الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عن الجماعة المارونية التي كانت "كالوردة بين الأشواك" - شعب مارون

محمود الزيباوي
عن الجماعة المارونية التي كانت "كالوردة بين الأشواك" - شعب مارون
عن الجماعة المارونية التي كانت "كالوردة بين الأشواك" - شعب مارون
A+ A-

خرجت الكنيسة المارونية في الأزمنة الحديثة من الظلّ، وحظيت سياسياً بدورٍ لم تحظَ به أيٌّ من الكنائس الشرقية الأخرى. نشأت الفكرة اللبنانية في كنف هذه الكنيسة وتحولت إلى واقع مع نشوء الدولة اللبنانية، فماذا فعل "شعب مارون" بهذه الوديعة؟


في القرن الخامس، شهد الشرق المسيحي نزاعات عقائدية حادة أدّت إلى انقسام "الكنيسة الجامعة". في العام 431، أدان مجمع أفسس تعاليم بطريرك أنطاكيا نسطور. وبعد عشرين سنة، أدان مجمع خلقيدونيا تعاليم الراهب أوطيخس الخاصة بطبيعة المسيح. عُرف رافضو قرارات مجمع أفسس بالنساطرة، نسبة إلى نسطور، وعُرف رافضو قرارات مجمع خلقيدونيا باليعاقبة، نسبة إلى المطران يعقوب البرادعي الذي رسم إكليروساً خاصاً بهذه الجماعة في القرن السادس. أمّا أتباع مجمع خلقيدونيا، فهم في كتب التراث، "الملكائية" أو "الملكانية"، والكلمة في الأصل سريانية، تعني أتباع الملك، أي أمبراطور الروم.
استمرت هذه النزاعات العقائدية في القرن السادس، وتحوّلت إلى ما يُشبه الحرب الأهلية بين الروم الملكانيين والسريان اليعاقبة. مارس البيزنطيون شتّى أنواع الضغوط على السريان والأقباط لكي يحملوهم على التزام العقيدة الخلقيدونية الرسمية، وأدت هذه الضغوط إلى نتيجة معاكسة. تشبّث كل فريق بإيمانه "القويم"، وعندما جاء الفتح العربي، رأى فيه اليعاقبة انتقاماً إلهيا من بطش الروم. اعترف المسلمون الفاتحون بالفرق المسيحية، وثبّتوها في موقعها، فتكرّست استقلالية الكنائس الشرقية، التي دخلت في مرحلة جديدة من تاريخها، وتحددّ موقعها في دار الإسلام تبعاً لوضع قانوني خاص بمن يُعَرفون بـ"أهل الكتاب". انقسم مسيحيو الشرق قبل ظهور الإسلام، واستمروا في انقسامهم هذا في القرون الوسطى كما تشهد كتابات مؤرخيهم، والأمثلة لا تُحصى، نذكر منها على سبيل المثال واقعة حدثت في منتصف القرن الثامن سجّلها المؤرخ السرياني ديونيسيوس التلمحري. يقول الراوي إن أبناء حلب انقسموا قسمين، "أحدهما مع أسقفهم الذي أخذ بعقيدة جماعة مارون، والآخر مع المكسيموسيين". تصارع الفريقان في شأن الكنيسة الكبرى في المدينة، وتبادلوا الضرب فيها، فأمر الحاكم المسلم بتقسيمها وإقامة حاجز خشبي في وسطها، "وهكذا أصبح في الكنيسة جماعتان، تحاول كلٌّ منهما رفع أصواتها للتشويش على الأخرى، وكثيرا ما رموا قرابين بعضهم وكسروا الصلبان". استمرت المشادات بين الفريقين، ودخلت النساء إلى الهيكل، وشاركن في العراك، واستمرت الحرب، فأمر الحاكم برفع الحاجز من وسط الكنيسة وإلزام الجميع الخضوع للأسقف، وعيّن رجالاً مسلمين ليراقبوا المصلّين وبأيديهم سياط، "فخجل الحلبيون وشعروا بالذنب وطردوا الفريقين من الكنيسة، واتحدوا على عقيدة مكسيموس".


جماعة مارون
يتحدّث الراوي عن خلاف وقع بين جماعة المكسيموسيين وجماعة مارون، والمكسيموسيون هم أتباع مكسيموس المعترف الذي قال بمشيئتين في المسيح، وهي العقيدة التي ثبّتتها الكنيسة الجامعة. أما جماعة مارون، فهي التي تقول بمشيئة واحدة في المسيح، وهو المذهب التوفيقي الذي حاول الأمبراطور هرقل أن يفرضه على رعاياه المنقسمين. أدت السجالات اللاهوتية الشائكة إلى انقسام الكنيسة الواحدة كنائس متناحرة بين القرنين الخامس والسابع. قال البعض بطبيعة واحدة للمسيح، وقال البعض الآخر بطبيعتين، وبات لكل فريق كنيسة تنادي بإيمانها القويم. جرى هذا الانقسام في زمن الحروب المتصاعدة بين الروم والفرس، وكان شوكة في خصر الأمبراطورية البيزنطية. سعى الأمبراطور هرقل إلى حل توفيقي يجمع الفريقين، ونادى بتفسير جديد يجعل للمسيح طبيعتين يصدر عنهما فعل واحد، غير أن الفريقين رفضا هذا التفسير. استمر بطريرك القدس صفرونيوس في معاندة هرقل إلى أن تغلّب العرب على عسكر الروم في اليرموك، في العام 636، واضطر إلى تسليم القدس بنفسه إلى الفاتحين إثر هذه المعركة، "أمّا أجداد الموارنة، فكانوا من أنصار هرقل الذين اعترفوا بأحكام الضرورة، فآثروا الدفاع عن كيان المسيحية والسعي لإعادة وحدة الكنيسة على الدقة اللاهوتية"، كما كتب كمال الصليبي في دراسة مختصرة عن الموارنة في العام 1969.
يستند هذا القول في الدرجة الأولى إلى شهادة سعيد بن البطريك، صاحب "نظم الجواهر"، وهو بطريرك الإسكندرية الملكاني المتوفى في العام 940. في تلك الحقبة، تحدّث أبو الحسن المسعودي عن هذه الجماعة في "التنبيه والإشراف"، وقال إن مؤسسها "رجل من أهل مدينة حماة من أعمال حمص يُعرف بمارون"، و"إليه تنسب المارونية من النصارى"، "وأمرهم مشهور بالشام وغيرها، أكثرهم بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها، كحماة وشيزر ومعرة النعمان". ظهر مؤسس المارونية في عهد ملك الروم موريق، أي موريس الأول، أمبراطور بيزنطيا من 582 إلى 602، "وكان له دير عظيم يُعرف به شرقي حماة وشيزر، ذو بنيان عظيم، حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيها الرهبان، وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم، فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان، وهو يقرب من نهر الأرنط (أي العاصي)، نهر حمص وأنطاكية". في هذه الشهادة الاستثنائية، يخبرنا المسعودي أن لأحد الموارنة، "ويُعرف بقيس الماروني"، كتاباً حسناً "في التاريخ وابتداء الخليقة والأنبياء والكتب والمدن والأمم وملوك الروم وغيرهم وأخبارهم، انتهى بتصنيفه إلى خلافة المكتفي". يؤكد العالم العباسي أنه لم ير "للمارونية في هذا المعنى كتاباً مؤلفاً غيره"، "وقد ألّف جماعة من الملكية والنسطورية واليعقوبية كتباً كثيرة ممن سلف وخلف منهم". في الخلاصة، لم يحفظ لنا التاريخ كتاب قيس الماروني هذا، وما نعرفه عن تاريخ الموارنة مصدره مؤلفات "خصومهم" من السريان والروم أولاً، ثم الفرنجة في مرحلة الصليبيين.
أقامت "جماعة مارون" في وادي العاصي حتى القرن العاشر. في تلك الفترة، تواصلت الحملات البيزنطية لـ"استرجاع" سوريا، ونجحت في بسط السلطة على أجزاء كبيرة منها لمدة قرن كامل. نتيجة هذه التطورات، أصبح الجزء الشمالي من جبل لبنان الموطن الأساسي للموارنة منذ القرن العاشر، وقد أشار إلى ذلك الزجّال المؤرخ جبرائيل بن القلاعي في القرن السادس عشر حيث ختم زجليّته، "مديحة على جبل لبنان" بالقول إن "عهد مارون في جبل لبنان في أيامه كان ستة قرون". بدأ عهد مارون في جبل لبنان مع دخول العالم الإسلامي في سلسلة من الحروب والفتن المتواصلة. على الصعيد المسيحي، تصدّعت العلاقات بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، وأدى هذا التصدع إلى سقوط الشركة بين الكنيستين، وانشطار "الكنيسة الجامعة" "كنيسة أرثوذكسية" يونانية و"كنيسة كاثوليكية" لاتينية. دخل الفرنجة بلاد الشام، فسيطروا على أنطاكيا والقدس وتوجهوا نحو القدس، ووصلوا إلى عرقا، قرب طرابلس، في العام 1099، فنزل الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح، في 10 نيسان، كما روى مؤرخ الحملات الصليبية غيوم، أسقف صور اللاتيني، أو "وليم الصوري"، كما جرت تسميته في الكتابات العربية الحديثة. أسّس الفرنجة في طرابلس كونتية شملت معظم المناطق المارونية من جبل لبنان، وبات الموارنة من رعاياهم. تقرّب الموارنة من كنيسة روما تدريجيا، وفي العام 1180، اجتمع رؤساؤهم ببطريرك أنطاكيا اللاتيني أمريكوس، ونبذوا مذهب المشيئة الواحدة، وأعلنوا قبولهم بإيمان الكنيسة الرومانية ودخولهم في طاعتها. هكذا اتحدت جماعة مارون بكنيسة روما، وتبنّت تقاليدها والتزمتها، كما روى أسقف عكا اللاتيني يعقوب الفيثري في شهادة أخرى تشكّل مع تلك التي تركها وليم الصوري أهم مصدر لمعرفة تاريخ الموارنة في تلك الحقبة.
لم تكن هذه الشراكة الحديثة بين روما والموارنة كاملة، إذ ظهر بين الموارنة من عصى الفرنجة، كما روى وليم الصوري في تاريخه. انقسم الموارنة بين مؤيد للاتحاد ومعارض له، فأوفد البابا إينوشتيوس الثالث في العام 1203 قاصداً رسولياً للتوفيق بين الطرفين. في تلك الفترة الحرجة، حضر البطريرك الماروني أرميا العمشيتي إلى روما، وعاد منها حاملاً بركة خاصة من البابا ورسالة منه وقُّعت في العام 1216، وتُعتبر هذه الرسالة أقدم وثيقة معروفة تتعلّق بتاريخ الطائفة المارونية ككنيسة قائمة بذاتها. توفّى أرميا العمشيتي في العام 1230، واندلع الخلاف بين صفوف الموارنة إثر رحيله. اشتدت الحركة المعارضة للاتحاد، بينما تفتتت سلطة الفرنجة في المشرق، وباتت آخر معاقلها كونتية طرابلس وبعض المدن الساحلية من مملكة القدس. في العام 1268، أغار المماليك على القليعات، وخرّبوا الحدث وجوارها في جبة بشري، وشرعوا في التخطيط للاستيلاء على طرابلس. بلغ الانقسام الماروني ذروته في تلك الأيام، وبات للطائفة بطريرك مناصر لروما مركزه في حالات، وهو أرميا الدلمصاوي، وبطريرك آخر مناوئ لهذه الوحدة مركزه في الحدث، هو لوقا البنهراني. أغار التركمان بأمر من المماليك على جبل لبنان في العام 1283، وأخذوا لوقا البنهراني أسيراً، "وكان إمساكه فتوحًا عظيمًا، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة"، كما سجّل ابن عبد الظاهر كاتب سيرة السلطان قلاوون في "تشريف الأيّام والعصور بسيرة الملك المنصور".
قضى المماليك على آخر معاقل الفرنجة في بلاد الشام، وقسّموا هذه الأراضي ست ممالك، هي دمشق، حلب، طرابلس، حماه، صفد، والكرك، فأصبحت المناطق المارونية من جبل لبنان تابعة لمملكة طرابلس. قبض المماليك على البطريرك الماروني جبرائيل الحجولاوي، وساروا به إلى طرابلس، وأحرقوه عند جامع طيلان، خارج المدينة، في أول نيسان 1367. انكسرت شوكة البطريركية المارونية، وبات خلفاء جبرائيل الحجولاوي تحت رحمة دولة المماليك في طرابلس، وأصبح لمقدمي القرى الكلمة النافذة في الطائفة.


كالوردة بين الأشواك
ثبتت الكنيسة المارونية وحدها من بين البيع الشرقية في طاعة روما، فكافأها البابا أوجينيوس، واعترف ببطريركها بطريركاً على الكرسي الأنطاكي. خشي المماليك من تنامي سلطة هذه البطريركية، وخرّبوا مركزها في ميفوق، فانتقل البطريرك إلى دير سيدة قنوبين في جبة بشري. تقوّت الكنيسة المارونية بعناية روما، واستعاد بطاركتها بفضل هذه العناية سلطتهم الأولى، ونجحوا في تحجيم سلطة المقدّمين. في العام 1515، وهي السنة الأخيرة من حكم المماليك لبلاد الشام، كتب البابا لاوون العاشر إلى البطريرك الماروني شمعون الحدثي ممتدحاً: "نشكر القدر الإلهي الذي شاء، بحلمه العظيم، أن يبقي عبيده المؤمنين، من بين الكنائس الشرقية، مصيبين في وسط الكفر والبدع كالوردة بين الأشواك".
في تلك الحقبة المتأزمة من تاريخهم، بدأ الموارنة بتدوين تاريخهم وتثبيت تقاليدهم في كتابات غلب عليها الطابع الدفاعي العقائدي، وقد تجلّى هذا الطابع في التشديد على التبرؤ من مذهب "الطبيعة الواحدة" وتأكيد "الأرثوذكسية الدائمة"، أي الإيمان القويم الذي لم يعرف البتة أي نوع من أنواع الشقاق والهرطقة. في مطلع القرن السادس عشر، روى جبرائيل بن القلاعي قصة مارون الذي نبذ مذهب المشيئة الواحدة في حضرة بابا روما، فنصبه الأخير بطريركاً على كرسي أنطاكيا، وعاد بعدها إلى جبل لبنان حيث أسس شعباً كاثوليكياً عُرف باسم "شعب مارون"، ويمكن القول إن هذه الرواية شكلت نواة لرواية لاحقة، هي قصة يوحنا مارون، أول بطريرك ماروني جلس على كرسي أنطاكيا بين 685 و707. بعد جبرائيل بن القلاعي، جاء إبرهيم الحاقلاني الذي عمل على ترجمة النصوص السريانية والعربية في روما حيث توفى في العام 1664. لم يكتب الحاقلاني تاريخاً، لكنه حقق نصوصاً ونشر أخرى نسبها إلى البطريرك يوحنا مارون، وذلك بدافع إظهار صحة الإيمان الماروني القويم وبراءته من كل شبهة. أكمل البطريرك أسطفان الدويهي هذا المشوار، وروى تاريخ الموارنة من منظار محدد حرص فيه على إظهار أرثوذكسية الكنيسة المارونية وكاثوليكيتها الدائمة منذ نشوئها، فربط بينها وبين مارون آخر يختلف عن مارون الذي ذكره المسعودي، وهو مارون الناسك الذي رحل عن هذه الدنيا في العام 410، أي قبل زمن الانشقاقات، وقد تحدث عنه تيودوريتوس القورشي في "تاريخ أصفياء الله"، وروى مآثره في أسطر قليلة. رفض الدويهي رواية سعيد بن البطريك، وروى سيرة يوحنا مارون، الراهب الذي أتى من صقلية، وحارب مذهب المشيئة الواحدة، وكان أول بطاركة الموارنة على الكرسي الانطاكي. اعتمد سمعان عواد ويوسف السمعاني هذه الرواية في القرن الثامن عشر، كما اعتمدها من بعدهما المؤرخون الموارنة في القرن التاسع عشر، ودخلت بذلك الذاكرة الجماعية المارونية. منذ القرن التاسع عشر، عمد عدد كبير من أهل الاختصاص إلى مراجعة هذه الروايات وتفنيد مواضع ضعفها، وذهب البعض منهم إلى الشك في وجود يوحنا مارون، واتهموا إبرهيم الحاقلاني بالتزوير، غير أن التاريخ الذي وضعه آباء الكنيسة المارونية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر بقي ثابتاً في الذاكرة الجماعية، ولم يتزعزع قط.
سطع نجم أعلام الموارنة في روما في زمن انتقال الحكم إلى العثمانيين. في ظل هذه الخلافة، أضحت بلاد الشام ثلاث ولايات، دمشق وحلب وطرابلس، وبات الموارنة في جبة بشري والبترون وجبيل والمنيطرة تابعين لولاة طرابلس، فشرعوا بالنزوح إلى كسروان والمتن والجرد والغرب والشوف، وكانت هذه المناطق تابعة لولاية دمشق. ارتبط الموارنة بالأمراء المعنيين، ونما دورهم في ظلهم. توطّدت هذه الشراكة بشكل كبير في عهد فخر الدين المعني كما شهد اسطفان الدويهي: "في دولة فخر الدين ارتفع رأس النصارى، عمّروا الكنائس وركبوا الخيل بسروج ولفّوا شاشات وكرور، لبسوا طوامين وزنانير مستقـطة، وحملوا القاص والبندق المجوهرة. وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان. لكون غالب عسكره كانوا نصارى، وكواخيه وخدامه موارنة".
انتهى هذا العهد باقتياد الأمير إلى الآستانة حيث أُعدم في العام 1635. استعاد ولاة طرابلس المناطق الشمالية من جبل لبنان، واستمرّ الموارنة في النزوح من هذه المناطق إلى كسروان والمناطق الدرزية، وتزامن هذا التحول مع انقراض السلالة المعنية في البلاد في العام 1697، وانتقال السلطة إلى الشهابيين. وقد تنصر فرع من هذه السلالة، وتسلم الحكم في العام 1770، فـباتت الإمارة الشهابية إمارة مارونية. نعم الموارنة بامتيازات كبيرة في هذه الحقبة من تاريخهم، وأصبحت لهم، مكانة سياسية فريدة من نوعها في البلاد العثمانية. تضعضعت السلطة العثمانية، واستغلت دولة محمد علي باشا المصرية الوضع، فدخلت بلاد الشام في العام 1834 بالتعاون مع الأمير بشير، غير أنها اضطرت إلى الخروج منها بعد سنوات، وتبعت هذا الخروج اصطدامات دامية بين الدروز والموارنة. وُضع جبل لبنان تحت الحكم العثماني المباشر، ثم جرى تقسيم جبل لبنان قائمقاميتين، واحدة مسيحية، والثانية درزية، غير ان الوضع عاد وتأزم، وأدى إلى حرب 1860 التي قضى فيها عدد كبير من المسيحيين.


الفكرة اللبنانية
أفسحت هذه الكارثة المجال أمام فرنسا للتدخل، وأدت محادثاتها مع السلطة العثمانية إلى قيام كيان ممتاز للبنان يرأسه متصرف مسيحي كاثوليكي غير لبناني يعيّنه السلطان من بين رعاياه. هكذا ولدت الفكرة اللبنانية وترعرعت في كنف الكنيسة المارونية، وتحققت مع نهاية العهد العثماني. في اليوم الأول من أيلول 1920، ظهر الجنرال غورو وسط بطريرك الموارنة والمفتي الكبير في قصر الصنوبر، وأعلن في خطاب طويل قيام "لبنان الكبير" أمام كبار أعيان البلاد، وتزامن هذا الإعلان مع القضاء على استقلال "الدولة العربية" في سوريا. خطب المتصرّف نجيب بيه أبو صوان يومذاك في بدء الاحتفال، وقال مرحّباً بالجنرال الفرنسي: "في هذه الساعة المهيبة التي تدخل التاريخ لتدوين حقبة غير قابلة للانمحاء، بيروت زهرة سوريا، عاصمة لبنان الكبير، مستعيدة أنفاسها الحرة، تحيي فيكم راعيها وتحيي بشخصكم فرنسا المجيدة".
تمّ إعلان دولة لبنان الكبير كدولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي، وتم بعدها إقرار الدستور، وتحققت بذلك الدعوة التي نادى بها الموارنة منذ عهد المتصرفية. رفضت الحركة الوطنية السورية وأنصارها في لبنان الاعتراف بالكيان اللبناني الناشئ، ودخلت المنطقة في صراع داخلي استمر حتى مطلع الثلاثينات، حين اشترطت فرنسا على الحركة الوطنية السورية الاعتراف بالكيان اللبناني قبل توقيع معاهدة تقرّ فيها باستقلال دولتي سوريا ولبنان. ولد الميثاق اللبناني في خضم هذا الصراع، وجاء بمثابة صيغة توفيقية تجمع بين الولاء القومي العربي والاعتراف بالكيان اللبناني.
استقلت الدولة الناشئة عن فرنسا في العام 1943، وتسلّم الموارنة الحكم في الجمهورية التي كان لهم الدور الأساسي في تأسيسها. تعرّض هذا الكيان منذ نشوئه لسلسلة من الهزات، أكثرها ضراوةً هذه التي يعيشها اليوم، وفيها يعاني "شعب مارون" الذي شبّهه البابا لاوون العاشر بـ"الوردة بين الأشواك"، ما تعانيه الوردة التي تتعرّض لأخطار الذبول!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم