الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

قتلت مارلين ونجا وسام وابنه آشور...البحث عن الوطن المستحيل مستمر!

المصدر: "النهار"
بغداد – فاضل النشمي
قتلت مارلين ونجا وسام وابنه آشور...البحث عن الوطن المستحيل مستمر!
قتلت مارلين ونجا وسام وابنه آشور...البحث عن الوطن المستحيل مستمر!
A+ A-

يعيش وسام يوسف عوديشو وحيداً في منزل أسرته بعد ان غادره الجميع، مات من مات، أو غادر من غادر إلى المنافي أو الشتات.


في المنزل الذي ورثه عن أسرته يقلّب وسام أيامه وذكرياته وأوجاعه، من غير ان يفوته إدراك مؤكّد وأليم، أن أيام المسرّة، ورفقة الأهل والأحبة، لن تعود أبداً.
رحل الجميع تقريبًا وظلت مسامير صورهم معلقة على جدران قلبه. وبقيت عذوبة أطياف الأمس القريب تحوم في أرجاء المنزل الحزين.
وحيداً يستدعي خيالات من مضوا واحداً واحداً، يغوص في قرار الذكريات البعيدة، يناجيهم في لوعة المكلوم: من ذا الذي يأتي بكم يا ماء عيني؟!
يجلس وحيداً مفكراً، يقلّب خيارات البقاء في أرض الآباء والاجداد، فالآشوريون، ووسام منهم، يحبّون عذاب التمسك بالأصول والأرض، مع انه لا يرى في أفق الممكنات علامة او إشارة تدلّه على طريق البقاء.
كلما أجهد فكره في مآله ومصيره، تبيّن له ان اقوى ممكناته، هناك... في البلاد البعيدة "استراليا"! فولده الوحيد ذو الخمسة عشر ربيعًا "آشور" هناك، يعيش من دون ذكريات تجلده كلّ حين.
مثل كلّ عاشق من طرف واحد، لم يغسل وسام يوسف عوديشو يديه تماماً من أرض الآباء والأجداد، وظلّ متمسّكًا بمنزل الأسرة في بغداد. حتى انه يقول لكلّ من طلب منه بيع المنزل والذهاب إلى إقليم كردستان الآمن، حيث يعيش بعض اخوته هناك: "ليس مناسبًا بيع منزل في العاصمة بغداد"!.
اختبر وسام فظاعات أربعة عقود من الحروب والاضطرابات والقسوة، وهو ممثل نموذجي لأجيال التيه العراقي الذي وجد نفسه في قلب معادلة مضطربة تتيح لمن يرغب في القول: "حين يولد الإنسان عراقيًّا فتلك مشكلة، وحين يولد في أسرة مسيحية، فإن مشكلته تتضاعف مرتين". قصة وسام يوسف عوديشو، تلخّص ربما، محنة العراقيين عامة والمسيحيين خاصة.
"النهار" حضرت في منزل وسام الواقع جنوب شرق العاصمة بغداد وكانت هذه الحكاية:


بدايات
في حي "كوت الحجّاج" وسط البصرة رزق الموظف في شركة نفط الجنوب يوسف عوديشو بمولوده الثاني وسام عام 1959، بعد ان رزق بمولوده الأول وليد قبل ذلك بعام. فنساء ذاك الزمان كانت حياتهن عبارة عن ولادات متتالية حتى بلوغ سنّ اليأس. وقبل ان يأتي الأب يوسف عوديشو طلبًا للرزق في البصرة أقصى شرق العراق، كان قد ولد وعاش شطراً من شبابه في قرية قصيّة شمال العراق اسمها "برواري بارا" في محافظة دهوك، وهكذا أخذت العائلة لقب "برواري" من اسم القرية التي سكنوا فيها.
كانت الحياة العراقية في خمسينات القرن الماضي منفتحة وواعدة، تتمتع بقدر كبير من التسامح والعيش المشترك، وكان الناس بمختلف ميولهم وانتماءاتهم يتنقلون في بلادهم دون محاذير أمنية او طائفية او قومية مثلما هو الحال في عراق اليوم.
سارت أمور العائلة بأفضل حال لنحو عقدين ونصف، فالى جانب وليد ووسام، رزق موظف النفط يوسف عوديشو، بثلاثة أولاد آخرين (سامي، سمير، ألبر) وبفتاة واحدة اسمها (مريم).
بدت الأمور تسير في طريقها المنشود بالنسبة لرجل مسيحي من أصول ريفية. خمسة صبيان وصبية واحدة، عدد مناسب ورائع لموظف صغير يبحث عن ضمانة في الحياة، ربّما أكثر من مجرد راتب تقاعدي.
كبر الأولاد وانخرطوا جميعهم في التعليم، لكنهم لم يكونوا جميعًا بنفس مستوى التفوق في الدراسة وتراوح تحصيلهم بين التعليم المتوسط والثانوي والعالي. وكانت الأسرة سعيدة جداً قبل ان تلوح نذر الحرب وشرورها في الأفق البعيد.
حرب إيران (1980-1988)
أصبحت البصرة بوابة الحرب الكبرى بحكم تماسّها الجغرافي مع ايران، ومعها بدأت مأساة وسام يوسف عوديشو وأسرته. فبعد سنتين من اندلاعها التحق وسام بالجيش، وفي عام 1982 أصبح أخوه وليد في عداد أسرى الحرب لدى ايران.
في العام نفسه، وبينما كان وسام يقف رفقة أحد اصدقائه الأرمن عند تقاطع أحد الشوارع في مدينته "كوت الحجّاج" سقطت قذيفة مدفع هاون منطلقة من الجانب الايراني، فقتلت رفيقه وأصابته بجروح.
هكذا هي الحياة، او بالأحرى، هكذا هو العراق، فبين ليلة وضحاها تغيّر كل شيء، نتيجة الحرب وأهوالها التي تجاوزت حدود البلدين لتصل الى الأحياء السكنية. وشيئا فشيئا ضاقت دوائر الأمن والطمأنينة والسلام، الأمر الذي اضطر عائلة وسام يوسف عوديشو الى مغادرة منزلها الأول ومسقط رؤوس أبنائها الى حيث السلام النسبي في بغداد عام 1985 .
جرت الأمور بشكل طبيعي في بغداد، عدا قلق العائلة على أبنائها المتواجدين في جبهات القتال، ولهفتها على ابنها الأسير في ايران.
لحسن الحظ لم يصب أحد من الأبناء بضرر خلال الحرب. وهكذا سارت ايام الحرب ثقيلة باتجاه نهايتها الأخيرة عام 1988، لكن الاسير وليد لم يعد إلا بعد 10 سنوات من انتهائها، عاد وفي نفسه أثر عميق ومعتم من ليال سجون الاسر الايرانية الموحشة.
امتدت خدمة وسام يوسف عوديشو الالزامية في الجيش نحو عشر سنوات، وبعد تسريحه عمل في مجال حدادة سقوف الابنية التي حقّقت له نوعًا من الاكتفاء في عقد التسعينات، ذلك العقد الذي لم يمر دون ثمن على عائلته، حيث دفعت ظروف الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد حرب الكويت 1990، اثنين من الابناء (سامي، ألبر) الى مغادرة البلاد باتجاه المهجر الاسترالي. وبرغم ذلك، مثّلت عودة الابن الاسير وليد عام 1998 بداية مناسبة لأفراد الأسرة للشروع بتكوين أسر جديدة عبر مؤسسة الزواج، اذ لم يفكّر الأخوان (وسام، سمير) بالزواج إلا بعد عودة الأخ الأكبر.
تزوج وسام عام 2000 وهو على عتبة الأربعين من العمر ورزق بولد واحد سمّاه آشور.



بعد 2003
بقي وسام وإخوته وليد وسمير بعد زواجهم في منزل العائلة نفسه الذي غادره الأب منذ سنوات طويلة وبقيت الأم فقط. كانوا يستمدّون من بقائهم وعيشهم المشترك نوعًا من القوة لمواجهة ما تحمله الأيام من نذر سوء، إثر الفوضى التي ارتبطت بانهيار الدولة وغياب المؤسسات. لكن مشاكل الوضع الجديد المتنامية وصغر المنزل، إضافة الى مشاكل العيش المشترك والبحث عن فرصة عمل أفضل، عوامل دفعت الأخ الأصغر سمير الى مغادرة بغداد الى دهوك حيث جذور عائلته ومنزل اخته الكبرى التي تعمل في مجال التدريس (مريم).
فضّل وسام وأخوه الأكبر "الاسير السابق" وليد البقاء في المنزل نفسه، ومن ثم تحوّل وليد الى منزل قريب، كان أحد أقاربه قد رحل الى خارج العراق وطلب منه البقاء فيه.
في تلك الأثناء ازدادت أوضاع الأمن تعقيدًا وسوءًا، وفي ذروة أعمال العنف الطائفي التي حدثت بين العامين 2006-2007، لطالما سمع وسام في المساءات الكئيبة، اطلاق نار كثيف في الركن المجاور لمنزله من دون ان يتمكن من فعل شيء. كان يعرف ان جماعة مسلحة قامت بإعدام أحدهم.
لم يحتمل أخوه وليد ذلك الخوف والعذاب المستمرّ، فقرّر الالتحاق بأخيه سمير في دهوك وبقي وسام صامدًا!


ذروة المأساة
الى جوار منزل أسرة وسام، وُجِدت مساحة فارغة تقدّر بنحو مئة متر تعود ملكيتها للدولة، كانت الأسرة قد بنت لها سياجًا وجعلت منها حديقة للبيت. كانت هذه المساحات الفارغة إغراءً لا يقاوم للمستغلّين غياب القانون وضعف الدولة للاستحواذ عليها... فالحّوا على وسام باعتباره يسيطر عليها بحكم الواقع والظروف، وقدّموا له مختلف العروض التي تضمنت في بعض الاحيان تهديدًا مبطّنًا، اذ هو بنظرهم في نهاية الأمر، مسيحي و"مكسور الجناح".
تحت ضغط الالحاح أضطر وسام للموافقة، لكنه اختار ان يعطيها لشخص تربطه به صلة معرفة سابقة، على ان يقوم الأخير بتعويضه عن مبلغ السياج والحديقة والملحقات الأخرى التي أحدثها في مساحة الأرض.
في اليوم التالي من استلام وسام المبلغ المحدّد وجد في فناء الدار، جهازًا نقّالاً (موبايل) من النوع الرخيص، فالتقطه، لكنه أدرك أن في الأمر شيئا ما. وبالفعل، لم تمض ساعات طويلة حتى رنّ جرس النقال.
كان الأمر أشبه بصاعقة نزلت من السماء على رأس وسام وأسرته، فالصوت القادم من الهاتف طلب الحصول على المبلغ المالي الذي حصل عليه وسام ثمن مساحة الأرض المجاورة!
وسط ممانعة أولية من وسام، صمّمت زوجته وأمه على المغادرة فورًا الى محافظة دهوك، اضطر معها للنزول عند رغبة العائلة وخوفها، والعودة الى جذوره في ما يشبه الحلقة الدائرية، شأن آلاف العراقيين الذين اضطرتهم دوامة العنف والطائفية الى العودة الى جذورهم وأماكنهم الأولى بعد مغادرتها لعشرات السنين.


يوم عيد الميلاد
صبيحة 25 كانون الاول 2010 الموافق لعيد ميلاد السيد المسيح، غادر وسام وأسرته الى دهوك، وعلى مقربة من قضاء الدجيل في تكريت (60 كم) شمال بغداد، صادف وجود رتل عسكري أميركي يسبقهم بقليل ويسير في نفس الاتجاه.
لم تنفجر العبوة الناسفة التي وضعت لاستهداف الرتل الأميركي، وفي تلك اللحظة الهمجية المستحيلة التي تدّخرها الأقدار لأصحاب الحظوظ العاثرة، انفجرت العبوة تحت السيارة التي أقلّت وسام وأسرته.
قضى الانفجار على زوجته مارلين ايشو في الحال، وأصيب هو وأمه وولده الصغير آشور بجروح خطيرة. وجدت نحو 200 شظية في جسد أمه العجوز التي توفيت بعد اربع سنوات من الحادث. وتعافى هو وابنه آشور بعد فترة.
عقب الحادث بأشهر، تمكّن وسام بصعوبة من إرسال ابنه آشور الى خالته المقيمة في استراليا، وظل هو يتردّد بين بغداد ودهوك على أمل ان يتمكن من الالتحاق بولده في استراليا.
في يوم ميلاد السيد المسيح وقع الحادث الأليم مع وسام وأسرته، وهو اليوم يتذكّر بحزن وفجيعة أحداث قيامته وحيداً في بغداد.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم