الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"التاج" الليبي في المهبّ

محمود الزيباوي
"التاج" الليبي في المهبّ
"التاج" الليبي في المهبّ
A+ A-

في نهاية 1951، تحت عنوان "دولة عربية جديدة وتاج عربي مجيد"، كتبت مجلة "المصور" المصرية: "في يوم الاثنين الماضي 24 ديسمبر، وُلدت دولة عربية ثامنة، هي مملكة ليبيا، وقامت على أكتاف شعب عربي مجيد، هو الشعب الليبي، ظل يكافح قوى الاستعمار قرنا ونصف قرن، وحاول الإيطاليون استذلاله منذ اعتدائهم على بلاده في عام 1911، حتى أتيح له أن يردّهم عن بلاده ويرفع الراية الليبية ترفرف في سماء الحرية إلى جانب أخواتها رايات العروبة المرفرفة".


مضت مجلة "المصور" في التهليل لهذا "التاج العربي المجيد"، وقالت: "في ذلك اليوم قام عرش عربي جديد جلس عليه جلالة الإمام أحمد الإدريسي السنوسي ملك ليبيا وحفيد مؤسس الطريقة السنوسية المغفور له سيدي محمد بن علي بن السنوسي الخطابي الحسني المهاجري الذي ينتهي نسبه الشريف إلى فاطمة الزهراء وعترة المصطفى صلوات الله عليه". توانت المجلة المصرية عن الإشارة إلى الصراعات الداخلية التي شهدتها هذه الدولة العربية قبل ولادتها، واسترسلت في تمجيد حاكمها بهذه اللغة الوردية التي سادت بعد نكبة فلسطين، وتكرست بعد قيام "الحركة المباركة" التي اطاحت الملك فاروق في 23 تموز 1952. أخبرتنا "المصور" أن ملك ليبيا ولد في العام 1881، "وخاض إلى جانب والده الشريف محمد المعارك تلو المعارك في سبيل استقلال ليبيا، وعرف معه آلام النفي والتشريد، ونُفي سنوات طويلة من عمره في مكة، ثم اتخذ واحة الكفرة مركزاً لأعماله، حيث التفّ حوله أتباع الطريقة السنوسية من المجاهدين الليبيين، وطارده الإيطاليون فلجأ إلى سيوة من أرض مصر، فلما قامت الحرب العالمية الثانية انضم إلى الحلفاء ضد الإيطاليين، وحصل على وعد صريح باستقلال بلاده، وما زال يعمل حتى تم النصر عليهم. بعد نهاية الحرب العالمية، حاول الحلفاء التخلص من وعودهم، فأرادوا تقسيم ليبيا دولتين: برقة وطرابلس، وطمعت فرنسا في اقليم فزان واحتله جنودها فعلاً، لكن السنوسيين رفضوا أي مساومة في حقوق بلادهم، وسعت إيطاليا لاستعادة ليبيا من دون أن توفّق، وانتهى الأمر بأن انتخب الشعب الليبي الموحّد الجمعية العمومية لليبيين، وانتخبت هذه بدورها جلالة أحمد الادريس السنوسي ملكا على ليبيا كلها. وهكذا ارتدّت المطامع عن أرض هذا البلد الشقيق، ولم يبق من آثارها إلا بعض المراكز البحرية الانكليزية والمطارات الأميركية".
ولدت المملكة الليبية الجديدة في نهاية العام 1951، وتكوّنت من أربعة اقسام رئيسية على قول مجلة "المصور": طرابلس، برقة، فزان، وواحة الكفرة. تقع هذه المملكة على امتداد نحو ألفي كم من الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. تحدّها شرقاً مصر، وجنوباً السودان وتشاد والنيجر، وغرباً الجزائر وتونس. ومساحتها 1780000 كيلومتر مربع "معظمها صحارى واسعة". كان عدد سكان ليبيا يومها 850000 نسمة، "يقيم معظمهم في نواحي برقة ومدنها العامرة، وكذلك في مدائن طرابلس الكثيرة، وإقليم فزان، وهو مجموعة من الواحات يجاور بعضها بعضاً فتكون أكبر مساحة خصيبة في الصحراء الشرقية الكبرى. ومدن ليبيا في الواقع واحات كبيرة عامرة منذ أيام المصريين القدماء، وأكبرها طرابلس ومسراته وبنغازي وصبره وبرقة وطبرق ودرنة. في ليبيا خط حديد واحد كبير يمتد من بردية على الحدود المصرية - الليبية إلى زويرة على الحدود التونسية، وهناك خطوط فرعية صغيرة، أما بقية النواحي فترتبط ببعضها بطريق القوافل". أشارت "المصور" في تقريرها إلى نهضة ليبيا الاقتصادية التي "تنبئ بخير كبير"، وأضافت: "في كل من المدن الساحلية الكبيرة حي حديث جميل، وتعتبر طرابلس وبنغازي من أجمل موانئ البحر الأبيض. أما واحات فزان فتعتبر أعظم غابة نخيل في الدنياـ اذ يبلغ ما فيها منه بضعة ملايين".
تلك هي "مملكة ليبيا" التي وُلدت في نهاية العام 1951، وكانت يومها الدولة العربية الثامنة التي تقوم وتنشأ. هي بلاد شاسعة، تحوي مدناً قديمة وصحارى تزخر بالواحات، تمتد بين هضاب أفريقيا وسهل البحر الأبيض المتوسط. سمّاها الأقدمون ليبيا، نسبة إلى قبيلة من قبائلها تدعى الليبو، كما يقول المؤرخون. شكّلت همزة وصل بين وسط أفريقيا وسواحل المتوسّط، وبين الشرق والغرب، وتعاقبت على حكمها سلالات وإمارات تعود إلى أصول مختلفة. تحوّلت في منتصف القرن العشرين من مستعمرة إيطالية إلى مملكة ليبية، ثم تحولت إلى جمهورية عربية في أيلول 1969، وأضحت بعدها جماهيرية، حكمها عقيد على مدى أكثر من أربعة عقود، وهي اليوم تتخبط من جديد في حروبها الصغيرة بصورة تذكّر بما شهدته قبل ولادتها في نهاية 1951.


ليبيا القديمة
قسّم الجغرافيون الأقدمون العالم ثلاث قارات هي أوروبا، ليبيا، وآسيا، وتضمّ ليبيا وفقا لهذا التصنيف مجمل الأراضي التي عُرفت في مرحلة لاحقة باسم إفريقيا. يظهر اسم ليبيا بهذا المعنى منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد كما يشهد التاريخ المُدوّن، وهو في زمننا اسم دولة شاسعة الأطراف، ترتيبها السابعة عشرة بين دول العالم من حيث المساحة الجغرافية، غير أن عدد سكانها لا يتجاوز البضعة ملايين، وهم موزّعون على محافظات طرابلس وبرقة وفزان. عُشر أراضي ليبيا مأهولة، والباقي صحارى تزخر بالواحات وطرق شاسعة تمتد بين هضبة أفريقية وسهل ساحلي متوسطي. في منتصف القرن العشرين، رأت مجلة "المصور" أن مدن ليبيا هي "في الواقع واحات كبيرة عامرة منذ أيام المصريين". في القرن الأول قبل الميلاد، نقل الجغرافي ستاربو عن حاكم قديم يُدعى كاتيوس بيسو قولاً يشبّه فيه ليبيا بجلد الفهد، "إذ أنها منقّطة بمواطن مأهولة محاطة بأرض صحراء لا ماء فيها"، مما يعني أن حالة هذه البلاد في الماضي تشبه حالتها في الحاضر.
عرفت بعض هذه "النقط" المأهولة ازدهاراً كبيراً، وشهدت حركة عمرانية واسعة لا تزال أطلالها ماثلة أمام الأعين اليوم، وأشهرها خمسة مواقع أثرية مدرجة على قائمة التراث العالمي. تتوزّع هذه المواقع على دائرتين جغرافيتين، أولاهما إقليم تريبوليتانا، وثانيتهما إقليم قورينائية. يضمّ الإقليم الأول مدينة طرابلس والأجزاء الشمالية الغربية من البلاد، وقد استوطنه الفينيقيون في القرن السابع قبل الميلاد، وأنشأوا فيه مستعمراتهم الساحلية، ثم حكمته قرطاجة في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. بعدها، أضحت هذه البلاد جزءاً من الأمبراطورية الرومانية حيث ضُمّت مع تونس إلى "إقليم أفريقيا"، وعرفت في تلك الحقبة ازدهاراً عظيماً، ثم سقطت في أيدي قبائل الوندار الجرمانية في القرن الخامس، وعمرت من جديد في العصر البيزنطي، قبل أن يدخلها الفاتحون العرب في القرن السابع. في المقابل، تضم قورينائية إقليم برقة، شرق ليبيا، وفيها العديد من المدن التاريخية، منها أبولونيا، بطولوميس، توكرة، قورينا، وتيودورياس. عمرت هذه المدن في الزمن الإغريقي وفي العصر الهلّينستي، ثم أصبحت تابعة لسلالة البطالمة في مصر، بعدها تبعت الأمبراطورية الرومانية، وعظم شأنها في عصر الأمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الذي حصّنها وجعل منها منارة أفريقيا، فكانت آخر معقل للروم أثناء الفتح الإسلامي.
بين 642 و643، بسط العرب المسلمون سلطتهم على مجمل الأراضي الليبية. تبعت هذه البلاد ولاية أفريقيا في العهد الأموي وأول العهد العباسي، وغاب اسم ليبيا على مدى العصور الإسلامية المتعاقبة. شهدت البلاد اضطرابات متقطعة مع استمرار تمرد البربر، ثم تعاقبت على السيطرة عليها دويلات عدة، منها سلالة الأغالبة في القرن التاسع، وسلالة بني زيري الأمازيغية التابعة للفاطميين. في منتصف القرن الحادي عشر، تمرد الزيريون على أسيادهم في القاهرة، فأرسل الفاطميون قبائل بني هلال وبني سليم لإطاحتهم، وتُعرف هذه الهجرة باسم "الهجرة الهلالية"، وقد أدّت إلى دمار أفريقيا والمغرب، كما كتب ابن خلدون في الفصل السادس والعشرين من مقدمته، فأضحت "خراباً كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدن، والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين". عمرت المدن الليبية من جديد كما يُستدل من كتب الجغرافيين العرب. في نهاية العصر العباسي، ذكر ياقوت الحموي طرابلس الغرب في "معجم البلدان"، وقال في وصفها: "على مدينة طرابلس سور صخر جليل البنيان، وهي على شاطئ البحر، ومبنى جامعها أحسن مبنى، وبها أسواق حافلة جامعة، وبها مسجد يُعرف بمسجد الشعاب مقصود، وحولها أنباط، وفي بربرها مَن كلامه بالنبطية"، "ومرساها مأمون في أكثر الرياح، وهي كثيرة الثمار والخيرات ولها بساتين جليلة".
في العام 1510، وقعت طرابلس تحت سلطة ملك اسبانيا وأمبراطور الأمبراطورية الرومانية المقدسة كارلوس الخامس هايسبورغ، وبعد أربعة عقود، استولى عليها العثمانيون، ثم أحكموا قبضتهم على سائر الأراضي الليبية. في العام 1710، عيّن الباب العالي الضابط أحمد القرمنلي والياً على مدن ليبيا الكبيرة، ومنحه قدراً كبيراً من الحكم الذاتي. شكل هذا القرار بداية لحكم السلالة القرمانلية الذي استمر حتى العام 1835 حين قرر السلطان محمود الثاني إنهاء حكم هذه الأسرة واستعادة سلطته على البلاد. في تلك الفترة، أسس السيد محمد بن علي السنوسي في مكة حركة إصلاحية عُرفت بـ"الحركة السنوسية"، وأنشأ أول "زاوية سنوسية" في مدينة البيضاء في العام 1841. انطلقت هذه الدعوة بسرعة، وتضاعف عدد زواياها في سائر أنحاء البلاد، وشكلت دعامة لنهضة أفريقيا الشمالية.


ليبيا الحديثة
في العام 1911، اندلعت الحرب بين الإيطاليين والعثمانيين، وتحوّلت ليبيا مستعمرة إيطالية حتى العام 1947. ثار الشيخ السنوسي عمر المختار على أسياد البلاد الجدد، وقاتلهم على مدى عشر سنين، إلى أن تمكنوا منه وحكموا عليه بالإعدام شنقاً، ونُفّذ فيه الحكم في السادس عشر من أيلول 1931 في زمن صعود موسولوني إلى سدة الحكم. من مفارقات التاريخ، أن إيطاليا اعتبرت نفسها وارثة الإغريق والرومان في هذه البلاد، فأطلقت عليها من جديد اسمها المنسي بعد توحيد ولاياتها الثلاث، طرابلس وبرقة وفزان، وعمدت إلى تحديث هذه المناطق، فأسست المرافق العامة الأساسية، وشقّت الطرق والموانئ والسكك الحديد، وبنت عدداً من المستشفيات والمدارس، ورمّمت أطلال مدنها الأثرية، وذلك لتأكيد "شرعية" استعمارها هذا الجزء الحيوي من أفريقيا. من جهة أخرى، أنشأ حاكم ليبيا إيتالو بالبو في العام 1938 عشرين قرية خاصة بالإيطاليين القادمين حديثاً إلى ليبيا، وكان عددهم عشرين ألفا، وسعى إلى كسب رضا أهل البلاد من العرب والبربر، فأنشأ لهم عشر قرى أُطلقت عليها أسماء عربية، منها منصورة، خضرا، جديدة، ومعمورة.
بين 1940 و1943، أضحت ليبيا ساحة مواجهة بين "دول المحور" و"دول الحلفاء"، وأعلن السنوسيون تشكيل قوة ليبية تحارب إلى جانب البريطانيين تحت قيادة الأمير إدريس السنوسي. انتهت الحرب بهزيمة الإيطاليين، وتقاسم البريطانيون والفرنسيون إدارة شؤون الحكم في المناطق الليبية. في العام 1947، أعلنت إيطاليا رسمياً تنازلها عن "أراضيها" في أفريقيا، وتبع هذا الإعلان إقرار باستقلال ليبيا في العام 1949. في نهاية 1951، تحولت الدولة الناشئة إلى "المملكة الليبية المتحدة" إثر إقرار الدستور الليبي "تحت تاج الملك محمد إدريس المهدي السنوسي الذي بايعه الشعب"، وأكّد نصّ هذا الدستور "تكوين دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة تؤمّن الوحدة القومية، وتصون ‏الطمأنينة الداخلية، وتهيئ وسائل الدفاع ‏المشتركة، وتكفل إقامة العدالة، وتضمن مبادئ ‏الحرية والمساواة والإخاء، وترعى الرقي الاقتصادي والاجتماعي ‏والخير العام".
بين الإقرار باستقلال ليبيا في العام 1949 وولادة المملكة الليبية في نهاية 1951، شهدت هذه البلاد صراعاً حاداً بين مكوّناتها القبلي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم