الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كم نفتقدكَ أيها المناضل النقابي!

غسان صليبي
كم نفتقدكَ أيها المناضل النقابي!
كم نفتقدكَ أيها المناضل النقابي!
A+ A-

كلّما تجوّلتُ في البلدان العربية حاملاً مشاريع وبرامج لتطوير النقابات العمالية، التقيتُ بمناضلين نقابيين، أتعلّم منهم قبل أن يتعلّموا منّي، فيقدمون لي نماذج حيّة للمناضل النقابي المدافع عن قضايا العمال ومصالحهم، في مصر أو الجزائر أو تونس أو المغرب أو البحرين أو الأردن أو غيرها. افتقد، بالكثير من الحسرة، المناضل النقابي في لبنان. هذا لا يعني انه لا يوجد مناضلون نقابيون، لكنه يعني ان عددهم قليل جدًا وهو في تناقص مطّرد عبر السنين.


نموذج النقابي الوسيط
انكفاء النقابي المناضل في لبنان جاء لصالح نموذج "النقابي الوسيط" وانتشاره كالفطر على رأس معظم النقابات والاتحادات العمالية. النقابي الوسيط هو ذلك الذي يلعب دور الوساطة بين العمال والموظفين والاتحاد والجهات المسؤولة. هو لا "يمثّل" العمال والموظفين، بل يلعب دور الوسيط بينهم وبين فريق آخر يقبل بوساطته.
انتشر هذا النموذج بشكله البدائي منذ ما قبل الحرب في لبنان، ولا سيما في أوساط ما عرف بـ"اليمين النقابي"، لكنه بعد ذلك اتخذ ابعادًا أخرى جعلت منه النموذج السائد حاليًا. يتحرك الوسيط، وهو المنتخب على رأس نقابته، كلّما كان لأعضاء نقابته مطالب. يتحرك في اتجاه الجهة المسؤولة عن اقرار هذه المطالب ويسعى لـ"إقناعها" بالتجاوب معها. عملياً، هو لا يفاوض مستعيناً بقوة الضغط التي تتمتع بها نقابته، بل يفتش مع الجهة المسؤولة، عن "مخرج"، يحقق بعض المطالب لكنه في الوقت نفسه يحافظ على مصلحة هذه الجهة المسؤولة على المدى الطويل. الاتفاق الذي يتوصل اليه، يلحظ من ضمن شروطه غير المكتوبة، "بدل اتعاب" لهذا الوسيط، يتقاضاه كمكافأة له لفض النزاع الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة على المستوى المالي ومستوى الوعي النقابي والعمالي الذي يحرص على أن يبقيه دون المستوى القطاعي او الوطني، وبالتأكيد دون المستوى الطبقي والسياسي.
دور الوسيط هذا عرف رواجًا وانتشارًا خلال الحرب وما بعدها. فمع دخول الأحزاب القوي – ولا سيما المذهبية منها – الى الميدان النقابي وإنشائها نقابات واتحادات ذات صفة مذهبية، اتخذت الدوافع المادية والمبررات الايديولوجية لدور الوسيط بعداً أوسع. فالنقابي الذي يعيّنه حزبه على رأس نقابة أو اتحاد، اختير للعب دور الوسيط الطبقي بين العمال والجهات المسؤولة، تمامًا كما يلعب حزبه دور الوسيط الطبقي في إطار المحافظة على وحدة المذهب أو الطائفة. حتى في النقابات المختلطة مذهبيًّا وحزبيًّا، التي يسيطر عليها تحالف الاحزاب بشكل عام (راجع مقالنا "هل تنشأ نقابات مستقلة في لبنان"، في جريدة السفير 14 شباط 2015)، يبقى دور الوساطة قائمًا لكنه يصبح أكثر تشعّبًا: النقابي ينقل معه مفهومه الحزبي إلى العمل النقابي ويضيف اليه "وساطة" من نوع آخر، محاولة التوفيق الدائم بين مواقف الأحزاب المهيمنة على النقابة.
النقابي الوسيط لا يشعر بالانتماء الى طبقة العمال والموظفين، بل يقف وسيطًا بين هذه الطبقة وطبقة أصحاب الأعمال أو الطبقة السياسيّة. انه يشكّل فئة خاصة، نوع من بورجوازيّة صغيرة تتطلّع الى فوق حيث مصدر سلطتها وصلاحياتها. الكثير من النقابيين هؤلاء، لا يمارسون مهنة معينة بل هم "متفرغون". مصدر عيشهم إمّا من حزبهم وإما من رواتب يقبضونها من مؤسسات، هم مسجلون فيها كعاملين لكن من دون ان يعملوا. هناك، بالطبع، من يعمل لحسابه الخاص في قطاعات مختلفة.
نموذج النقابي الوسيط أدخل مفاهيم وسلوكيات جديدة على العمل النقابي لا تمت بصلة الى العمل النقابي الجماعي الذي يتوسّل بالتنظيم والنضال من اجل الدفاع عن مصالح الاجراء، عمالاً وموظفين.


النقابي المناضل
لا تخلو الحياة النقابية من مناضلين نقابيين، معظمهم أصدقاء لنا، يعملون في ظروف اقتصادية واجتماعيّة وسياسيّة وأمنيّة معقّدة وصعبة، في ظل فراغ مؤسساتي على المستوى التشريعي والتنفيذي الرئاسي. عرف تاريخ الحركة النقابية اللبنانيّة نقابيين مناضلين شكّلوا نموذجًا للعمل النقابي المناضل منذ ما قبل الاستقلال حتى السنوات الأولى من بداية تطبيق اتفاق الطائف حيث دخلنا بعد تلك المرحلة في عصر النقابي الوسيط كنموذج نقابي سائد حاليًا.
في تمرين نريده واقعيًّا وطوباويًّا في آن واحد، نستلهم هؤلاء النقابيين المناضلين، ونتساءل ماذا يمكن ان يكون موقف النقابي المناضل لمناسبة الأول من أيار عيد العمال، العيد الذي يفرض على النقابي مراجعة عمله ويطرح عليه السؤال الملح والمؤلم: ماذا فعلت – أو تفعل – للدفاع عن مصالح العمال والمستخدمين في لبنان؟
فلنتخيّل معًا جلسةً بين مناضلين نقابيين عشيّة الأول من أيار يراجعون فيها مهامهم ويرتّبون أفكارهم من دون السعي المضني في هذه الجلسة إلى وضع استراتيجيّا للتحرّك في المرحلة المقبلة.
في نهاية النقاش يحصون سبع مهمّات تلبّي احتياجات متنوّعة على المستوى الوطني العام.
أولاً: يبدأ المناضلون بأمّ المهام: استقطاب العمال وتنظيمهم نقابيًّا. يعرف المناضلون النقابيون أن لا ثقة للعمال بالعمل النقابي وأن الاستقطاب الدارج هو المذهبي سياسيًا ونقابيًا. لكنهم يعرفون أيضًا أن لا قدرة للنقابات على الضغط من أجل تحقيق المطالب سوى من خلال زيادة عدد المنتسبين وتضامنهم، في مجتمع تكاد تخلو فيه هيئات الحوار الاجتماعي التي يمكن ان تعطي العمال ونقاباتهم بعضًا من التأثير في الخيارات الاجتماعيّة الاقتصاديّة. لا بدّ اذاً من حملات الاستقطاب في القطاع المنظم الذي لا تتجاوز فيه نسبة الانتساب 5 في المئة، لكن ايضًا في القطاع غير المنظم أو غير الرسمي الذي يفتقر في معظمه الى نقابات تدافع عن اجرائه العاملين في ظروف هشّة.
ثانيًا: يفترض الاستقطاب والتنظيم ما يسمّيه النقابيون حرية التنظيم وهي في صلب الحريات النقابيّة التي نصت عليها الاتفاقات الدولية وخصوصاً الاتفاقات 87، 98، و135. معركة الحريات النقابية اذاً ملازمة لمهمة الاستقطاب والتنظيم، في بلد لم يصادق إلاّ على الاتفاق 98 (حق التنظيم والمفاوضة الجماعية)، وحكوماته ترفض الموافقة حتى الآن على الاتفاق 87 (الحرية النقابية وممارسة حق التنظيم النقابي) والاتفاق 135 (توفير الحماية والتسهيلات لممثلي العمال في المؤسسات). وقد برهنت معركة انشاء نقابة مستقلة في مؤسسة "سبينس" ركاكة الحماية القانونية والسياسية التي يتمتع بها العمال وقدرة صاحب العمل على فصل العمال وتعنيفهم من دون أي رادع.
ثالثًا: حرية التنظيم تحفظ استقلالية النقابات، ليس تجاه الدولة فقط، بل تجاه كل طرف خارجي يسعى للسيطرة عليها وخصوصاً أصحاب العمل والاحزاب السياسيّة. في الحال اللبنانيّة اصبحت الاحزاب السياسيّة، المذهبيّة تحديداً، تسيطر على معظم النقابات والاتحادات، منفردة أو متحالفة. التحدّي هنا كبير أمام المناضلين النقابيين الذين يرفضون الاستسلام لهذه الظاهرة والخضوع لمستلزماتها. هم أمام خيارين: إما تكوين معارضات عماليّة مستقلة داخل النقابات والاتحادات الخاضعة للهيمنة الحزبية، وإما تأسيس نقابات مستقلة بالكامل عن هذه الهيمنة. ولكل خيار شروطه وتبعاته.
رابعًا: تكوين معارضات او تأسيس نقابات متفلتة من الهيمنة الحزبية تفترض بدورها العمل على توحيد الاجراء بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبيّة والطائفيّة والسياسيّة، من خلال رفع لواء حقوق الانسان والمواطنة والمصالح الاجتماعية- الاقتصادية. المهمة لا تبدو بسيطة بالنسبة إلى النقابيين المناضلين. هم يعون تمامًا ان البلد يعيش أعنف استنفار مذهبي في تاريخه الحديث. وهم بحاجة الى استلهام النضالات التي قامت ابان الحرب وقادها الاتحاد العمالي العام في حينه ضد الحرب والانقسامات الطائفية والمذهبية. أو تنظيم الحملات، كتلك التي نظمتها نقابات الخدمات العامة تحت شعار "بالشغل حد بعضنا وبرا كمان"، حفاظًا على السلم الاهلي ودفاعًا عن وحدة البلد.
خامسًا: تكوين المعارضات او النقابات المختلطة مذهبيًا والمستقلة عن الهيمنة الحزبيّة، لا يستقيم من دون بناء الديموقراطيّة التنظيميّة التي مسخت اسسها في التجربة النقابية اللبنانية الحديثة. هنا يعيد النقابيون المناضلون التذكير بالقواعد الديموقراطيّة البديهيّة، التي يجري تجاوزها في الكثير من النقابات اللبنانيّة: انتخاب الهيئات الدنيا للهيئات العليا بالاقتراع السرّي، دوريا من الاعضاء ومن بينهم؛ اطلاع الاعضاء على المسائل والاعمال والنشاطات النقابيّة من خلال آليّة محدّدة ومقررة من المنظمة، على أن تخضع جميعها الى مراجعة دورية من قبلهم. اعتماد قواعد لإدارة الاجتماعات والمناقشة واتخاذ القرارات بحسب الاصول المعتمدة في الاجتماعات في المنظمات الديموقراطيّة، تعزيز مشاركة النساء والشباب (أو فئات أخرى مهمّشة) عبر تدبيرين: اعتماد الكوتا وانشاء لجان خاصة لتأطير هذه المشاركة وتفعيلها؛ ادارة الشؤون النقابية العامة والمالية في جو من الشفافية وبعيدًا عن الفساد.
سادسًا: أهم وظيفة للديموقراطيّة التنظيميّة هي انتاج خطة تحرّك نقابيّة من خلال الآلية الديموقراطيّة للتعبير عن إرادة الاعضاء ومشاركتهم في تنفيذها بالفاعليّة القصوى. يعي المناضلون النقابيون هشاشة الاوضاع السياسيّة والأمنية في البلاد، لكنّهم تحديدًا بسبب ذلك يدركون أهمّية التحرّك في إطار خطة استراتيجيّة طويلة الأمد نسبيًّا كي لا يبقى تحرّكهم سلسلة من ردود الفعل على الأحوال المتقلبة ورهن ظروف خارجة عن ارادتهم. المناضلون النقابيون حرصاء على ان تتضمن الخطة الاستراتيجيّة، الى المطالب الملحة، رؤية طويلة الأمد لتحقيق العدالة الاجتماعيّة. هذا يفترض العمل على تغيير السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للدولة وقد اعطت هيئة التنسيق النقابية في نضالاتها السابقة مثلاً لكيفية طرح تغيير السياسات، الضرائبية تحديدًا، في موازاة العمل على تحقيق مطالبها المحقّة. اما في ما يتعلّق بأشكال التحرك، فمع اقرارهم بأهمية تنويعها بين مفاوضات ووسائل ضغط ديموقراطية، من ضمن خطة تصعيديّة واضحة، فإنهم يدركون ضرورة إعطاء أهميّة أكبر للحملات كشكل من أشكال الضغط لتحقيق المطالب، ولا سيما بعد تراجع الدولة عن التدخل عبر اللجان الثلاثية وبعد انكفاء انظمة المفاوضة الجماعية، وتفككها. ذلك كله، في ظل تحكّم المؤسسات الماليّة الدوليّة ومنظمة التجارة العالميّة والشركات المتعددة الجنسية في رسم السياسات الاقتصادية – الاجتماعية في مختلف البلدان.
سابعًا: في ظل عولمة الاقتصاد هذه وتحكّم المؤسسات المالية والتجارية الدولية في اقتصادات البلدان، يدرك المناضلون أهمية الانخراط في المنظمات الدولية النقابية كشرط ضروري لكل تحرّك ضاغط على المستوى العالمي. وهم يعرفون ان هذه الحاجة تأتي نتيجة تقصير نقابي لبناني تاريخي من جهة، وفي مناخ من عدم ثقة الحركة النقابيّة الدوليّة بالحركة النقابيّة اللبنانيّة من جهة ثانية. الجهد المطلوب هنا مزدوج ويتطلّب مبادرات في اتجاهات عدّة. لكن المناضلين النقابيين لا يكتفون بالتركيز على هذا الشكل من التضامن الدولي، بل يدركون أيضًا أهميّة الانخراط في شبكات المجتمع المدني، المحلية والعالمية، وخصوصاً تلك العاملة من اجل احترام حقوق الانسان وحقوق المرأة ومكافحة الفقر والتصدّي لسياسات منظمة التجارة العالميّة، من ضمن رؤية لبناء عولمة بديلة أكثر عدالة للافراد والشعوب. هنا أيضًا الثقة بين النقابات وهيئات المجتمع المدني يشوبها الكثير من الشكوك ولم تعرف هاتان الجهتان في لبنان علاقة تاريخية جدّية ومتينة. على رغم ذلك يريد المناضلون النقابيون ان يعوّلوا على مبادرات بعض هيئات المجتمع المدني للتقريب بين الفئتين ولا سيما المركز اللبناني للتدريب النقابي، المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، شبكة المنظمات العربيّة غير الحكوميّة للتنمية، والمفكرة القانونيّة والتجمّع النسائي الديموقراطي.
كاد المناضلون النقابيون يضيفون مهمة ثامنة كشرط لممارسة المهام السبع الأخرى: التزام النظام الديموقراطي كإطار سياسي صالح للنضال من اجل العدالة الاجتماعيّة ومن اجل تطبيقها. لكنّهم حين بدأوا بمناقشة النظام الطائفي التابع للنظام الاقليمي، كعقبة أساسيّة على طريق بناء ديموقراطيّة المواطنة في لبنان، وجدوا انفسهم أمام تعقيدات جمّة تتطلّب نقاشًا أوسع قد يطول أكثر ممّا تتحمّله هذه "الجلسة". "لا بد من نظام علماني في لبنان"، قالها أحدهم بصيغة "اللا بد" التي لا توضح كيفيّة الوصول الى مبتغاها هذا...

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم