الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أخالف كل المتشائمين

طلال خوجة
A+ A-

علاقة الدين بالمجتمع تشكل ولا شك قضية مهمة في الشرق وتخترق العلاقة بين غرب متقدم وشرق مترنح أطلق ربيعاً عربياً متطلعاً إلى ردم الهوة، وإذ به يخرج من جوفه كل عوامل التفكك.


خرجت الجموع الهادرة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وسابقاً لبنان فيما عرف بثورات الربيع العربية، واتسمت بالسلمية وبالطابع المدني وبالمشاركة الواسعة والمتنوعة، فبدت نساء إمبابة وهوانم الغاردن سيتي، كما الأقباط والمسلمون جسدا واحدا في ميدان التحرير، كما مكونات المجتمع السوري المتنوعة في ساحات ومساجد سوريا (كما في الميادين العربية المنتفضة) حيث واجه المنتفضون وسائل القمع العاري بـ"سلمية سلمية" و"إسلام ومسيحية، دروز وسنة وعلوية". وفي هذا المشهد بدا كأن المجتمع المدني ينتفض ضد الإستبداد وضد المجتمع الأهلي حيث عناصر التفكك الديني والمذهبي والعشائري والقبلي والإثني.
لست في معرض تحليل مآل الإنتفاضات العربية وواقعها، إلا أن هذه الرحلة الشاقة تبدو في أوج تعثرها، خصوصاً بعدما تحولت دامية مع تصاعد العنف والتطرف والإرهاب على انواعه من دول ومجموعات.
والجديد في ما تفعله داعش أو "نيو قاعدة" في "إدارتها للتوحش" هو الإستعراض المتقن للفظائع، والذي له وظيفة محددة هي دب الرعب في الآخر. كما أنها تستكمل بوعيها القضاء على مفاهيم الحداثة (وليس أدواتها طبعا) وبهذا المعنى "النيو الليبرالية" وأسواقها الفالتة من العقال وحروبها الوحشية في العراق وتفكيك بناه وسكوت الغرب عموما عن القمع العاري للمنتفضين السلميين في سوريا ودعم اميركا المطلق لإسرائيل يساهم في تعثر الربيع العربي وتشتيته.
ورغم دعوة الأديان للسلام، ورغم النجاح النسبي للمقاومات السلمية، فإن تعقيدات الصراعات والخلافات والمصالح والقضايا الجيوسياسية، تفيض عن قدرة رجال الدين، والمؤسسات الدينية، خصوصاً أن تسييس الدين ومؤسساته قطع أشواطاً كبيرة، وهي باتت تشكل جزءا أساسيا من أزماتنا، ما يطرح قضية إصلاح المؤسسات الدينية والتي لا يمكن إصلاحها دون غيرها من المؤسسات المجتمعية.
وإذ يعقد الأزهر مؤتمرا نوعيا يحتضن كل المذاهب الإسلامية والمسيحية، بما فيها العلويون والدروز، ويعيد تأكيد مدنية وسلمية الإسلام وانفتاحه على الآخر، فإنه لم يرتفع إلى مستوى معالجة أزمة الفكر الديني وتطبيقاته في عالم يزداد تعقيدا وعولمة وتوحشاً، وما زلنا بعيدين عن "النيو نهضة" في التصدي للأسئلة الصعبة. إن ذهنية التحريم والتكفير تخترق مزيداً من البنى المجتمعية العربية، وإن كنا نعزو تمدد هذه الذهنية في جزء كبير منها إلى الإحباط والبؤس وارتفاع منسوب المظلومية. ولا نعتقد أن الموروث الثقافي يشكل طبيعة ثانية للإنسان المسلم تمنعه من التحديث. ومع أن الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية الأصلية يشكل الحاضنة الفعلية للفعل الجهادي، وفشل كما العسكر في ثنائية الأصالة والحداثة، حيث نجحت اليابان والصين إلى حد كبير، فإن تقسيم البعض للمجتمع إلى إسلاميين وغير إسلاميين أو متطرفين ومعتدلين، يزيد التوجس من الحلف ضد الإرهاب ومضمراته على المستقبل الجيوسياسي للمنطقة صاحبة الموزاييك الأكثف.
وللأسف فإن الإنقسامات الخطيرة في مجتمعاتنا والتي تحول بعضها انشطارات تتغذى من مواقف بعض المسؤولين الدينيين حيث يعتقد بعضهم أن "سحر الشرق وتنوعه يشكل مبرراً لتأييد الإستبداد". فالديكتاتوريات، خصوصا التي ادعت العلمانية، شكلت قلعة للفئوية وحاضنة لمعظم المجموعات المتطرفة الجوالة بين لبنان وسوريا والعراق.
إن مجتمعاتنا، وإن تبدو مأزومة ومفككة، فإنها ما زالت تختزن طاقات هائلة، ظهرت في سياق انتفاضاتها التاريخية، حتى أنني ارى، وللمفارقة، بأن تدفق بعض الشباب (بما فيهم الشباب الأوروبي) نحو التنظيمات المتطرفة يصرف جزءا من هذه الطاقات في غياب أو ضعف الجاذب الاخر. ألا يذكرنا هذا التدفق بجاذب المقاومة الفلسطينية رغم انقلاب المشهد؟
ورغم قوة وجاذبية الإسلام السياسي المدعوم بالمال الوفير فقد نجح "الليبراليون" في ليبيا المتدينة مرتين ما استدعى قلب الموازين من طريق العبث بالسلم الأهلي، ورغم نجاح الإخوان والسلفيين في "غزوتي" الإنتخابات في مصر فقد خرج الملايين، وهم في معظمهم متدينون، ضد "أخونة" البلد وتسييس الدين وفضلوا تسليم السلطة للعسكر نتيجة ضعف البنية الليبرالية الديموقراطية.
وفي تونس ظهر النجاح النسبي للتجربة المدنية، ربما نتيجة التطور التاريخي للحالة التونسية منذ القرن التاسع عشر ووجود مجتمع مدني حديث وفعال وواقع متقدم للمرأة. وحتى في لبنان فإن الحراك المدني مستمر بأشكال مختلفة، رغم جنوح البعض نحو شعارات تبدو جاذبة لقضية المواطنة والنظام الديموقراطي مثل إلغاء الطائفية السياسية. ومع ذلك أخالف كل المتشائمين وأقول بان الربيع العربي الدامي سيزهر، وأردد ما قاله المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في بدايات القرن الماضي "العالم القديم ينهار والعالم الجديد يتأخر في البزوغ وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية". وما أكثر الوحوش الفالتة في هذه الأيام.


أستاذ في الجامعة اللبنانية


(أقسام من مقالة أطول)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم