الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

سينما - رين متري تنبش الذاكرة المنكوبة: أمراء الحرب هم حكّامنا اليوم

سينما - رين متري تنبش الذاكرة المنكوبة: أمراء الحرب هم حكّامنا اليوم
سينما - رين متري تنبش الذاكرة المنكوبة: أمراء الحرب هم حكّامنا اليوم
A+ A-

تتصدى المخرجة اللبنانية رين متري للمخاوف المناطقية والديموغرافية التي تهيمن على باطن المجتمع اللبناني، في جديدها الوثائقي "لي قبور في هذه الأرض"، الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي، ينتظر الآن قرار الأمن العام كي تُفتتح عروضه التجارية في صالات لبنان. أربعة عقود من الخراب والتشرذم والضياع والانسلاخ والتصدع تطفو على السطح بواسطة خطاب يشير الى الخوف باعتباره العنصر المشترك بين سائر الأطراف اللبنانيين المتصارعين.


عند متري الكثير لتقوله عن التاريخ والذاكرة والتهجير الطائفي والعفو العام الذي رسم ملامح سلام هش في زمن الاستقرار المزعوم. تبدو هذه المخرجة في فيلمها كمَن تحقّق في جريمة كي تصل في النهاية الى استنتاج مفاده أن الجريمة وقعت ولكن ليس ثمة مرتكب أو مسؤول، على رغم أن الضحايا هم من الأطراف كافة. فيلم قد يشكل أرضاً خصبة (على رغم تضمنه الكثير من الهموم ما يمنعه من التنقيب في العمق)، لفهم عواقب صفحة لم تُطوَ بعد.


 لماذا تعيدين نبش صفحاتٍ قديمة من تاريخ لبنان، فيما البعض يفضّل إرسالها كلياً الى النسيان؟
- بالنسبة إليّ والى كثير من اللبنانيين، الصفحة لم تُطوَ والحرب لم تنتهِ. الجميع يشعر بأنّه الضحية. لم نصل الى محاسبة الجاني ولا سوقه الى المحاكمة. لا أعيد نبش ذاكرة الحرب بغية التورّط في "إثارة النعرات الطائفية". أفعل ذلك لأننا لا نزال نعيش تبعات الحرب والتقسيم الذي فرضته. أتكلّم على الفرز الديموغرافي الذي نعيشه يومياً. لا ننفكّ نشعر بالغربة في هذا البلد المشرذم. لا أريد العيش في منطقة مسيحية أو سنّية أو شيعية. طالما سُئلت إن كان عيشي في الضاحية ممكناً. لا أدري. حتى إني لا أعلم إن كانت الضاحية نفسها تتقبّل أن أعيش فيها.


​¶ في الفيلم، تقاربين الحرب والتهجير والديموغرافيا والسياسة... هل قررتِ مسبقاً الموضوعات أم أن الفيلم خضع لمراحل اكتشاف قبل تبلور صيغته النهائية؟
​- مرّ الفيلم طوال خمس سنوات تقريباً بتحوّلات عدّة هي أيضاً التحوّلات التي مررتُ بها. أبلغتُ المنتج الفرنسي في السنة الأولى من انجازه، رفضي الزجّ بذاتي في السياق. لم أُرِد فيلماً عن عائلتي وأقربائي في القرية. بدا من السهل أن أزور قريتي وألتقط صور أقاربي وأوثّق أحاديثهم الطائفية. أردتُ الهرب من هذه الدائرة. أمكن أخذ قريتي عين المير نموذجاً لطرح إشكالية بيع الأراضي واختزال تنامي المخاوف الديموغرافية فيها. تبيّن أنّه لا يمكن عزل الذات نهائياً فيما الوجع يلحّ لمواجهته. حين قررت أمي عرض المنزل للبيع (ولم تبعه كما قد يظنّ المتفرج)، تراءى الأمر مثل انفجار فتّح أبوابي الداخلية. لستُ ممّن يتحلّون بذاكرة قوية. أدخلتُ الى الفيلم كلّ اللمحات التي أذكر من زمن الحرب: الرجل الذي جُرَّ على الزفت ثم رُمي عن جسر المعاملتين مثلاً. في جونية لم أعش الحرب، لكنني لم أنفكّ أتساءل: ماذا أعرفُ عن الفلسطيني؟ متى علمتُ عن صبرا وشاتيلا؟ صببتُ تساؤلاتي كما هي. لم أدرس السينما ولم أتعلّم الانطلاق من نقطة.


​¶ متى وجدتِ نفسكِ بعيدة من محيطكِ الطائفي؟
​- منذ سنّ مبكرة. لا أذكر في طفولتي إني عشتُ رهاب الفلسطيني أو المسلم. الخطاب الطائفي مستحدث، والمخاوف كذلك. والدي في عين المير كان يؤجّر الأرض لمسلمين من صيدا. ووالدتي من قرية مختلطة مسيحية - شيعية. أقدّم فيلماً عن خوف الطوائف بعضها من بعض، من غير أن أكون قد تربّيت على هذه المخاوف أو تنشأتُ على ردّ الفعل عليها. وقد ساعدني أيضاً عدم تموضعي دينياً أو "قبضي" الدين بجدّية.


​¶ هل وجدتِ صعوبة في جَرّ الناس الى تذكّر تلك المرحلة والحديث عنها؟
​- في عين المير، لم يشأ أحدٌ الكلام. طفتُ بالكاميرا وحيدةً. أتحدّث عن ثلاث سنوات خلت. لم أصادف إلا شخصاً واحداً لم يمانع في التحدث قبالة الكاميرا. صوّرته سريعاً مخافة أن يتراجع. في مرحلة البحث ما بين 2010 و2011، حمل الجميع تقريباً الهواجس عينها: "شو بدّي بهالشغلة"، قالوا، ولا سيما مسيحيو الجبل...


​¶ هل لا يزال الخوف حتى اليوم حاضراً؟
- نعم، خصوصاً عند مسيحيي الجبل. المسيحي ابن بحمدون الذي وافق على الإدلاء بشهادته، فعل ذلك لعلمه أنّه لن يعود الى هناك ولم يبقَ له منزل. على رغم ذلك، تحدّث على مضض...


 لنعد الى الخوف من البوح المرتبط باللبناني الذي عاش الحرب. كيف تفسّرين ذلك؟ لماذا الرفض حيال الماضي، كأنّ ما نعيشه اليوم ليس امتداداً لما نخشى الحديث عنه؟
​ - يتراءى اللبناني راضخاً للقمع الذي تكرّسه السلطة. يحكمه اليوم مَن كانوا في الأمس أمراء حرب. تلازم قانون العفو مع سلطة رقابية تحذّر من نبش الماضي، فتآلف الناس مع الصمت. لم تُتَح لهم فرص المحاسبة. إنّها ثقافة الخوف حين تتوغّل في الفرد. السوريون أمضوا سنوات يتخبّطون خوفاً، فيما راح اللبنانيون يعايشونه منذ الطائف. حتى الحرب لم تجعلنا خائفين الى هذا الحدّ. أتاحت إمكان إطلاق الشتائم في كلّ اتجاه. في ما بعد، تشرّب الناس أن الكلام لا جدوى منه. ما الفائدة من اتهام جارٍ لجاره أنّه السبب وراء مقتل أبيه؟ قد يعيد حساباته ويرى أنّ فتح الدفاتر القديمة يهدده بالسوء، فيسكت.


​¶ تؤيدين المحاكمة وإعادة فتح الملفات؟
​- طبعاً! كان أسعد شفتري على الأرجح الوحيد الذي قدّم اعتذاراً رسمياً. سألني أحدهم ذات مرّة لماذا لم يُدلِ بمعلومات عن المقابر الجماعية وأماكن خطف المفقودين. لماذا تهرَّب؟ هو إن فعل، لكان سلَّم حياته للخطر ولاحتمال تعرّضه للتصفية. على الدولة تأمين سلامتنا لكنها متورّطة. رفعت زوجة أحد المخطوفين في صيدا العام 1982 دعوى ضدّ "القوات اللبنانية"، فماذا جرى؟ الدعوى تراوح مكانها، ومراراً أوقِفَت.


¶  هل راودكِ شعورٌ، خلال مرحلة إنجاز الفيلم، بأنّ ثمة شيئاً لا يمكن ذكره؟ وبأن أموراً قد تشكّل عليكِ خطراً، أو حقائق قد تضرّ بـ"المصلحة العامة" مثلاً؟
- لا! لكني ترددتُ كثيراً أمام بعض الجُمل. تمهّلتُ أمام ذكر جرّافات الحزب التقدمي الاشتراكي التابعة لشركة "سعودي أوجيه"، ودورها في هدم المنازل في شرق صيدا. يخيفني هذا كله. لا أمارس على نفسي رقابة ذاتية، لكنني أشعر بالمسؤولية حيال الشهادات التي أسمع والتجارب التي أصوّر. لستُ أنا مصدر كلّ المعلومات لأقْدِم على ذكرها من غير تردّد. ما أثق به، أورده كما هو. لم أُخفِ مثلاً حقيقة أنّ حركة "أمل" حاصرت المخيمات الفلسطينية...


¶ من أين أتيتِ بمعلوماتك؟
​- استقيتُ جزءاً من الكتب، وجزءاً آخر من شهادات الناس. لم يجرؤ كثيرون على الحديث عن وضع "حزب الله" يده على أراضٍ في الجنوب مثلاً. هم سكّان المنطقة ويخافون دفع الثمن. تبنّيتُ الموضوع وتحمّلتُ المسؤولية. لم آتِ على ذكر الأطراف كافة انطلاقاً من مبدأ "6 و 6 مكرر"، ولا إكراماً لأيّ توازنات طائفية. لم أجد مفراً من جعل الجميع معنياً. فرضت السردية ارتباط الحوادث بعضها ببعض. في كلّ مكان، ثمة الجاني والضحية.


¶  هل ترك الفيلم عندك شيئاً من الارتياح وخفَّف القلق؟
- كل ما هنالك أنه "فشّة خلق"، لم تحد من الخوف والقلق. شعرتُ كأنّ غمامة أُزيلت عن صدري، من غير أن يزول عني الشعور باللاطمأنينة. بكيتُ بينما كنت أقرأ رواية "بيروت مدينة العالم" لربيع جابر حول مجازر 1860. يعنيني هوس هذا الرجل بالتاريخ. مؤلم أن نستعيد كلّ ما حدث. لم يُكتب تاريخ الحرب الأهلية. الشخص الوحيد الذي أرّخ لمجازر 1860 وما عشناه من حرب، هو ربيع جابر.


هل تتوقعين أن تواجهكِ مشكلات ما، حين يُعرَض الفيلم في لبنان؟
-  أنتظرُ موافقة الأمن العام، وسنرى ما قد يحدث حينذاك.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم