الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

في حِراك الساحتين والمظلوميّتين

طلال خوجة
A+ A-

لطالما شكلت الفيحاء الشمالية مادة دسمة للإعلام خصوصاً في أعقاب أحداث 7 أيار وإعادة تخصيب الصاعق المذهبي بين التبانة وبعل محسن، قبل أن يُتفق على تهدئة في إطار حكومة ربط النزاع بين القوى السياسية المنشطرة.


الطرابلسيون الذين استراحوا من تعداد جولات العنف، أملوا طبعاً أن يتعرضوا لجولات تنموية في المقابل تعوض المدينة جزءاً مما خسرته بعدما بدأت أزمتها الاقتصادية تنعكس إغلاقا لمزيد من المؤسسات التجارية وتراجعاً مذهلاً في الإستثمار داخل المدينة.
وإذ إستعادت أسواق المدينة بعضا من حركتها مع توقف العنف، فإنها ظلت قاصرة عن استعادة الأدوار التي خسرتها على مر السنين.
لم يكن الهدوء شاملاً في المدينة، إذ إخترقته حوادث بين الجيش والمسلحين ووقعت عملية انتحارية مزدوجة في بعل محسن، كما رافق التدابير الأمنية بعض التشجنات وظهرت مشكلة ساحة كرامي - النور مجددا والتي تكاد تختزل الصورة النمطية للمدينة، حيث تستثمر بعض الفئات والمجموعات المتشددة في قضية المظلومية السنية المتصاعدة على وقع أزمات المنطقة. وفي المحصلة فإن حركة الساحة شكلت انتكاسة جديدة للمدينة التي كانت تأمل مزيداً من الحزم في تنفيذ قرارات رفع الصور والشعارات مقابل تخفيف التجاوزات الملازمة لشعار مكافحة الإرهاب الملتبس، والتي تزيد من نسبة المظومية، ما يجعل المدينة تدفع ثمن هذا الإلتباس ضعفا في مناعتها المكتسبة، حيث يتعرض نسيجها الإجتماعي للتفتق عند كل هزة. وإذا كانت مشهدية ساحة كرامي - النور قد سارت على إيقاع المظلومية السنية، فإن مشهدية المرآب - ساحة التل قد سارت على إيقاع البارانويا الطرابلسية، رغم اختلاف بعض العناصر التي شاركت في رسم المشهدين، إذ بدت الثانية أكثر قربا من حركة المجتمع المدني، بينما بدت الأولى أكثر إشهارا للعصبية الأهلية.
ورغم الطابع المدني الإجمالي الذي طبع حركة الإعتراض على مشروع المرآب والذي امتاز بحيوية ملحوظة استطاعت استدراج فئات واسعة من المهتمين، إلا أن اختلاط المدني بالأهلي شكل السمة الأبرز للتحرك، وعلى خلفية تنافس سياسي متخلف! وهذا ما يساهم في عدم تحويل الحركة الإعتراضية إلى قوة دفع إيجابية لتحسين المشروع المطروح (تنفيذا وإدارة وتمددا نحو الواجهات والأبنية).
ورغم تلمسنا للشخصانية والتسييس، إلا أننا نبدي إعجابنا بالحيوية الطرابلسية التي تترافق مع فيض من النشاطات المتنوعة والتي تشكل جاذباً لشرائح متعددة وتعيد الأمل للطرابلسيين بإمكان كسر صورتهم النمطية التي عززتها جولات العنف والمناكفات العبثية.
ومع خسارتها للمصفاة وتحول المعرض الفريد عمرانيا شبه خردة، وتراجع حركة المطالبة بمطار القليعات، ومع التنفيذ المريع لبعض المشاريع كالإرث الثقافي والبنى التحتية وعدم تشغيل محطة التكرير وتحول المطمر قنبلة موقوته والبطء في البناء الجامعي، فضلاً عن الواقع المريع في المجلس البلدي الذي استقال رئيسه اخيراً ومع تراجع في بنى المدينة الأساسية نكون أمام لوحة تشكيلية، خصوصا في الأحياء الفقيرة، إذ أن المدينة تكاد تصبح مدناً عدة. علما أن حركات الإعتراض تحمل في داخلها جزءاً من أمراض النخب الطرابلسية المتوارثة والمتفاقمة بعد تفكك الحركات الحزبية العابرة للمذاهب.
وعليه نرى:
أولاً: كل المكونات والمنوعات تجمع على أنه لا عودة جدية للمدينة دون نهضة التل ومتفرعاته الكثيرة وصولاً الى الأسواق القديمة.
ثانياً: إذ ينفخ البعض على اللبن، وتزداد شكوك وهواجس البعض الآخر نتيجة ضعف الثقة بالطبقة السياسية، فإن الجميع مدعوون لوقف هذا العصف المستمر والذي فاض عن الكوب الطرابلسي.
ثالثا: لا أحد يعتقد أن نزع شعار قلعة المسلمين طرابلس أو حتى عودة تمثال كرامي إلى ساحته ورفع إسم الجلالة على أعلى مرتفع في المدينة كما يقترح كثيرون سيغير الكثير، رغم أنها ستشير إلى طي صفحة ملتبسة من تاريخ المدينة. كذلك لا أحد يظن أن تنفيذ المرآب مع كل التحسينات المطلوبة سينتشل المدينة من القعر، فحتى سوليدير رمز الإعمار تترنح تحت الضغط، علما أن واقع التل ومحيطه يختلف عن واقع الوسط التجاري البيروتي والذي دمر في الحرب الأهلية وأعاد الحريري بناءه عبر سوليدير، بينما التل عامر بما تبقى من أهله رغم تداعيه بسبب الأحداث والتجاوزات ونزوح المؤسسات والقطاعات الوازنة إلى أمكنة أخرى، ما يطرح أسئلة جدية حول قضية إعادة النهوض في التل، بما يتجاوز قدرة أي مخطط توجيهي على الإجابة الشاملة.
رابعا: ربما وجب علينا التواضع والإعتراف بواقع الحال حيث أننا نشكل جزءا من الأزمة، إذ نعتمد المقارنات ورهاب المؤامرة، عوض تظهير مكامن القوة التي تعيد توحيد المدينة باعتبارها العاصمة الشمالية التي لا يمكن أن تستغني عنها أقضيتها التي تظل محدودة القدرات والطموحات، ما يعني أن مصيرها مرتبط عضويا بمصير المدينة.
لا ندعو لتخفيف إيقاع الحراك المجتمعي، بل نتمنى أن يصب في المجرى المؤدي لدعم الإنماء والإستقرار، ذلك أننا نؤمن بميزات اقتصادية تفاضلية للفيحاء تؤهلها لأداور مهمة، بما فيها التكنولوجيا الناعمة ويمكن أن تتهيأ أيضا لدور في إعادة إعمار سوريا (حين يتوقف هدمها) فضلا عن ميزاتها الجغرافية والتراثية باعتبارها حاضة المدينة المملوكية.


استاذ في الجامعة اللبنانية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم