الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المزار التركي

محمود الزيباوي
المزار التركي
المزار التركي
A+ A-

في نهاية الأسبوع الفائت، نفذت الحكومة التركية عملية عسكرية أطلقت عليها اسم "شاه فرات"، وأعادت من دون معارك مجموعة من العساكر كانت تحرس ضريحاً يُعرف بـ"مزار الأتراك". أعادت هذه العملية إلى الواجهة اسم صاحب الضريح، سليمان شاه، جدّ عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، وأثارت تساؤلات عدة حول توجهات السياسة التركية وطموحاتها في الشرق الأوسط.


جاءت العملية من دون مقدمات. بين ليلة وضحاها، دخلت قوة تركية الأراضي السورية فجراً، ونقلت رفات "الجد الأكبر" للسلالة العثمانية من ضريحه الذي تحاصره قوات تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، كما أجلت ثمانية وثلاثين عسكرياً تركياً كانوا يحرسون هذا الضريح، في عملية شاركت فيها نحو مئة عربة عسكرية، "من دون حصول معارك"، وفق ما أعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو. عبر 572 جندياً مركز مرشد بينار الحدودي، جنوب شرق تركيا، ودخلوا سوريا في تسع وثلاثين دبابة ترافقها عشرات الآليات المدرعة. بحسب البيان الرسمي، تقررت هذه العملية العسكرية بسبب تدهور الوضع الأمني حول الجيب التركي الذي تبلغ مساحته مئات الأمتار المربعة، ويضم ضريح سليمان شاه، جد مؤسس الأمبراطورية العثمانية عثمان الأول.
من يكون سليمان شاه؟ نقرأ في كتاب "تاريخ سلاطين بني عثمان" لعزتلو يوسف بك آصاف: "لقد اختلف أكثر المؤرخين في أصل سلالة آل عثمان فبعضهم ينسبون هذه العائلة الشريفة إلى سلالة عيسى بن اسحق وبعضهم يذهب أنها من طائفة بني قطورة جاءت من الحجاز بسبب القحط ونزلت في بلاد القرمان، وكل فريق من المؤرخين يسرد الدلائل التي تؤيد مذهبه وتقوي حجته، لكنهم قد أجمعوا أن جد آل عثمان هو سليمان شاه، أتى بجماعته عام 1200 ميلادية الموافق لسنة 621 هجرية، ونزل في صحارى بلاد أرمينيا الكبرى حيث مكث نحو سبع سنوات اشتعلت أثناءها نار الحرب بين الخوارزمي وعلاء الدين سلطان قونية وكبير السلاجقة، فتحزب سليمان شاه إلى السلطان علاء الدين ونزل مع جيوشه إلى ميادين الوغى ولبث يكافح معه حتى انتصر على اعدائه بواسطته. وفي العام 628 هـ، لما أراد سليمان شاه المحكي عنه مغادرة تلك الأصقاع قاصداً عربستان، مرّ بجماعته على نهر الفرات وبينما كان يعبره مات فيه غريقاً ودفن عنده في مكان يُعرف الآن بمزار الأتراك، وترك أربعة أولاد هم سنقوركتين وكون طغدي وأرطغرل ودوندر. فرجع سنقوركتين وكون طوغدي إلى ناحية الشرق، وبقي أرطغرل ودوندر عند السلطان علاء الدين وحضرا معه جملة حروب، فأظهر فيها أرطغرل البسالة والإقدام، ثم وقعت حرب شديدة بين السلطان على أعدائه فشتّت شملهم وأباد أربهم فكافأه علاء الدين بأن أعطاه بلاد سكود واسكي شهر. عاش أرطغرل تسعين عاماً وتوفى في العام 680 ودفن بمدينك سكود تاركاً ثلاثة أولاد هم عثمان بك وساوجي بك وكندوز بك، وقد تقلد منهم قيادة الجيش عثمان بك بالنظر لشجاعته وبسالته فأسّس بناء الدولة والملك".
قبل نقل الحكومة التركية جنودها من موقع ضريح سليمان شاه، هدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشنّ حرب في حال قيام تنظيم "داعش" بنسف المقام، وفقاً للتقليد الذي سار عليه هذا التنظيم المتطرف إلى اليوم، غير أن اتفاقاً غير معلن بين "الدولة الإسلامية" وحكومة أنقرة انتهى إلى احتجاز الجنود الأتراك سالمين من دون التعرض للمقام، وقد برّر أحد "شيوخ" تنظيم "داعش"، عبد الرحمن المرزوقي، تحييد الموقع حين صرح بأن "البناء لا يحتوي على ضريح وأنه مجرد متحف". أجلت الحكومة التركية جنودها، وحفظت رفات جد مؤسس دولة بني عثمان، وأعادته "موقتاً إلى تركيا ليدفن لاحقاً في سوريا"، كما صرّح أحمد داود اوغلو، موضحاً أنه تم ضمان أمن منطقة في الأراضي السورية لنقل الرفات إليها في الأيام المقبلة. في سبيل تحقيق هذا الهدف، دخل الأتراك بدباباتهم الأراضي السورية، وعبروا قرية آشمة القريبة من مدينة كوباني التي تُعرف بـ"عين العرب"، وتقع على مسافة كيلومترين من الحدود التركية، ورفعوا هناك علمهم. جرت هذه العملية في عمق ثلاثين كيلومتراً داخل الأراضي السورية، وأدت إلى مقتل جندي تركي، كما جاء في البيان الرسمي الخاص بهذه العملية.


انتقال المزار
غرق سليمان شاه مع بعض حاشيته في الفرات قرب قلعة جعبر في العام 1231، ولم يُعثر على جثته، فأقيم قبر رمزي له وآخر لأحد وزرائه قرب منحدرات القلعة الغربية. بعد ثلاثة قرون، انتصر السلطان سليم الأول على المماليك في معركة مرج دابق نواحي حلب يوم الثامن من آب 1516، وشيّد مقاماً يليق بجد بني عثمان أطلق عليه الرحّالة والزوار اسم "المزار التركي". في أواخر القرن التاسع عشر، وفي ظل حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، جرى تجديد هذا المزار وتوسعة المنطقة المحيطة به. بعد سنوات، تلاشت الدولة العثمانية المحتضرة مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وشرعت الدول العظمى المنتصرة في رسم حدود دول الشرق. في العام 1921، نجحت الدولة التركية الفتية في ضم الأقاليم السورية الشمالية إليها بموجب "اتفاق أنقرة"، وباتت كيليكيا والجزيرة الفراتية العليا جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. بموجب المادة التاسعة من اتفاق أنقرة، تم الاتفاق على أن يبقى ضريح سليمان شاه تحت السيادة التركية ويرفع عليه علم تركي في أرض تقع تحت السيادة السورية منذ معاهدة سايكس بيكو في العام 1916. بقي قبر سليمان شاه قرب قلعة جعبر، ونادراً ما كان يُزار، وفي العام 1968، عمدت الدولة السورية إلى إنشاء سد الفرات بموقع الطبقة، وخشيت من أن يغمر الضريح ومعه جزء من قلعة جعبر بمياه بحيرة السد عند ارتفاعها ثلاثين متراً عن منسوبها السابق، فقررت نقل الضريح إلى موقع آخر، ودخلت في مفاوضات مع السلطات التركية لاختيار الموقع المناسب. في العام 1973، نقل الضريح إلى تلّة مرتفعة شمال تل "قره قوزاق"، على بعد ثلاثين كيلومتراً من مدينة منبج في ريف حلب، على بعد ثلاثين كيلومتراً من الحدود التركية شمالاً. في العام 2010، عمدت اللجنة المشتركة "لبرنامج التعاون الإقليمي السوري التركي" إلى صون الطريق المؤدية للضريح باعتباره مقصداً سياحياً للزوّار الأتراك. بعد فترة وجيزة، وصل الرئيس التركي السابق عبد الله غل إلى حلب، وزار مع وفد رسمي ضريح سليمان شاه، وأعلن من هناك إقامة أعمال صيانة وترميم فيه.
تحول الضريح المنسي إلى مقصد سياحي في عهد ازدهار العلاقات السورية التركية، ومع اندلاع الأزمة السورية، عبّرت حكومة أنقرة أكثر من مرة عن حرصها على هذا الموقع، وأكدت أنها ستدافع عنه بعد سيطرة تنظيم "داعش" على المنطقة التي يقع فيها، وذلك بعد تدمير العديد من الأضرحة والمساجد في سوريا. في تشرين الأول 2014، صوّت البرلمان لصالح تفويض الجيش إجراء عمليات عسكرية ضد مسلحي "تنظيم الدولة" بسوريا والعراق، وخاطب رئيس أركان الجيش الجنرال نجدت أوزيل الجنود الذين يحرسون الضريح، وقال: "لا تنسوا أنكم لستم وحدكم، كونوا على يقين أن قواتنا المسلحة ستكون إلى جانبكم بمجرد أن تطلبوا منها ذلك". بدوره، رأى وزير الدفاع عصمت يلماظ "أن تقدم تنظيم داعش في اتجاه سليمان شاه يشكل خطراً على الأمن القومي". وأضاف: "واجبنا الأول هو الدفاع عنه، وتأكدوا أننا لن نتردد لحظة في القيام بكل ما يلزم لحمايته".
خرج اسم جد السلاطين العثمانيين سليمان شاه من الظل إلى النور في زمن ازدهار العلاقات السورية التركية، وخرج معه في تلك الفترة كذلك اسم السلطان العثماني محمد وحيد الدين الذي يرقد في "التكية السليمانية" في قلب دمشق، وهو شقيق السلطانين عبد الحميد الثاني ومحمد رشاد الخامس، وآخر السلاطين العثمانيين، وقد انتهى حكمه في العام 1922، حين أصدر "المجلس الوطني الكبير" قراراً يقضي بحل السلطنة. من جهة أخرى، أعادت الحوادث الأخيرة إلى الذاكرة الصراع الذي دار قديماً على شمال سوريا في زمن الانتداب الفرنسي. بعد "اتفاق انقرة"، تم توقيع "معاهدة لوزان" في العام 1923. ثبّتت هذه المعاهدة اتفاق انقرة، وأدت إلى فصل حلب عن مدن الأناضول وبلداته التي كانت تابعة لها، فلم يبق من لواء حلب سوى العاصمة ولواء الإسكندرونة. في العام 1939، ضمّت الدولة التركية هذا اللواء بمؤازرة من الانتداب الفرنسي، وحرمت حلب من مينائها الرئيسي، وباتت معزولة عن محيطها الأناضولي "التاريخي".
لم تعترف الدولة السورية بهذا الفصل، وظلت حتى الأمس القريب تعتبر "اللواء السليب" جزءاً من أراضيها، وأظهرته على خرائطها الرسمية. ويبدو أن هذا الصراع لا يزال يدور اليوم ولو بأشكال مختلفة. تحوّل ألوف من السوريين إلى لاجئين يقيمون في مخيّمات أنشئت في ما عُرف سابقاً باسم الأقاليم السورية الشمالية، وتضاعف عددهم مع تفاقم الأزمة واشتداد الحرب المستمرة منذ سنوات. دخل رئيس الوزراء التركي (الرئيس الحالي) رجب طيب أردوغان في الحرب السورية، وقال إن صلاته بالجامع الأموي في دمشق وزيارته قبر صلاح الدين الأيوبي باتت قريبة. قبلها، خاطب العالم العربي من دار الأوبرا بوسط القاهرة، وأشاد بالشباب في مصر وتونس وليبيا، وقال ''إنه كما كان في التاريخ التركي شاب قام بإنهاء حضارة سوداء، ودشّن حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول، وهو محمد الفاتح، فإن هناك شباباً في مصر أغلقوا صفحة وفتحوا صفحة حضارة جديدة".


الحلم العثماني
يجهر الرئيس التركي بولائه لأجداده العثمانيين، ويشدد على هذا الولاء في صورة تثير أحياناً السخرية. في مطلع هذه السنة، استقبل أردوغان نظيره الفلسطيني محمود عباس في القصر الرئاسي الجديد في أنقرة، وصافحه وخلفه للمرة الأولى ستة عشر جندياً من حرس الشرف، يلبسون أزياء عسكرية مختلفة ترمز الى السلالات التركية المتعاقبة التي ظهرت منذ ألفي سنة إلى مطلع القرن العشرين. فكرة هذه السلالة معروفة في تركيا، ويرمز إليها الختم الرسمي لرئيس الجمهورية، وفيه تظهر شمس في الوسط تحيط بها ست عشرة نجمة خماسية. ترمز الشمس إلى جمهورية تركيا، وترمز النجوم إلى ست عشرة أمبراطورية عظمى ظهرت على مدى التاريخ التركي، وهي بحسب التسلسل الزمني الأمبراطورية الهونية العظمى التي ظهرت في العام 220 قبل المسيح، ثم تباعاً: الأمبراطورية الهونية الغربية، الأمبراطورية الهونية الأوروبية، أمبراطورية الهون البيض، أمبراطورية غوك تورك، أمبراطورية الآفار، أمبراطورية الخزر، دولة الأويغور، القراخانيون، الدولة الغزنوية، الأمبراطورية السلجوقية العظمى، الخوارزميون، دولة القبيلة الذهبية، الأمبراطورية التيمورية العظمى، أمبراطورية بابور، وأخيرا السلطنة العثمانية. أثارت صورة أردوغان مع حرس الشرف الجديد تعليقات شتى، وأعادت إلى الأذهان تصريحاته التي تمجد "الأجداد العثمانيين"، وحرصه على إحياء أمجادهم بإصراره حتى على تعليم اللغة العثمانية في المنهاج التدريسي الرسمي.
توقفت مجلة "إيكونوميست" البريطانية أمام هذه الصورة، وتساءلت: "ما الذي بقي من إرث أتاتورك؟ يبدو السؤال أكثر إلحاحاً فيما يسعى رجب طيب أردوغان، أول رئيس تركي ينتخب شعبياً، لإجراء تعديلات دستورية تمنحه سلطات تنفيذية. ومن ثم سيأمل بتحقيق حلمه بتركيا جديدة جازمة، تهيمن فيها الغالبية السنية، ويتم عبرها إحياء الأمبراطورية القديمة". من جهتها، تحدثت وصفت "واشنطن تايمس" الأميركية الزعيم التركي بـ"العثماني الجديد"، وقالت: من المفترض أن تكون تركيا جزءاً من حل الأزمة في سوريا والعراق، التي أوجدها تنظيم "داعش"، ولكن عوضاً من ذلك، باتت تركيا جزءاً من مشكلة انتشار الجهادية في الشرق الأوسط والعالم. كما شجعت أنقرة تنظيم الأخوان المسلمين".
كرّر أردوغان اللعبة، وظهر مرة أخرى مع فرقة حرس الشرف المؤلفة من ستة عشر جندياً يلبسون زياً عسكرياً يعود لباس كل واحد منهم إلى أمبراطورية تركية مختلفة، وذلك عند استقباله رئيس أذربيجان إلهام علييف بعد ثلاثة ايام على استقباله الرئيس الفلسطيني محمود عباس. أشعلت صور أردوغان مع حرسه مواقع التواصل الاجتماعي، وانقسم الجمهور في تقييمها. عبّر بعضهم عن فخره بانتمائه التركي، وعبّر بعضٌ آخر عن امتعاضه، وقارن بين حرس الشرف التركي وشخصيات الفيلم الأميركي "المنتقمون"، واستعاد عنوان لعبة شهيرة من لعب الانترنت "عصر الأمبراطوريات"، وسخر من "عودة الملك".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم