الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

رسالة إلى الاتحاد الأوروبي: أنتمْ أيضاً في فخِّ الانهيارات العربية

جهاد الزين
جهاد الزين
A+ A-

في الاجتماع الطارئ الأخير لدول الاتحاد الأوروبي بعد فاجعة غرق 700 مهاجر غير شرعي في البحر الأبيض المتوسط بين ليبيا وإيطاليا تسرّبت معلومات نقلها بعض الصحف الفرنسية أنه خلال الاجتماع قدّم الخبراء رقما تقديريا عن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يستعدون في هذه الفترة وانطلاقا من دول عربية آسيوية وصحراوية أفريقية لمحاولة الدخول إلى أراضي دول الاتحاد الأوروبي وهو مليون شخص!


هذا يعني مدى صعوبة الموقف من مستوياته المختلفة الإنسانية والديموغرافية والسياسية والأمنية والاقتصادية، صعوبةٍ بدأ الأوروبيون يتعاطون معها كمسألة استراتيجية طويلة الأمد. يعكس هذا التقييم الاستراتيجي للمسألة حجم النقاش الدائر حولها في أوروبا اليوم.
هل لا يزال يختلف اثنان أن الانهيار  الشامل غير المسبوق الذي دخلَتْه أوضاع دول و مجتمعات في المنطقة المتوسطية المحيطة بأوروبا وخصوصا ذات الشواطئ المتوسطية هو المسؤول الأساسي عن موجات التدفق البشري غير الشرعي إلى أوروبا؟
ألا يعني هذا أن السياسات التي انخرطت فيها الدول الأوروبية الكبيرة في العراق وسوريا وليبيا واليمن بالتحالف مع الولايات المتّحدة الأميركية ووراءها، باتت تحتاج إلى مراجعة عميقة لأن الخطر الآن غير العادي وغير المسبوق بات يهدِّد أوروبا مباشرة بينما هذا الخطر لا يهدد واشنطن البعيدة ديموغرافيا عن المنطقة؟
هل وقعت أوروبا في فخ كبير عبر انخراطها الكامل بعد العام 2011 في "الفوضى الخلاّقة" التي يعيشها الشرق الأوسط العربي أساسا أيا يكن تحديد مصادرها ولاسيما انحلال سلطاتها المركزيّة بعد عقود الاستبداد؟
الإجابات هنا تحتاج إلى عودة للوراء لا بد منها من حيث تاريخ علاقة أوروبا والغرب بالهجرة الشرعية من المنطقة... لنعود لاحقا إلى الراهن:
بعيدا عن نظرية المؤامرة الوحيدة الجانب والمحض اتهاميّة، لا شك أن انهيار دول ومجتمعات عربية  ضخّ ويضخّ في الغرب الأميركي والأوروبي شحناتٍ مهمّة من النخب والكفاءات ورجال الأعمال ومعهم رساميل علمية وبشرية عالية هربت من جحيم الحروب ومن شأنها سدُّ جزء من الفراغ الديموغرافي الذي تعاني منه دول أساسيّة في أوروبا. حتى على صعيد العمالة غير الماهرة يُلاحَظ أن الدول الأوروبية، بمن فيها دول متشدّدة عادةً في إعطاء التأشيرات والإقامات، فتحت المجال أحيانا وتحت الشعار الإنساني الذي فاقمته الأحداث في سوريا والعراق لموجات مدروسة من هجرة العمال غير المهرة إليها مع زوجاتهم وأطفالهم. طبعا هذه الفئة الأخيرة تدخل إلى أوروبا بشكل شرعي بأعداد محدودة ولكنْ ملموسة أيضا كأنما هناك قرار في بعض هذه الدول، إضافةً إلى الاعتبار الإنساني بتلبية حاجة غير معلنة لنوع من الوظائف التي لا يقوم بها إلا عمّال غير مهَرة.
مرة أخرى لا يجب النظر إلى هذه الظاهرة المتمادية محض نظرة تآمرية من الغرب. فالكثيرون منا نحن شعوب هذه المنطقة بات لدينا أهلٌ وأبناء وأقارب وأصدقاء صاروا جزءاً من هذه المجتمعات ويندمجون في حياتها الاجتماعية والاقتصادية وعددٌ كبير منهم يدينون لهذه الدول الأميركية والأوروبية بإعطاء أبنائهم فرصاً للدخول إلى أهم جامعاتها وتفتُّحِ كفاءاتهم ومواهبهم واستيعابهم بالتالي في سوق العمل فيها بما لم يُتَحْ لهم ذلك في بلدانهم. هذا حديث يتعلّق  بعشرات الآلاف بل مئات الآلاف، ويشعرون بالامتنان.
كان هذا المد من الكفاءات الشبابية موجودا دائما في العقود الأخيرة وأقوى من أي حقبة سابقة في تاريخ علاقة الغرب بالعالم الثالث ومنه منطقتنا بل هو إحدى سمات العولمة خصوصا على مستوى هجرة الكفاءات الكثيف في العقود الأخيرة حتى أنه مثلا لزائر الولايات المتحدة الأميركية  أن يلاحظ بدءا من السبعينات أن مراكز الهجرة اللبنانية التقليدية القديمة كانت عموما في المناطق البعيدة أو في الضواحي الفقيرة والمتوسطة للتجمعات الصناعية بينما أصبح تواجد اللبنانيين وبعضٍ غيرهم من المنطقة اليوم، منذ السبعينات، في مدن الإشعاع الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي كواشنطن ونيويورك وسان فرنسيسكو وغيرها. والجواب بسيط: كون هذه الموجات المهاجرة هي من النخب العلمية أو الاقتصادية أو الثقافية.
عرف التاريخ الأوروبي المعاصر تنظيم موجات هجرة شرعية لعمال غير مهرة أبرزها موجتان: التركية إلى ألمانيا والجزائرية- المغاربية إلى فرنسا  بعد الحرب العالمية الثانية وكلتاهما ساهمتا في إعادة بناء البلدين عمرانيا عبر الرواتب المنخفضة التي كان يتلقّاها العمال المهاجرون. هناك موجة  عمالية مماثلة وسابقة عليهما من لبنان وسوريا إلى الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن العشرين ولاسيما خلال الحرب العالميّة الأولى.
هجرة النخب العلمية، طلاباً ومختصّين، والرساميل متواصلة في العقود الأخيرة وكلها من الطبقات الوسطى وأعلى. حتى أن  بلداناً مثل ألمانيا تحوّلت من دون تردّد إلى بلدان هجرة نخب وكفاءات وتبني استراتيجية على هذا الأساس. الدول الاسكندنافية تغيّر مشهد مدنها بسبب استقبالها للاجئين من كل الأطياف. أحد التقديرات المتداولة أيضا في الاجتماع الأوروبي الطارئ بعد نكبة غرق السبعماية مهاجر غير شرعي هو أن بلدا مثل ألمانيا يحتاج إلى قوة عاملة جديدة كثيفة من خارجه قياسا إلى ملايين الوظائف المتوقعة التي سيفرزها الاقتصاد الألماني في السنوات المقبلة. وهناك خبراء اتهموا بعض الشركات الفرنسية الكبيرة بتشجيع توظيف العمالة غير المرخّصة بسبب تدنّي الأجور.
أين تكمن الحقيقة إذن؟ هل هي في سياسات تشجيع العمالة المضبوطة أم في مواجهة تدفّق ديموغرافي غير شرعي؟
الجديد غير المسبوق الذي افتتحته بشكل خطر انهيارات دول ومجتمعات عربية بعد 2011 هو التدفّق الكبير غير الشرعي عبر البحر، (والذي تصل  موجاته إلى الشواطئ الاندونيسيّة) الأمر الذي استوجب تحريك أساطيل أوروبية لحماية المنافذ الجنوبية والشرقية إلى الشواطئ الأوروبية. فالظاهرة مهيّأةٌ لتجاوز أية ضوابط وسقوف. ولهذا أوروبا في حالة استنفار.
أوروبا في حرب كبيرة بتعرّضِها لموجات هجوم من "جيوش" الجائعين والعاطلين عن العمل والمشردين من دول الحروب العربية والإفريقية بينما أميركا ليست تحت هذا النوع من الضغط الديموغرافي الشرق أوسطي سوى في الجانب المتعلّق بحربها مع التنظيمات الجهادية التي تستهدفها. وهي حرب مضبوطة وباتت بعيدة عن الأراضي الأميركيّة منذ ما بعد 11 أيلول 2001. أما بالنسبة لأوروبا التي تواجه المخاطر الأمنية الداخليّة من الجهاديّين فالصورة كما يراها اليمين المتطرّف الآن هي أن "هنود حمر" العصر الحديث يهاجمون المرافئ البحرية الأوروبية ولا يحملون معهم أي دعوة أو قضية سوى البقاء على قيد الحياة. "عبيد" روما الحديثة يهاجمونها بحرا.
إنه الغزو ولو بأسلحة بدائية كالمراكب الصغيرة أو بدون أسلحة. لكنه غزو. وهي بذلك، أي أوروبا، تنتبه كيف أن "اللعبة" الشرق أوسطية، بعد تحوّل الثورات ضد الاستبداد إلى حروب أهلية وإقليمية ودولية بالواسطة، أخذ فلتانُها ينعكس بشكل خطير على "القلعة" الأوروبية ويهدد حصانتها. والمفارقة الكبيرة، التي يسمّيها بعض المثقفين الأوروبيّين دائما خبثا سياسيا من قِبَل حكومات دول الاتحاد الكبيرة، هي استمرار تشجيعها لحروب باتت تقودها تنظيمات جهادية في الوقت الذي تخوض فيه معاركها ضد موجات التدفّق غير الشرعي التي تسببها الحروب المديدة.
هل وصلت هذه الازدواجية إلى أقصاها بحيث لم تعد مفيدة؟
المشهد بين أوضاع سوريا وليبيا والعراق المنهارة وبين مشهد مئات الغرقى بل ألوفهم في عبّارات البحر الأبيض المتوسط قرب مالطا وصقلية واليونان لم يعد ممكنا تعايشهما إلا لو كان هناك معيار خفي؟
أوروبا في الفخ. في فخ الفوضى "الخلاقة". قصدت واشنطن ذلك أم لم تقصد فهو فخ حقيقي.
ماذا ستفعل أوروبا بل ماذا عليها أن تفعل؟ لقد أصبح تشجيع تسويات سياسية في المنطقة حاجة أوروبية بينما لا زالت بعض الأوساط النافذة في وزارات الدفاع والخارجية والمخابرات الأوروبية تتعامل معها على أنها فرصة تغيير الشرق الأوسط ولا سيما العالم العربي لصالحها ولا نرى بعد كيف تكون هذه الحروب لصالحنا باستثناء أشهر قليلة سلمية من التفاؤل في القاهرة وتونس بعد ثورتي البوعزيزي وميدان التحرير؟
ما هو مفهوم "الصالح"؟ الأمر الأكيد أنه لو حصلت تسويات اليوم وليس غدا في سوريا والعراق وليبيا واليمن فإن إعادة إعمار هذه الدول ستحتاج الى جيل كامل بل جيلين!
فهل يعقل أن تستمر السياسة الأوروبية وهي داخل الفخ الخطير والدموي الذي تجد هي ونحن أنفسنا فيه مثلما كانت قبلها؟ خصوصا أن اللاعب الأكبر في المنطقة، وهو واشنطن بات يتلمّس ضرورات التغيير والبحث عن تسويات.


[email protected]
Twitter: @ j_elzein

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم