيد أنّ المتمرد هنا لا يملك أي قضية وهو لا يعبّر إلا عن الفراغ الذي يجرجره خلفه. والفراغ لا يجر إلا الفراغ. قاربت بركو فيلمها مستعينة بمجموعة خيارات راديكالية، كعدم الخروج من الحيز العام، لتتحوّل معها جدران مكاتب القضاة والمحاكم ومراكز الرعاية الى جبال تطبق على قلب مالوني. إلا أن هناك دائماً هذا الشعور الذي يسمو به الانسان فينقذه في اللحظة الأخيرة. وهو ما سيخلّص أيضاً مالوني ويشرع أمامه آفاقاً جديدة، من دون أن يحوّله بالضرورة شخصاً مثالياً، بل شخصاً أفضل!


في المؤتمر الصحافي الذي تلا عرض "الرأس المرفوع"، دار نقاشٌ مشوقٌ بين أعضاء طاقم الفيلم. دونوف التي قدّمت أداء مبهراً في الفيلم حدّ أنّ حضورها سرق بريق الآخرين أحياناً (معضلتها الأبدية)، استُدرِجت من خلال أسئلة الصحافة الملحّة الى اعتبار انتقاء هكذا فيلم حميمي للافتتاح نوعاً من ردٍّ قام به المهرجان على ما عاشته فرنسا في مطلع السنة مع الجريمة الإرهابية التي طالت المجلة الساخرة "شارلي ايبدو". ثم قالت وهي تنتقل بنظراتها الحائرة من واحد الى آخر: "هذا الفيلم تحية الى أولئك الذين يمارسون مهنتهم في الظلّ". وأعلنت جميلة بونويل التي تسميها الصحافة "مادموازيل" بأنها ذهبت لمراقبة الكيفية التي يعمل بها القضاة، فالتقطت تفاصيل علاقتهم بالجناة، من نبرة صوتهم الى صبرهم الذي لا حدود له. زارت محكمة باريس مراراً، خصوصاً لغرض الاستماع الى الأطفال. "المهنة التي يزاولها القضاة ــ وهي مهنة لا نعرف عنها الكثير باستثناء ما نرى منها على التلفزيون ــ لا يمكن مزاولتها إذا لم يكن المرء ملتزماً بها بالحدّ الأدنى. أحياناً، نخال أننا قطعنا شوطاً كبيراً مع أحد الجناة، فجأة يبدأ كلّ شيء بالتراجع. نحتاج الى الكثير من الوقت لتحقيق العدالة، هؤلاء الفتيان منطوون على أنفسهم. دهشتُ وأنا أكتشف عدد الاشخاص الذين يهتمون بصبي جانٍ. يا للأسف، لا نستطيع انقاذ الجميع. المشكلة تبدأ عندما يفشل الأساتذة في جذب اهتمام التلميذ الى نشاط معيّن. الأهم ألا نجعلهم يشعرون بأنّ ثمة اقصاء يُمارَس في حقهم. هؤلاء الذين تنقطع الصلة بينهم وبين المجتمع باكراً هم الأكثر تعرضاً للضرر من الآخرين. حتى الذين ينالون الشهادات، نجدهم في حال من السوء، كونهم يشكون من البطالة".


رداً على سؤال أحد الصحافيين، تطرّقت دونوف الى المقابلة التي أجرتها معها جريدة بريطانية وقالت فيها إنه لم يعد هناك نجومٌ في فرنسا. اعتبرت دونوف أنّ كلامها تمت تجزئته، وإنها ستكون أكثر حذراً في المرة المقبلة إزاء هذا النوع من المقابلات. وشرحت أنّ وسائط التواصل الاجتماعي تساهم في تضخيم الأمور وإحداث بلبلة من لا شيء، فهي عندما صرّحت بذلك كانت تعني انه لم يعد هناك نجومٌ يجعلون الناس يحلمون، فمعظمهم باتوا يتواصلون افتراضياً مع معجبيهم، ينشرون صورهم الشخصية باستمرار، وهذا في رأيها لا يصنع النجومية. بالنسبة اليها، هناك جزء من الخصوصية يجب أن يحافظ على سرّيته، وختمت تقول: "يجب ألا نكشف كل شيء".


واتجه الحديث خلال اللقاء مع الصحافة الى أماكن أكثر دراماتيكية مع الربط الذي أثاره أحد الصحافيين بين حوادث الفيلم والشبان المتحدرين من الهجرة الذين قتلوا رسامي "شارلي ايبدو". فقالت دونوف إنه لا داعي لإنكار تلك الإحالة غير المقصودة على الحوادث، علماً أنّ الفيلم كان صُوِّر قبل اعتداء 7 كانون الثاني. فالارهابيون القتلة كانت لهم في رأيها طفولة صعبة، ودخلوا المراكز ذاتها التي دخلها مالوني.


أما عن المهاترات التي سادت في السنوات الأخيرة حول العدد المحدود للمخرجات في مهرجان كانّ، واتهام الذكورية التي طالت لجنة الاختيار، فقالت المخرجة بركو: "لا أعير اهتماماً الى حقيقة كوني سيدة. تم اختيار الفيلم بمعزل عن كوني أنثى. لا أشعر أنني أنتمي الى أقلية ما، وحظيتُ بمنصب يشغله عادةً الرجال. في فرنسا، لا تمييز ما بين مخرج ومخرجة، وربما ليست هذه حال بلدان أخرى. أصلاً، من الطبيعي أن يكون عدد أفلام المخرجات المختارة في كانّ أقل، كونهن أقل عدداً من الرجال. في هذه المهنة، نحن متخلفون عن الرجال نصف قرن".


راية المرأة، رفعها أيضاً مساءً الممثل الفرنسي لامبير ويلسون الذي تولى تقديم حفل الافتتاح، عندما عدّد أسماء النساء الرائدات في مجال السينما من أليس غي الى أنييس فاردا التي يكرّمها المهرجان هذه السنة بجائزة فخرية. ثم قال: "كانّ سيدة". هذا كله اختُتم بالتعريف عن أعضاء لجنة التحكيم التي يترأسها الأخوان كووين، فلوحة راقصة من تصميم مدير الرقص في اوبرا باريس بنجامان ميلبييه، على خلفية "فرتيغو" لهيتشكوك، قبل أن تُسنَد أولى جوائز المهرجان: جائزة التمثيل لجوليان مور عن دورها في فيلم "كروننرغ" التي لم تستطع تسلمها العام الماضي بسبب مغادرتها المهرجان باكراً.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم