الذكرى الثانية لرحيل "صديقي" جبران تويني، مناسبة لتجديد العهد الذي كنا قد قطعناه معا، نحن مجموعة من الاصدقاء، جمعتنا قضية واحدة هي قضية الوطن، ان نبقى نعمل من أجلها مهما بلغت التضحيات. هذه القضية كنا نحملها، كل واحد منا من موقعه الخاص، فارتأينا ضرورة توحيد الجهود والعمل معا في سبيل إنجاحها.
لقد جمعتنا معا تجربة "لقاء قرنة شهوان" التي امتدت لفترة زادت على أربع سنوات وهي تجربة جديدة في حياتنا الوطنية. تجربة إحتار الكثيرون في تصنيفها، وبالتالي في التعامل معها. فلم تكن تشبه ما سبقها من التنظيمات المألوفة في حياتنا السياسية، لأن قرارات "اللقاء" كانت تتخذ بتوافق الجميع، برعاية المطران يوسف بشارة الحكيمة وبالاستناد الى ثوابت الكنيسة الوطنية. وهذا ما أمن استمرارية "اللقاء" طوال تلك الفترة المضطربة من حياتنا الوطنية، فلم يسهل تصنيفه تمهيدا للتعامل معه سلباً أم ايجاباً.
وكان محرك هذا "اللقاء" امانة السر، كان جبران تويني فاعلا في عدادها، واضعا مكتبه في جريدة "النهار" بتصرفها، فلم يبخل بوقته في سبيل تنظيم عملها وتفعيله، والأهم أنه أدخل على عملها ذهنية جديدة هي ذهنية فريق العمل من خلال التشاور والحوار والنقاش تمهيدا للتوافق حول موقف أو رأي أو تحرك.
وهكذا، عمل أعضاء امانة السر باسلوب جديد لتحقيق الثوابت التي اعلنها "اللقاء" في بيانه التأسيسي، هو اسلوب تغليب ذهنية فريق العمل على الذهنية الفردية السائدة، وتغليب المصلحة العامة على كل مصلحة خاصة، على اعتبار ان مصلحتنا تتحقق من خلال تحقيق المصلحة العامة وليس العكس، وعلى محاولة التواصل مع الناس عبر الاطر والاساليب المرنة لاشراكهم في الهم الوطني تمهيدا لانخراطهم في تحمل المسؤولية...
تمكن اللقاء من تحقيق أهداف كبيرة خلال فترة عمله، ولم يتمكن من الاستمرار لتحقيق أهداف وطنية اخرى لا تقل أهمية.
فقد كان "اللقاء" سباقا في مستويات ثلاثة:
- في مراجعة الحرب واستخلاص العبر والدروس منها. وكانت قد بدأت هذه المراجعة باكراً مع "السينودوس من أجل لبنان" الذي بدأ أعماله فور انتهاء القتال وزيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في العام 1997 واعلانه "الارشاد الرسولي" الذي إعتبر أن مصير المسيحيين مرتبط بمصير لبنان، وان يكون الهم الدائم الوحدة بين المسيحيين والخير العام للشعب كله، بذهنية جديدة، تأكيدا للوحدة واحتراما للتنوع.
- في معركة الاستقلال الذي أطلقها مجلس المطارنة الموارنة في بيانه الشهير في 20 أيلول 2000 والذي لعب فيها المسيحيون، من خلال إعادة تواصلهم مع المسلمين، دوراً حاسماً. عمل "اللقاء" منذ تأسيسه في 30 نيسان 2001 على مواجهة الاحباط وكسر حاجز الخوف وعلى اعادة المسيحيين الى العمل الوطني، وعمل على تأهيلهم لملاقاة شركائهم في الوطن على قواعد واضحة قائمة على الانفتاح والتواصل بدلا من الانغلاق والتقوقع. لأننا كنا وما نزال نؤمن أنه بوحدتنا الداخلية نستطيع ان نستعيد سيادتنا وقرارنا وكرامتنا.
- في ثورة الارز التي أدت الى خروج الجيش السوري من لبنان في حركة شعبية غير مسبوقة محققا هدفا أساسيا قام اللقاء من اجله وهو استرجاع السيادة والحرية والقرار الحر. وللمصادفة وعرفان التاريخ، كان خروج الجيش السوري من لبنان في الذكرى الرابعة لتأسيس "اللقاء".
***
من الامور الاساسية التي لم يتمكن "اللقاء" من معالجتها كان موضوع توحيد "الاجندات" الخاصة لأعضائه، ومن تحويل عمله عملاً مؤسساتياً عبر ايجاد مؤسسات تعمل بمشاركة جماعية لتوحيد الرؤية والاهداف والخطط بين مكوناته على كل مستويات العمل الوطني بالاستناد الى سلم قيم مشتركة. فبقي لقاء في حده الادنى كما يعبر عنه اسمه، خلافا لنظرة الناس التي رأت فيه مشروعا للتغيير والتحديث لمواجهة ما كانت تتخبط به من مشكلات وتحديات.
كان رهاننا لاحقاً، في ثورة الارز على عنصر الشباب، مستقبل لبنان. فعملنا على مواكبة حركتهم وعلى توفير ما يحتاجونه من رعاية ومساعدة ودعم. وضعتم، يا صديقي جبران، بتصرفهم مكاتبكم وإمكاناتكم وخبرتكم وخاصة رؤيتكم لوطن نفتخر بالانتماء اليه والى دولة حديثة تكون على صورتهم. وكنا نعمل للحد من تأثير الانقسامات السياسية عليهم وحثهم على التواصل بين جميع مكونات المجتمع اللبناني من دون تفرقة أو تمييز، وعلى ترسيخ هذه العلاقة من خلال اعتماد مشاريع مشتركة لتكون العلاقة أكثر صلابة لمتابعة مسيرة الاستقلال وصولا لبناء دولة الحق، دولة حديثة تليق بأبنائها... وما زال صوتك يدوي في 14 أذار، وساحة الحرية تردد القسم بأننا سنبقى موحدين الى ابد الآبدين دفاعا عن لبنان العظيم.
نتذكرك يا صديقي جبران والانقسام اللبناني اليوم أكثر عمقاً من ذاك الذي حدث في أذار 2005، ومسيرة شهداء انتفاضة الاستقلال لم تتوقف منذ محاولة استهداف مروان حمادة ومي شدياق واغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل ووليد عيدو وانطوان غانم.
وليست صدفة أن يقدم "لقاء قرنة شهوان" ثلاثة شهداء من أعضائه ليبقى لبنان... لأننا سعينا الى إعادة التواصل واللحمة بين اللبنانيين والى تغيير في الذهنية، لا بل الى ثورة حقيقية لاعادة الاعتبار الى الحقوق الأساسية، لكل طرف وللجميع في آن معا، وهي:
- حق العيش بسلام في بلد مستقل، لا يكون "ورقة" في يد قوى إقليمية أو دولية، ولا "ساحة مفتوحة" لصراع الآخرين على أرضه. إذ في الامكان من منظور السلام، المناداة بحياد إيجابي لبلدهم، وأن يساهموا مع البلدان العربية الأخرى في إنتاج مشروع ثقافي من شأنه أن يُخرج العالم العربي من الأزمة التي يتخبّط فيها، ويصالحه مع نفسه ومع العالم.
- حق العيش في ظل دولة سيدة، يُناط بها وحدها اتخاذ القرارات التي تشمل بمفاعيلها جميع المواطنين، ولها الحق الحصري في امتلاك القوة المسلحة واستخدامها.
- حق العيش في دولة تقوم على الحق، وتحترم القوانين التي يسنّها المواطنون من خلال ممثليهم المنتخبين ديموقراطياً، ويخضع حكامها أنفسهم لأحكام القوانين العامة وتتيح للمواطنين أشكالاً كثيرة من المشاركة عبر هيئات لحظها اتفاق الطائف.
- حق العيش في دولة لا تبقى خاضعة على الدوام لنزاعات زعماء الطوائف، دولة ينبغي لها أن تمارس سيادتها على الطوائف نفسها، مع احترام التنوع الديني والثقافي الذي يؤمن انفتاح المجتمع اللبناني على عوالم مختلفة.
- حق العيش في مجتمع منفتح على العالم، لأن جاذبية لبنان وإشعاعه في محيطه العربي يتأتيان من أسلوبه في العيش معاً الذي يمثل مساهمة حقيقية في إغناء التجربة الانسانية وفي اختبار قدرة الانسان على التفاعل مع الآخر المختلف.
لقد أدركت يا صديقي جبران أنه لم يعد ممكنا معالجة اوضاعنا بالطرق التقليدية وبمزيد من التردد والانتظار، فقمت بمواكبة ثورة المعلوماتية داخل "النهار"، مقدما المثال والنموذج، مستفيدا من الميزات التفاضلية التي يتمتع بها لبنان، المعروف بتقاليده وبنيته التعليمية والجامعية والاكاديمية وبالمستوى الرفيع للعلوم والمعارف، ومن تجربته العريقة على صعيد الطباعة والنشر والكتابة والتأليف الموسيقي والغنائي وصناعة الاعلان والدعاية. وكلها ابداع فكري كالمعلوماتية التي هي اليوم التعبير المعاصر عن ريادته النهضوية الجديدة في قلب عالمه العربي بعدما كان الابداع الادبي واللغوي والفكري والصحافي ريادته الاولى في نهضة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
كم نحتاج يا صديقي جبران ان نستلهم تجربتك من أجل اجتراح الحلم اللبناني والتمرد على الواقع المفروض، حماية للجمهورية ومؤسساتها، وإعادة الاعتبار لنظام القيم الذي تعرض الى تدمير منهجي والذي من دونه لا يمكن تأمين الضوابط الأخلاقية لتنظيم حركة المجتمع والوفاء للتطلعات الفعلية لشعب الاستقلال واستخلاص العبر من أخطاء الماضي التي تمحورت بمجملها حول الأولوية المعطاة للهم السياسي والآني على الهم الوطني والمستقبلي. نفتقدك اليوم، يا صديقي جبران، ونستلهم ذكرياتنا المشتركة لانك ستبقى دائما معنا وبيننا... سائلين الله أن يمن علينا دائما باشخاص على استعداد للتضحية بحياتهم ليبقى لبنان الى ابد الآبدين... آمين.