الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

صورٌ تقاوم النسيان وتخلّد الذاكرة الصامتة

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
صورٌ تقاوم النسيان وتخلّد الذاكرة الصامتة
صورٌ تقاوم النسيان وتخلّد الذاكرة الصامتة
A+ A-

لا تزال رائحة الجثث تعذّب الذاكرة بعد مئة عامٍ على الإبادة. اقتلع الأتراك بارتكابهم أفظع إبادة في القرن الفائت بقاءَ الأرمن على أرضهم، وأخفقوا في اقتلاع الروح الأرمنية المتجذّرة في الضمير الحيّ. راحت الصور تتشبّث في الصميم كصوت يعنّ ليقضّ المضجع. بقسوته وفجاجته وعبثية النبرة. صوتٌ أشبه بصرخةٍ تنبثق من جرح. وغصّة شجرة قبل أن تُقطَع. أُبيد مليون ونصف مليون أرمني على أيدي ذبّاحي السلطنة العثمانية، وكان القصد أن يُباد الأثر ويُمحى الذِكر. وثّق الأرمن بقاءهم بصورٍ هزّت الإنسانية، وفرضت اعتراف أكثرية الدول بفظاعة الكارثة. ما حدث في 24 نيسان العام 1915 إبادة رهيبة. Genocide. ցեղասպանություն. إذلال شعبٍ بأكلمه. الدوس عليه بأقدامٍ باردة. إرساله الى الجحيم. قَهْر أبنائه الى الأبد. وجَعْل الدمع لا يجفّ حتى الممات. قدّم الأرمن اختزالاً عظيماً للصمود في وجه المأساة. بعظامهم المسلوخة عن اللحم، بتضوّرهم الجوع، وبسوقهم الى المشانق. علّموا البشرية كيفية البقاء أحياء رغم جنائزية الحال وضريبة النجاة.


الأمّ جثّة بين رفات ولدَيْن


هبَّ هواءٌ على جسدٍ أثقله التعب. ثلاثة أجساد هَمَدت. ما عادت تشعر باللّفْح. أمٌّ جثّةً بين ولدَيْن نائمَيْن. لا يُقال عن الأطفال موتى. وجوههم لا تفقه هذا اللغز. هم نيامٌ فحسب. بعظامهم المكشوفة على صَفير الريح. بيباس الحياة في عروقهم. بالسُبات. ثلاثة جاعوا حدّ السقوط. لو وجدوا القليل لاكتفوا. كَسْرة خبز. بقايا رغيف على الرصيف. مؤونة نملة. أمٌّ أرمنية ارتمت بين صغيرين من معدة خاوية. "أنا متأكدة من أنه ما من شعبٍ سار طويلاً وهو جائع مثل الأرمن"، قالت نوريستا أشخاريان (مواليد 1900). وأضافت: "لم يُقدَّر لأي شعب عذابٌ كعذابنا". خوفٌ وجوع. تعالوا يا ولدَي الى صدري. ارقدوا فوق جسدٍ أُبيدَت مفاتنه. وفوق نهدين ضربهما الجفاف فلم تبقَ نقطة لبن.



 


أراقبكم وقد أصبحتم بعضي المحتاج الى غير أقدار


أنا الجيل الباقي حياً. أذرف ذكراكم دمعاً بعمق البحر. بملوحته وأنفاس الغرقى في الصمت. بقيتُ حياً لأنتشل عظامكم من القعر. وأجد لها رمالاً دافئة. أجدادي. لِمن هذه اليد؟ لعلّها يد آنسةٍ جميلة أُبيدَت من دون قبلة. أو عَظْمة أبٍ لم يرَ ابنته سعيدة. لِمَ على العظام أن تتيتّم؟ ليتني أصنع منها قدراً جديداً. ووجهاً يبتسم قُبيل سكرات الوداع. أنتم بعضي في صيرورته الأبدية نحو الشمس. وفي عبوره الى البدء. أنتم دليل اصرارنا على الوجود رغم الجريمة. تلك التي شاهدها بارسيغ شاتويان (1905- 1999) بأم العين. "بأمّ عيني رأيتُ أكبر جريمة في التاريخ. لا يمكن لكل هذه السنوات أن تنسينا إياها". يروي قصّته: "في بداية الصيف، كنّا أنا ووالدتي وأختي نائمين على سطح منزلنا. كانوا قد أخذوا والدي الى الجيش ولم يعد. عند الفجر شعرنا بشخص يقول لنا بالتركية: "هيّا. انهضوا". وراح يضربنا. فتحنا أعيننا ورأينا أنه شخص تركي. كنا قد سمعنا أنّهم سيهجّروننا (...) فجهّزنا أنفسنا وأغلقنا الأبواب. أخذنا ما نملك من مال وانطلقنا مع العسكري نفسه وآخر كردي علّق على خصره سيفاً عثمانياً يصل الى ركبته. انطلقنا نحو المنفى. نحو الموت أحياء". العظام لا تنسى. تشبه وفاء الذاكرة.



(عن موقع الإبادة الأرمنية على الانترنت).


اصنعوا لنا ظلاً لنغفو حتى الصباح


أطفالٌ لا يشاغبون في العطلة الصيفية. لا يعذّبون الماما في غياب الأب. كُدّسوا أمواتاً على هامش طريق. وحدّتهم الحال الجثثية، كما يوحّد المريول التلامذة. يا صديقي ليتنا عرفنا بعضنا البعض من قبل. ليت حديقة جمعتنا، وأرجوحة عيد. أو ملعب كرة قدم نهرع إليه بعد المدرسة. جثّة تُحدِّث جثة. وأنفاسٌ تواسي أنفاساً تشعر بالرعب. أخبرتكَ أنني أخاف الليالي الطويلة. أتخيّل الأشجار أفواه ذئاب. والزيز لسعة عقرب. إننا هنا منذ أيام، وأنا يا صديقي أكره الوحدة. لا يقوى جسدي على الحركة. أبادوه حتى العظم. صرختُ لحظة موتي: "أريد ماما". Ես ուզում եմ ձեզ մորը. لم تأتِ. ماتت. أبعَدوا عني جسدها الميت. فرَّقونا أحياء وأموات.



 


في أوساخ الخيل، بحثنا عن حبوب الشعير


تروي لوسين كلافيان (مواليد 1912) قصّتها: "لا أذكر كيف نجونا من الإبادة. لكنني أعرف أننا لجأنا الى مكان ما فترة طويلة. وذات يوم، خرج والدي وتوجّه الى مطحنته ليتدبّر لنا ما نأكل. لكنه لم يعد. بعد أيام وجدناه مذبوحاً على بُعد أحياء عدة. عانينا مرحلة جوع طالت خمس سنوات". جُوِّع الأرمن حتى لفظوا النَفَس. تضوَّروا كما لا يصدّق عقل. دفعهم الجوع للبحث عن حبوب الشعير في أوساخ الخيل. حبّة شعير قد تطيل العُمر لحظة. أو بعض لحظة. حبة قد تُسكت صراخ طفل. عساه من فرط الجوع يتخيّلها سنبلة. والسنبلة تصبح رغيفاً. والرغيف حلم. المقهور يحلم ليحتال على القهر. يدرك أنّ صورة الينبوع لا ترطّب لساناً يابساً وانشراح الحقل لا يصنع مائدة طعام. حبة شعير من فضلات خيل. حبةٌ يا بشر!



 


"أعدّوا لي الأرض كي أستريح"


تعبتُ أيتها الأرض وأشاء لو تمتدّ يدٌ الى عيني فتغمضها. نستلقي أعداداً في انتظار أغنية. يسمّونها صلاة وأنا أسمّيها أغنية. احملوني على أكتافٍ تقوى على الشِّدة لتسير بي طويلاً. الى حيث يتعمّد الموتى ويُحتَفى بولادتهم الجديدة. يا كاهن، أي صلاة تُقرأ على الجريمة؟ أي ترتيلة تزيل الفجيعة؟ أي بخور يُنثَر؟ عبقت رائحة الموت. انتشرت حتى سُدَّت الأنوف وامتلأت الرئة ذنوباً كثيفة. جنائزية الإبادة لا تتم على عجل. على مَن تصلّي أيها الكاهن؟ على وجوه تشوّهت أو عيون قُقِئت؟ "أعدّي لي الأرض كي أستريح"، كتب شاعر الشتات محمود درويش. أعدّوا للأرمن سماء. أو جناح حسّونة. ليستريحوا في طلاقة الأثير. وفي البقاء الذي يقهر العدم.



 


يا لليد اللئيمة، لو كُسِرت!


عثماني يحمل رغيفاً يعذّب به أولاداً جوعى. مَن يريد منه كَسْرة؟ أنتَ أيها الصبي؟ أم أنتَ؟ لا خبز لكم. موتوا جوعاً. أو مهلاً. هل تريدون الخبز؟ دعوني أفكّر قليلاً. لربما أثرتم شفقتي. لكني عثماني لا أملك قلباً يشفق. ولا ذرّة رحمة. أملكُ يداً لئيمة. ورغيفاً أقتلكم به. شمّوا رائحته. ها إني أقرّبه من أنوفكم. لأقتلكم بجوعكم. وبحاجتهم الى لقمة. لن أمنحكم شيئاً. ابقوا مهانين مذلولين تتضوّرون. إن أطعمتكم القليل انقضضتم عليّ. غلبتموني. انتصرتم على ظلمي. سأبقيكم من دون طعام. لتتوسّلوني أن أنقذ حيواتكم. لتقرّوا بقوّتي. وبأنني أنا السُلطة. والدولة العظيمة. أستقوي عليكم أيها العزّل. جوعوا. موتوا جوعاً.



(عن موقع الإبادة الأرمنية على الانترنت).


 


دعوني هنا


"ألى أين تأخذونني؟ مكاني هنا. هنا ابنتي وزوجي وأمي وكلّ أقربائي. أريد أن أبقى هنا. أريد أن أموت هنا. لا تفرّقوا بيني وبين ابنتي. دعوني هنا". هكذا كانت تتضرّع جدة بالغة من العمر 79 عاماً. صعدت الى الحافلة وهي فاقدة الوعي تقريباً واستمرت في البكاء وهي تمدّ ذراعيها من النافذة وتهزّ رأسها محدقة نحو الخارج. انطلقت الحافلة مسرعة وأنظار الجدة ظلّت مشدودة الى الوراء". أما هذه الأم فخانها النظر. وحدها اليد تعي وظيفتها. تمسك بصغيرها مخافة موته. اليد الأخرى مفتوحة على الخواء. لا عابر سبيل يكون الخلاص ولا أثر لمُحسن. أنا وأنتَ يا صغيري، والوقت الباقي. بجسدينا الآيلين الى الفناء. بثمن أننا أرمن. أحضنيني يا أمي باليدين معاً. عبثاً تتسوّلين الرحمة. لو امتلكوها لَما كنا على الأرض حطاماً من دون ثياب.



 


كيف يمكن إنكار الإبادة وهذا الولد "وليمة" للذباب؟


تختزل الصورة وحشية الإبادة، بالعيون الشاخصة والأفق البعيد. تتساءل أروسياك مارسوبيان (1892- 1996): "كيف يمكن أن تغفر لعدوك يومياً 77× 7 مرة؟ لن أغفر للتركي طوال حياتي. أنا شاهدة على الجرائم التي ارتكبها أعوام 1897 و1908 و1915 و1921. حتى لو قيل لي إنّ شرط الدخول الى الجنة هو الغفران للتركي، لفضّلت جهنم". وعظام الأطفال لن تغفر. تُركَت في مهبّ الانتهاك. تُركَت للذباب. لهواء يحمل أنفاس الجثث. كيف يمكن إنكار الإبادة والزعم بأنها إحدى حكايات "كان يا ما كان"؟ كيف السبيل الى القول بأنّ كلّ شيء حصل وانتهى؟ أو أنّ الأرمن اختاروا الموت؟ هذا الصغير لم يُسأل أيّ النهايات يفضّل؟ وجد نفسه ميتاً. كان يعلم أنه ذاهب الى الموت، ثم أسرع مجبراً. يقول أشخين بيرينيان (1910- 1998): "ويلي، يا للمساكين، يعرفون أنهم ماضون الى الموت، لكنهم مرغمون على الإسراع. يا الله، هذا الأمر فظيع".



 


في انتظار النجاة من الحقد
دفعات دفعات نحو النهاية. ينتظرون بالصفّ. يدركون معنى المصير المشترك، وجروح الجماعة الدفينة. يأملون نجاةً ممكنة. أنّى النجاة؟ وقفوا صفوفاً لعلّهم يعثرون على رمق. وعلى ما قد يمدّد الوقت الإضافي. صفوفٌ في انتظار الخلاص من الحقد. ومن البطش والتجنّي. تروي دزاغيك كويومجيان (1914- 2005): "كان والدي يملك أراضي وبساتين. حين ولدت أختي، أخذ الأتراك والدي قسراً الى الخدمة العسكرية في الجيش. وشأن جميع شبان القرية، لم يعد والدي أيضاً. عثروا في الأثناء عينها على جد والدي مذبوحاً، وهو الكاهن آدور (115 عاماً)، وهو الذي عمّدني. (...) لقد عذبوا هذا المسكين أياماً طويلة فبتروا أطرافه واحداً تلو الآخر، ثم وضعوا ركوة القهوة على صدره ليحرقوا الشَعر. وعندما طلب قطرة ماء، سقوه من بولهم، وواصلوا ذبحه حتى صرخ من شدة العذاب: اقطعوا رأسي لأخلُص". رافقت كراهية الأتراك الأرمنَ الى القبر. وكلّ أرضٍ يحطّون فيها.



لا يحرسون الجماجم، بل الذاكرة


سَربٌ من الجماجم في المكان. يرسّخون الى الأبد هويته. يملأونه تاريخاً. يضفون على الحاضر لوعة الأمس. الناجون من الإبادة وجهاً لوجه أمام الجماجم الكثيفة. ماذا تراهم يفعلون؟ لعلّهم يستعيدون ملامح أصحابها. الأرمن هنا يحرسون الذاكرة. يخشون عليها من تجربة الفَقْد. يعيشون تحدّي عدم تشوّش الصورة. يحافظون عليها فائقة القسوة. ليس رغبة في عقاب النفس، بل للعِبرة. كل أرمني خزّان صور. جماجم أجداده في رأسه. حشرجاتهم في العروق. أنّاتهم في الصور. يتذكر أرام تاشجيان (1901- 2001): "فيما كنتُ ألعبُ قرب القمامة، رأيتُ جنديين يسيران وهما يضربان خمسة شبان أرمن بالسياط وقد قُيِّدت أقدامهم بالسلاسل. سقط أحدهم على الأرض ولم يستطع الوقوف، فهدده التركي بالقتل فوراً إن لن يتابع السير. وعندما رآني آخر قال: "لا يصحّ فعل هذا أمام الأطفال". هربتُ ورأيتُ من بعيد كيف يسير المكبلون الأربعة وهم يجرّون رفيقهم الذي سقط". قتل التركي العثماني مليوناً ونصف مليون أرمني. هَجَّر ويَتَّم وقَهَر. أما الروح الأرمنية فقامت من بين الأموات وبقيت على قيد الحياة.



* الشهادات والصور مأخوذة من كتاب "شهادات ناجين" عن دار نشر هاماسكائين.


[email protected]


Twitter: @abdallah_fatima


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم