الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "وقت للعبث" لخافيير ماريّاس \r\nالعالم منوط بقصّاصيه

جينا سلطان
كتاب - "وقت للعبث" لخافيير ماريّاس \r\nالعالم منوط بقصّاصيه
كتاب - "وقت للعبث" لخافيير ماريّاس \r\nالعالم منوط بقصّاصيه
A+ A-

يسخر الكاتب الإسباني خافيير مارياس في روايته "وقت للعبث" من الهامش الضيق المتاح أمام الإنسان لتحقيق تفرده الذاتي، ويتخذ من الموت بوصفه تمثيلية أو مسرحية معلناً عنها، معبراً استثنائياً لمعاينة الحياة الذهنية المستلبة باحتمالات مضاعفة الحدث الواحد.


يدخلنا مارياس متاهة تداخل الظلال، ظلالنا وظلال الآخرين عبر كاتب شبح يدعى فيكتور. تثقل عليه قصة ملك مسكون بأشباح أقربائه الذين تسبب بموتهم. ويتخذ من العبارة التي يوجهها أحد الأشباح إلى الملك في أحلامه: "فكر في غد أثناء المعركة وليسقط سيفك المفلول، واقنط ومت ولأثقل على روحك غداً"، لازمة تتكرر في مواضع عدة، فتبدو أقرب إلى الغموض والاقحام. كأنه يسعى من خلالها إلى إبراز الاختراق الذي تتعرض له حيواتنا، مهما كانت متانة جدران العزل التي نحيط بها أنفسنا، مما يجعلنا شركاء في تحمل المسؤولية الأخلاقية.
يبدأ مارياس لعبة تداخل الظلال بحادثة مفاجئة، تُخرج فيكتور من سلبيته التي يجتاز بواسطتها هذه الأزمنة القلقة المتسارعة. اذ يجد نفسه على غير توقع إلى جانب امرأة ميتة. امرأة لن يرى وجهها لاحقاً، وإنما سيذكر اسمها مارتا. ذكرى تلك الليلة التي تبدت فيها هزلية الموت وفلسفته، سيقلصها إلى حالة من سوء الحظ، وربما إلى حكاية، وبشكل أنبل إلى قصة، يمكنه أن يقصها على أصدقائه الحميمين، وذلك في خاتمة الزمان، حين تنمو درجة اللاواقع وتجعلها أرحم وأخف وطأة.
كان فيكتور كاتباً سينمائياً، لكنه انتهى إلى كتابة مسلسلات تلفزيونية بشكل دائم، معظمها يبقى بدون إخراج، لأنها مهمة عبثية، لكن يُدفع له أجرها بنوع من التبذير. إضافة إلى عمله ككاتب "أسود"، يكتب خطب السياسيين، التي لا يسمعها أحد. لذلك يستقر في وعيه أن انقضاء الأشياء يحوّلها إلى رقم، لا يفصح عنه شيء، سواء أكان السبب هو الخطأ أم الجهد أم تبكيت الضمير أوقفا الزمن الأسود.
رسالة مارتا، العشيقة الطارئة،  في الظهور والغياب/ الموت، تبدو كأنها توجه خطاه كيما يسير صوب والدها العجوز، ليجعل وجوده أقل هشاشة، ولينفخ في حياة مشرفة على الموت. من خلال العجوز يحظى بمقابلة السياسي المعروف سولوس الملقب بـ"الوحيد"، فيكلفه كتابة إحدى خطبه التي ستنتهي لاحقاً في أحد الأدراج من دون أن يسمعها أحد.
يدرك "الوحيد" أنه سيمضي إلى كتب التاريخ من غير أوصاف، أو ما هو أسوأ من ذلك، من غير وصف واحد. لذا يشعر بالحاجة لامتلاك صورة فنية، فهي التي يعتدّ بها في النهاية. مع سولوس تتعمق فكرة تداخل الحيوات والمصائر واختلاط الظلال: فكل الناس تفرض عليهم أشياء منذ البدء ويسوغ ذلك لهم جميعاً حتى إلى مدى متقدم من العمر نسبياً. فالأشياء هي هكذا ولا توجد وسيلة أخرى لترميمها. بذلك يبدو الماضي كأنه كان تحضيراً فقط، لندركه كلما ابتعدنا عنه، إلى أن ندركه إدراكا كاملاً في نهاية المطاف.
ينشغل فيكتور في كتابة الكلمات التي سيلقيها سولوس على الناس، على رغم أنه شخص سلبي اعتاد التلاشي كثيراً حتى كفّ أن يكون أحداً من الناس. تحت السلبية قد تتوارى أشياء كثيرة من بينها الخجل الذي هو صفة يعممها مارياس على الجميع، فنحن نخجل من أشياء جمة، مظهرنا ومعتقداتنا السابقة، سذاجتنا وجهلنا، ومن الخنوع أو الكبرياء التي نبديها ذات مرة. نخجل من التسامح ومن التشدد، ومن أشياء كثيرة نقترفها أو نقولها من غير اقتناع.
تكتسب الذكريات صفة مختلفة، باعتبار أن ذاكرتنا ليست ذات قدرة بصرية، وعين العقل هي تلك الصورة الغائبة في سراباتنا أو صور جهلنا أو اللعنة التي حلت علينا، إذ تجعل كل كائن حي خطراً أو ذا رغبات. من الذاكرة وما قد تحتويه ينتقل مارياس إلى الأسماء  التي لا تتبدل وتظل راسخة في الذاكرة، في حين تُنسى أشكال أصحابها وكأن الزمن يرصد الكلمات وتوالدها المستمر في هذه الحياة.
ينوه مارياس بارتباط الذكريات بالأسرار التي تغلف الناس وتجعل حيواتهم تتراوح بين الخيانة الإنكار المتواصلين. فالأسرار تغرقنا في الظلام إلى أن يمر الزمن ويتقدم بنا العمر فيقل ما نخفيه ويكثر ما نسترده من الملغيات السابقة. وإذا انتهت الأشياء يصبح لها رقم ويناط العالم بقصّاصيه ولكن لمدة ضئيلة، وليس على شكل كامل. إذ لا يستطيع أحد الخروج من الظلمة خروجاً تاماً، كما أن الآخرين لا ينتهي أمرهم ويوجد دائماً ما ينطوي عليه سر. تتأتى ميزة من يقص، من معرفة كيفية تسويغ نفسه. فالقص هو الإقناع أو الإفهام. ويمكن عدّه ضربا من الكرم، إذ يفتح الباب أمام الصفح والإغضاء والشفقة والتصالح مع الذات كحال زوج مارتا الذي تحرر من عبء جريمته حين قصّ تفاصيلها على فيكتور. وبدا التزامن بين موت مارتا ومقتل العشيقة كمكافئ للعبث.
الحوادث في هذه الرواية قليلة وهامشية وقد وجدت لتفسح المجال لسيل الكلمات المتدفقة أن يحتل مكانه ضمن هذا العمل الأدبي، مما يجعلها رواية أفكار تسعى لرصد تغيرات الزمن وصورته وتداخلات الأطياف الإنسانية ونزاعاتها داخل النفوس. يمكننا أن نعتبرها تأريخاً لمراحل تعثر الحضارة، إذ يبدو واضحاً أن مارياس يحيل كل شيء على العبث واللاجدوى: "ما أقل ما يبقى من كل فرد في هذا الزمن العبثي كالثلج الزلق، وما أقل ما له من ثبات. أما نحن فنرحل صوب تلاشينا ببطء لنعبر من فوق متن هذا الزمن أو قفاه حيث لا يستطيع المرء أن يظل مفكراً ولا يستطيع أن يظل مودعاً".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم