الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

فصل من رواية - سمراء وشعرها كاريه

نزار عبد الستار
فصل من رواية - سمراء وشعرها كاريه
فصل من رواية - سمراء وشعرها كاريه
A+ A-

رفضت سما أن تتزوجني. قالت، وقطعة البيتزا، المحمولة على أصابعها، قريبة من فمها، إنها لا تريد خسارة انطباعاتي الإيجابية عنها. هذه هي المرة الوحيدة التي تردّ باحترام. كنتُ مسترخياً، وكأنني طلبتُ منها المملحة، وليس يدها. منذ العاشرة صباحاً، ونحن نشعر بركود الرغبات. رأينا، أثناء عبورنا جسر السنك، الغبار العالي يمحو السماء، ويعكس على الأبنية كآبة هامدة، فتوقعنا أن يكون يوم الجمعة باهتاً مثل الخميس. أي إن الأمر ليس له علاقة بالمطعم كما قالت. سألتني وهي تنظر بملل إلى مثلّث البيتزا الأخير في صحنها إن كان يوحي إليَّ بشبه ما. عندما لا نكون قد بدأنا جولة الجمعة في الكرادة، فنحن بالتأكيد نختزن توتراً متهوراً. قلت إنه يشبه رأس رمح، وهذه الصلصة تعني أنه انتزع تواً من كبد حار. وسّعت عينيها مستغربة، واتهمتني بأنني سفّاح دموي، وإرهابي سافل، وداعشي متخلف. كانت الأصوات الآتية من المساجد متشابكة، وغير مفهومة، بينما حوض أسماك الزينة الذي خلفي يطلق صفيراً فقاعياً يشبه قرقرة الأرجيلة. لانت حركاتها وكأنها تفكر في طلب الزواج، فرجوتها أن تقص شيئاً من رموشها الاصطناعية لأنها طويلة جدا، وتؤثر في افتتاني بأنفها.
جمدت قليلا، ثم ردت:
- لنفترض أنك باذنجانة. ماشي؟ ولنفترض أن الكوزماتك هو صاروخ هيل فاير، فهل هناك علاقة بين الاثنين؟
- لا توجد أي علاقة.
- برافو.
رجعت وقالت إن الدليل على بربريتي هو طلبي الزواج منها في مطعم بيتزا حقير ليس فيه تواليت. قلت إنني طلبتُ هذا في عيد الحب الماضي، وفي فندق بغداد، وعندما كنا على يخت في نهر دجلة، وحين كنت، قبل أسبوعين، أمصّ حلمتها اليسرى في جزيرة الجادرية، وإنها في كل مرة كانت تقول لي إنني قذر ككل الرجال.
شدّت نفسها، ولم تهبط رموشها الاصطناعية:
- معقولة...؟ أنا شبّهتك بالرجال القذرين؟
أكدتُ لها:
- هذا هو ردّك في كل مرة.
مدّت ذراعها اليمنى، وقالت وهي تنظر إلى مثلّث البيتزا:
- ربما كنت أنزف وقتها بسبب تكيس المبيضين.
قلت بثقة:
- كنتِ سليمة... لا تكيس مبيضين، ولا دورة شهرية.
ردّت بارتباك:
- أحيانا أزعم أنني لا أنزف كي تبقى محتفظاً بهمجيتك الذكورية.
- هذا غير صحيح، فأنا أعرف حالتك من أنفك. حين تنزفين يكون بلون ماء الحمّص المسلوق.
أعصابنا تبقى مشدودة إلى أن تنتهي صلاة الجمعة، وتفتح الشرطة الطرق. وقتها نكون قد أكلنا البيتزا في مطعم الباشا الذي بلا تلفزيون، ولا أغاني، وبدأنا مشوارنا في الكرادة انطلاقاً من تمثال كهرمانة. نفعل هذا في كل أسبوع حتى لو كانت سما تنزف، وأنا أعاني التهاب الجيوب الأنفية. المتاجر مرتبة على الجهة اليسرى من الشارع بشكل يخفف من إحباطنا، ويكبح نشاط غدد الكره فينا، فهي تبدأ بالألبسة الرجالية لمسافة قصيرة، قبل أن تختلط، وتظهر النساء بكثافة على الرصيف. نحن لا نشتري شيئاً، فقط نتلمس الأقمشة ونربط، في خيالنا، بين الألوان، ونتأمل الأحذية الغالية، ونستعرض ربطات العنق، ونأخذ وقتاً في التطلع إلى الساعات في علبها الفخمة. سما تسمّي هذه الممارسة غسل القلب، وأنا أراها مفيدة لبشرة وجهي الدهنية. في هذه المتاجر لا توجد تلفزيونات مفتوحة على قنوات إخبارية. الكل يتكلم بهدوء، من دون أي تلميحات إلى مشكلة خارجية، كما أن الوجوه تبدو مألوفة، ومنتمية لبغداد.
أنا لي كاريزما. هكذا تراني سما في كل يوم جمعة. قالتها بينما نحن نتفرج ببرود على القمصان في متجر أحمد زويد. ربما لأنها متعجرفة بمسألة ما يفترض أن يكون لائقاً بها، فهي سمراء وشعرها كاريه. طويلة ومتناسقة، وحجم ثدييها يتوافق مع كتلتها، وقياس رقبتها. تحب الطعام السريع، ومنتبهة إلى ما يستوجب بلعه من ألياف لصون أنابيبها المعوية. تستغل ارتباكاتها التناسلية الدائمة لنيل وجبات تعزز الهيموغلوبين المسلوب. ليست هشة، ونادراً ما تطلب المساعدة. أنا منبهر بها، وهي سعيدة بوجودي، وتودّ التخلص من حشائش المخاوف التي تطرأ أحيانا على براري روحها.
القسم الرجّالي من الشارع هو جوّها المنعش، وهي فرصتي للانتشاء بمجموعة العبارات البريئة التي تطلقها في غفلة عقلها. سمعها البائع، الذي يتعقبنا، تقول إن خالها اشترى بدلات إيطالية تحفة من متجر حمندي. أنا لطيف في يوم الجمعة، وأحرص على أن تكون ملابسي غير مألوفة لها، وأبدو محتفياً بالوقت الذي نمضيه معاً، ولا أشبه ذلك الموظف الزميل الذي تراه يومياً في دائرة النشاطات التابعة لوزارة الثقافة، لكن هذا كله لن يكون مجدياً، إذا ما أدركنا مبكرا أن يوم الجمعة لن يقل خمولاً عن يوم الخميس.
شعرتُ بالملل، ونحن نتفرج على واجهة متجر متخصص بالقياسات الرجالية الكبيرة. أخبرتها أن الجميع باتوا يعرفون وجوهنا، ويدركون أننا لا ننوي شراء ولو زوج جوارب، ما يجعلهم يراقبوننا أكثر ويتطفلون علينا، هكذا لن أستطيع استغلال متاريس الألبسة والهبوط بكفّي على تفاحة مؤخرتها، كما أنها لن تتمكن من قرص عضوي حين يأتي عصير الموز ببالها. في الحقيقة هي لا تحترم أيّ ملاحظة أبديها، وأنا أجد أن هذا هو الحق. على المرء ألاّ يخجل من بلادته الفطرية.
قالت:
- يا همجي، هم يعانون عقدة أننا لا نجد عندهم ما يغرينا، وسيدركون أن أملهم بنا ضاع. تكبُّرنا يُشعرهم بضحالة ذوقهم، وتخلّف بضاعتهم. وحين نغادر من دون أن نلتفت، فنحن بذلك نسحق غرورهم، ونجبرهم على استعمال حضارة التنافس.
قبل أربع سنوات لم نكن نملك مثل هذه النظريات، ولكننا كنا ندرك أننا نتشابه. في يوم الجمعة أبتكر الفواصل التمثيلية لأن التسوق يحتاج إلى مناقشات. تقول لي إفعل شيئاً، لا تتركني كبلهاء تجرّ كلباً. كانت تكره أن أحكي عن تاريخ التي شيرت، أو أن اقرأ العلامات، وأبحث عن نسبة القطن والبوليستر. تقول لي إنها لا تحترم ثقافة الانترنت، ولا تريدني أن أشبه الهرّ الانتهازي. تسلبني شخصيتي بعد أن تمدح كاريزمتي. في يوم الجمعة أتلقى منها كمّاً عصبياً من الاهانات، وتندهش إذا ما خفّ مرحي. كان وجودنا قد طال في متجر أحذية نسائية، فتعمدت أن يكون صوتي مسموعاً:
- وصلني البارحة العدد الأخير من مجلة VOGUE
التفتت وكأنها تؤدي تمريناً سويديا:
- Very nice.
قلت بخيبة:
- تصوري غلاف العدد لميشيل أوباما وهي تحتضن زوجها.
- يا ربي... لقد ظهرت كفتاة غلاف في العام 2009. too muchs'That
حين تتجنب الأماكن الضيقة والصغيرة، أفهم أنها تريد منحي تجربة واقعية. لا تفعل ذلك بتلقائية رومنطيقية، وإنما تقول: سأرضيك أيها الهرّ الخبيث. هذه الجمل التي تستخدمها سما فجأةً، لا مثيل لها إلا في حوارات أفلام الكارتون. في العادة نكون قد تعبنا، ولأن أغلب متاجر الكرادة مساحاتها ضيقة، لذلك تأخذني إلى المجمّعات التي من طبقتين حيث في الأعلى توجد متاجر منزوية متخصصة بقمصان النوم، وتديرها فتيات ببشرة مسيحية فاتحة. في الصيف أحبّ ملمس ذراعيها، وفي الشتاء أغرم بانقباضات ملابسها الجلدية. لا تبالغ في معطرات الجسم. رائحتها مكتومة وإفرازاتها صافية.
نبّهتني:
- لا أريدك أن تتصرف مع الأندر وير كعضو ذكري منتصب.
في الحقيقة لا يحدث هذا معي لأن أنفاسي تسخن من تخيل أنها في يوم ما كانت تمتلك ولاء الحب لرجل طلّقها. هي أيضا تعاند ذكرياتها يوم كانت متزوجة لذلك لا تحب اللونين الأحمر والأبيض، وتختار لي الألوان اللحمية، أو الموديلات التي تليق بنساء تلقّين تربية محتشمة. تظن أنني سأسعد بتجربة البحث عن قميص نوم، وأن عضوي سيفرز دمعة، أو دمعتين في تهيّج واقعي، إلا أن الأمر غير ذلك تماماً، فسما تبدو متكلفة، كأنها تؤدي صلاة سادسة، أما أنا فأبدو كميكانيكي سيارات لا يجيد القيادة.
البائعة الفاتحة اللون أدركت أننا لم نأت لإنعاش علاقتنا، وإنما لممارسة الفضول. حين أصل مقرّ عملي مبكرا وأرى الممرات ندية، وجلود المقاعد لامعة، وهواء المكاتب قد تجدد، أطلق بمرح تحية: صباح الخير. أشعر بالنشاط حتى لو كنت أعاني صداعاً مخموراً. سما تشبه عبارة صباح الخير. إنها طازجة دائماً، وحين نخرج معاً إلى الشارع بعد انتهاء الدوام أشعر أنني أحلّق في فقاعة صابونية. عندما تكون حركاتنا مع النساء خفيفة، وعفوية فهذا معناه أننا وصلنا إلى الحب الناضج. قبل أن نصعد إلى الطابق الثاني من المجمّع أصيبت سما بالتيه. توقفت في الفسحة الوسطية قليلاً قبل أن تكمل على السلّم اليسار. تنفست بعمق كي تشعرني أنها منهكة، لكن الأمر ليس كذلك. لقد كانت تتذكر. البائعة الفاتحة اللون نشرت أمامنا موديلات خالية من الإثارة، وحين همست سما بأذني أنها تشمّ مني رائحة المني. ابتعدت البائعة الفاتحة اللون. قلت أنا أيضا بأذنها إن عليها إعادة النظر في طلب الزواج لأن عمرها بات لا يسمح إلا بإنجاب طفل واحد، وعليها أخذ هذا في الاعتبار. شتمت أمي، وقالت إن ما أملك من منيّ لا يساعد على إنبات حبة قمح على شاش في قدح، فقلت لها إنني أنوي بناء مركبة فضائية صغيرة اسطوانية تشبه علبة شيبس برينغليز نذهب بها إلى القمر كي نتناول الفطور هناك يوم الجمعة، وسأزود المركبة رشاشات ليزرية كي نتسلى بتفتيت النيازك ونحن في الطريق.
همست مُداريةً إعجابها:
- عنيف مثل أجدادك قطاع الطرق. نوازعك بعيرية يا صحراوي يا جلف.
قلت في أذنها:
- إذا لم نضرب النيازك برشاشاتنا، فستصيب مركبتنا.
- أنت قلت نتسلى، ولم تقل ندافع، وهذا اعتداء على طبيعة الفضاء.
أجبتها بتوتر:
- حسنا لن أزوّد المركبة الرشاشات، ولكن لا تلوميني إذا ما اصطدمنا بنيزك حقير، وتفتتنا، ومتنا في الفضاء.
ردّت بكبرياء:
- أنا مع أن تكون لدينا رشاشات ليزرية في المركبة، ولكن هذا لا يعني أن نحارب كل النيازك.
رفعتُ صوتي، وأظن أن البائعة الفاتحة اللون سمعتني:
- النيازك أحجار... أحجار يا سما.
- هناك من يرانا حشرات وصراصير، ويريد إبادتنا، بينما نحن بشر.
شربنا عصير الموز وقوفاً في مشمشة، ونحن نتعرض لتيارات هوائية من مراوح تنفث رذاذ الماء. اتهمتني بأنني لم اختلف في شيء عن يوم أمس الخميس، وهددتني بأنها قد لا تخرج معي الجمعة المقبلة. تجاهلت أمر هشاشتي المعنوية، وقلت إن علينا التفكير في التجديد. لا يعقل أن نبقى في الكرادة إلى الأبد. وضعت قدحها الكبير على النضد الرخامي، وقالت:
- بغداد تنتهي هنا. هذا كل ما نملك.
- أنت ترفضين أن نتزوج.
قالت بحدة:
- العراق لا يستحق أن تنام معي فيه، كما أنك لن تشعر بالشبع إذا ما نمت معي في بلد آخر.
- أنا أحبك... هذه هي قضيتي. لست قذراً ككل الرجال.
أعطتني ظهرها وهي تقول:
- قضيتنا أن نبقى على قيد الحياة أولاً.
ترددت سما في عبور الشارع. نظرت إليَّ وهي منكمشة الملامح، وقالت:
- أنت غبي جدا يا هادي.
انتبهت إلى أننا كنا نقف في جوار حاوية نفايات زرقاء بعجلات. كانت سما تنظر إلى الأعلى وكأنها ليست هنا في الكرادة. بدت ضائعة مثلما كانت أمس الخميس.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم