الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عن حرب ترافق المقاتلين في الغربة..."فقدتُ ذراعي وأتمسكُ بحذائي للعودة"

المصدر: "النهار"
زينة حريز
عن حرب ترافق المقاتلين في الغربة..."فقدتُ ذراعي وأتمسكُ بحذائي للعودة"
عن حرب ترافق المقاتلين في الغربة..."فقدتُ ذراعي وأتمسكُ بحذائي للعودة"
A+ A-

حرب. ذاكرة، فيها مزيج صورٍ تائهة بين أحاسيس غدرٍ، وجعٍ منسيّ، مطموم، وآمالٍ قديمة جديدة، تروي قصة "لبنان". وطن الجميع، للجميع؟


لم أحبذ يوماً الغوص في واقعٍ لم أعشه، فقد وُلدت في منتصف الثمانينات، بين حربيّ "الجبل" و"الإلغاء". حربان من حروبٍ قتلت العشرات، وشردت المئات، وأبعدت لبنانيين عنا. عن بيوتهم، مساحات جلول بلداتهم وعُطر نيسانها. شهرٌ أشعلت فيه رواية "البوسطة" ما كان جميلاً، حياً في نسيم نفوس أغلب اللبنانيين الذين تشاركوا العيش على أرضٍ واحدة، أزلية، شهدت أفراحهم وأحزانهم، جروحهم ومخاوفهم، آمالهم ومستقبلهم.


من المؤسف المرعب، أن تقترن فكرة حديثنا عن المستقبل، اليوم كما في الامس، بالسفر، بالهروب، موقتاً كان أم نهائيًّا. هذا كان ولا يزال حال آلاف اللبنانيين، بين حاملي الجنسية، أو حاملي الدم، لذلك "النبض" الذي يمتد من"ساحة النور" الطرابلسية، الى أرز بشري والباروك، وتلال المتن وأوديته، نزولاً الى البقاع، الى غلال "بوابة فاطمة".


من هنا، ننظر الى هؤلاء الذين حملوا يوماً جواز سفرهم وعبروا جسر مآسي الحرب التي أصابتهم في الصميم يوم خسروا الولد، الام أو الحبيب، الذراع أو الساق، البيت أو "القضية". وجع من هاجر قد يزيد عبر السنين، وقد يزول تدريجاً، ولكن لا بدّ للذاكرة أن تصحو، ولو لوهلة، لتسائلنا عن تلك اللحظة التي وقع فيها الانفجار، أو غرز السكين، أو حرق المنزل والصور. تستفزّنا ذاكرتنا، موقظةً فينا شبح الماضي، عابرةً حدود الخليج والمحيط.



من "المتراس" الى الدير...


يغمضُ جو عينيه، يحاول أن يهرب في كل مرةٍ يلتقي فيها شقيق صديقه "الشهيد" الذي خسر حياته من أجله في أحد مباني منطقة عين الرمانة، أيام "حرب الإلغاء" في العام 1990. يروي لنا جو تفاصيل تلك المعركة، كما لو كانت على امتداد وجعٍ أعنف من سنوات الحرب التي سبقتها. فهي معركة غاب المنطق فيها وسيطر عليها حب البقاء. يقول جو: "كان بدي قوّس تضلّ طيب". هو من حارب يومها لسنينٍ عدة الى جانب حزب "القوات اللبنانية" في منطقة عين الرمانة - الشياح. يضيف: "المتراس ضل قدام البيت 10 سنين (...) كنا 16 شاباً في العائلة، كلنا جنّدنا أنفسنا دفاعاً عن وجودنا". اختفى شربل، ابن عم جو، على أثر تلك الحرب، لتجده عائلته بعد حين في أحد الاديرة في منطقة برمانا. "السفر لم يكن يفيده ولا حتى الموت... الرب وحده كان ملجأ شربل للهروب من بشاعة تلك الحرب". السبب الاساسي للغوص الى أعماق تلك الحرب كان بالنسبة الى جو "صرخات أمهاتنا... وخوف اطفالنا من الغير".


من الغير؟ سألناه، فأجاب أنّ الفلسطيني يومها كان العدو... "كان بدّن يكبّونا بالبحر لو ما صمدنا". من أنتم؟ "نحن من أسّسنا القوات اللبنانية، ولولا ذلك المتراس لما بقينا". فالمعركة كانت ولا تزال المعركة بالنسبة الى جو، معركة وجودٍ وصمودٍ للحفاط على "حلم بشير"، الـ10452.


حمل جو السلاح للمرة الاولى في بيت الكتائب، في منطقة الصيفي في بيروت، يوم كان يرافق والديه لحضور الاجتماعات، فكان يجالس بعض المحاربين الذين سلّموه "البرودة" بداعي المزاح والضحك. يومها لم يدرك جو ما في يده... كانت لعبة بالنسبة إليه، لم يتخيل يوماً أن تلك "اللعبة" ستحميه، كما يقول. احترف المحارب السابق فن القتال تدريجاً، ومن ثم تمركز على العديد من مراكزالمدفعية. "لم أشف غليلي... أردت المزيد، فخضعت لنحو 24 دورة حربية، ودخلت مع المشاة، لتصبح هذه مهمتي في الحياة من سنة الـ77 الى الـ90".


الحرب بالنسبة الى جو، كانت تعني "الفوضى"... علاقة المحارب بسلاحه كان يحيطها هلال "مريم العذراء"... فهو الذي طبع "بالحبر والدم" اسم "مار الياس" على ظهره، وضع أيضاً صورة مريم على برودته، تماماً كالعديد من الصور والاسماء السماوية الاخرى التي رفعت على مدافع الحرب اللبنانبة، كدليل حماية و"عون سماوي"، كما يصف.


في نظرته الى الوراء، يروي جو أنه عاصر 5 قادة "قوات"، موضحاً أنه لم يندم يوماً على كل ما خاضه من أجل "البقاء تحت سقف الدولة والجيش حالياً". يفتخر جو اليوم باعتذار سمير جعجع، وينسبه لنفسه، كدليل تسامحٍ مع الذات والآخر، ويقول: "هو اعتذر عنّا جميعاً (...) واللحظة التي تغير قيادة القوات مسارها سيكون الندم".


فقد ذراعه... وعاد الى أرض المعركة


ب. ع.، وهو محاربٌ سابق من بلدة بيصور اللبنانية، حملته الحرب من الـ75 الى الـ89 الى خارج حدود الوطن، تاركاً على أرضه جزءًا منه. يعيش اليوم في ولاية "ميشيغن" الاميركية، بعدما ما جاء قرار والده بسفره للعمل هروباً من مآسي الواقع في منطقة عاليه – الشحار. هو الذي كان منغمساً في تلك الحرب، لم تمنعه مشاركته "الوجودية" فيها، كما يصفها، من متابعة دراسته الجامعية وحركته الطالبية التي كان يقودها حينذلك.


"كنت في كامل وعيي في تلك الليلة، حين استشهد يومها إلى جانبي صديقيّ، وكانا وحيدين عند ذويهما (...) أردت أن أمد يدي اليمين التي كانت معلقة بالرشاش، لأغمض عيني أحدهما، فلم أشعر بها، فكانت معلقة بشكلٍ بسيط، وفي لحظتها أدركت أنني فقدتُ ذراعي... فزحفت نحوه وأغمضت عينيه بالذراع الأخرى".


حتى لو كان قرار ب.ع يومها العودة الى ساحة المعركة، بعد تعافيه، ولو بيدٍ واحدة، فذلك لم يمنع والده من الاستنجاد بابنه الثاني الذي كان سافر الى الولايات المتحدة منذ بضع سنين، للضغط على شقيقه للالتحاق به وإنقاذه. "فقدَ شقيقك ذراعه، لا أريدُ أن أفقده كله". هذه كانت نصيحة الاب يومها.


يوضح ب. ع. أن السبب الاساس لذلك الاندفاع كان "دفاعاً عن الارض والعرض". فبالنسبة اليه، كما للعديد من الدروز، فإنهم يجتمعون دوماً عند قرار كهذا، ويجتمعون حوله، "مدنيين ومشايخ في وجه العدو... مهما تعدّدت أوجهه من الـ82 الى يومنا هذا". وفي سؤالنا عن الندم، يوضح ب. ع. أنه لا يزال متمسّكاً بعروبته ولبنانيّته، وأنه لا يستطيع تخطيهما، ولذلك لم ولن يندم، سوى لفكرة بعده الاضطراري عن أهله، ولبنان في ما بعد.


البعض لا يريد أن يتذكر، والبعض يتذكر ليمضي لمستقبلٍ أجمل. آمال اللبنانيين، العالقين في الخارج، أم على أرضنا متقاربة. نحن جميعاً نريد عبور تلك الذاكرة حاملين درساً وقضية واحدة، هي قضية وجود هذا الوطن واستمراره.


لا يربط المهاجر اللبناني بوطنه سوى حقيبة يده والحذاء الذي انتعله يوم  الرحيل. وبين تلك الحقيبة وذلك الحذاء حكاية مسارٍ، ذكريات وحنين الى العودة والحفاظ على ما بقي من لبناننا. وبهذا الحذاء سيعودون، وإن لم يعودوا، سيعود أبناؤهم، وما أجمل العودة ولو بعد سنين. فالكيان "لبنانيّ"، ولن يلغى.


Twitter: @zeinah5


[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم