الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"أغرب حكاية في حياتك" لشيترا ديفا كاروني: قصص الكارما وبوّاباتها السحرية

جينا سلطان
A+ A-

تبحث الكاتبة الهندية المعاصرة شيترا ديفا كاروني في روايتها، "أغرب حكاية في حياتك"، عن التغيير الذي يأتي من داخل الإنسان، فيخترق الجمود والتمترس بسلسلة من التداعيات تؤمّن تعديلا جذريا في دائرة الكارما المصيرية الفردية والجمعية. وتلعب القصص التبادلية بين الأبطال دور مخفف للصدمات الذي تثيره كلمة الكارما في النفس، وما يرتبط بها من مخاوف وانزلاقات قدرية مباغتة.


تدور الرواية حول تجمع أشخاص من أصول عرقية مختلفة. يجدون أنفسهم محتجزين داخل القنصلية الهندية في أميركا إثر زلزال مفاجئ. يلجأون إلى تجديد الطاقة من خلال رواية الحكايات الاستثنائية التي صنعت التغيير الحقيقي في حياة كل منهم، لتجاوز حالة الهلع وردود الأفعال العنيفة. وقد أضفى التناوب بين قصص الشيوخ والشباب على الرواية، حيوية مدهشة وسّعت طيف التغيير الحقيقي.
كانت ليلي المراهقة الصينية الأميركية الأولى التي استعادت ايقاعها وبدأت بتفهم الطبيعة الذاتية للحطام. أما بريدشت المحاسب السبعيني الذي كان يعشق الشكليات الرسمية، فقد انذهل من تواتر الذكريات ومن كل ما كان يرغب في سكبه في الحضن المريح للعتمة. بينما تجاوزت جيانغ، جدة ليلي، حالة الارباك وتطوعت لتقص حكايتها التي تمحورت حول عشق جنوني تجمّد ضمن لانهائية القدر. حبّ ملتهب منبوذ اجتماعيا، جمع بين شاب بنغالي هندوسي وشابة صينية في الحي الصيني بكالكوتا. ثم تكفلت الحرب الصينية الهندية توفير ذريعة ملائمة للفراق. اذ ترك الكثير من الصينيين ثرواتهم وغادروا الى وطنهم. زُوِّجت جيانغ سريعاً لعازب مسنّ متجه الى اميركا. وبقيت الحكاية مضيئة تدور من دون نهاية حول نفسها، حتى فجرت جيانغ المفاجأة، فأفصحت عن حبها الخافت لزوجها الذي اخترق معاناتها بصمت.
انبعث من رواية بريدشت، احساس بجرح لم يندمل، صاغ حالاً من العري والهشاشة والخذلان. فالطفل اليتيم الذي كانه، لم يحظَ بالحنان من والدته العاملة المنهكة، فتعلّق بقط شارد صغير. لكن القط مات اختناقا في لحظة اهمال، فلم يجد أمامه كعزاء سوى العمليات الحسابية التي استغرق فيها بلا انقطاع، فتحولت الكلمات بفضلها الى ارقام جديرة بالثقة، يشعّ منها ضوء مسكّن لا ينكسر، طالما واظب على الانتباه الكلي لها.
اختارت مالاتي الهندية أن تروي القصة التي اظهرت فيها شجاعتها للمرة الوحيدة في حياتها والتي كلفتها عملها كاختصاصية تجميل ممتازة، حيث تسببت عمدا بسقوط شعر سيدة ثرية دبّرت خطة ماكيافيلية لخادمتها الحسناء. في المقابل أفصحت قصة مواطنها الشاب طارق، عن حالة التمزق بين عدائية المجتمع الأميركي وانتهازية الجماعات الاسلامية. أما قصة ليلي المراهقة فتعيدنا إلى تخبط المرحلة الحرجة بين الطفولة والبلوغ، التي تتلون بالغيرة والتمرد الجامح، لتنتهي بالشغف الموسيقي العميق. يحدث التغيير الأجمل حين تعزف لحناً حزيناً في ركن من الحديقة العامة، يُدخل السرور إلى قلب طفل مشوّه، فتواصل العزف بالتفاف مبهج يفتح حياتها على آفاق جديدة مبشرة. شغف ليلي يلامس السيدة بريدشت بالعمق ويجعل ذكرى شغفها بالطهي تطفو على السطح، فتصاب بالهلع مخافة أن تموت قبل أن تحكي حكايتها.
حققت دورة الكارما استدارة واضحة في قصة الهندي مانغالام، من ولادته في عائلة فقيرة وارتفاعه السريع في السلّم الاجتماعي بفعل وسامته وتفوقه، ثم نجاحه في الزواج من الابنة الوحيدة لرجل ثري عرف كيف يناور ويدير لعبة الحياة، وصولا إلى سقوطه الأخلاقي وفقدانه الجانب الإنساني المشرق. وبسبب افتقاره لروح البطل عجز عن مواجهة زوجته واذلالها، فانساق وراء مغامرات هدفها التشهير والاستهزاء بها، فأرسله والدها إلى القنصلية الهندية في أميركا. عند حدوث الزلزال أدرك عمق انحداره الأخلاقي في تعامله مع النساء، فاعتذر لمالاتي التي سبق وأغواها.
تحدث الجميع عن وقائع معينة حطمت حياة بكاملها في يوم واحد. حرب، خيانة، اغراء، موت. اما في ما يخص فيفيان، زوجة بريدشت، فقد انقلبت حياتها في ثانية واحدة، بسبب عجوز لا تعرفه، كان يساعد زوجته في خلع معطفها. فقد اربكتها تلك اللقطة التي سحب فيها الرجل ذرة الغبار عن كم زوجته العجوز، والاهتمام وراء هذه الحركة، فعزمت على الانتحار، إذ تبينت لها محدودية افق حياتها كتتابع ملذات بورجوازية.
حوّل كاميرون الحقيقة الصعبة لحياته كأفرو أميركي فقير، الى ورقة رابحة. وحين تنصل من أبوّته رمت عليه عشيقته لعنة فودو ثم أجهضت طفلهما. فشل في دراسته واضطر للالتحاق بالجيش ليحارب في الادغال الفيتنامية. منذ غادر الجيش لم تستطع نشاطاته المتمثلة في مد يد المساعدة للمسنين الى تقديم الحساء للمشردين، واعطاء المال للجمعيات المساعدة للأطفال المضطهدين، ان تضع حدا لكوابيسه. التقى راهبا بوذيا علمانيا في ملجأ، ساعده على سد الثغرة الناقصة في دورته التكفيرية. فكاميرون قدّم ما باستطاعته كي يكفّر عن اعماله في الحرب، لكنه لم يتوصل بعد للتكفير عن الاجهاض. لذلك تبنى طفلة صغيرة في الجبال الهندية، وارسل المال اللازم ليصبح عرّابها. وحين غدت في الثامنة طلب السماح له بزيارتها، متأملا ان يسمحوا له بالعمل في الميتم ليكون قريبا منها لان القوانين لن تسمح له بتبنيها كونه عازباً وافرو اميركيا.
القصة الأخيرة خصصت لإيما الأميركية الهندية، التي عاينت أخطار التعلق بالجذور باعتباره أسوأ الخيانات التي نقوم بها في حق ذواتنا. جنّبها الادراك المبكر لهذه الحقيقة تداعيات مغامرة محكومة بالفشل. قصتها، من التمرد والاستقلالية المبكرة إلى صدمة الانفصال بين والديها، تلخّص الانطباع العام للرواية الذي يتبنى مقولة "كل إنسان يتحكم بحياته فقط"، أي أن التغيير الداخلي هو مقدمة للتغيير الخارجي. وهذا النوع من الوعي يمثل لمعة الإشراق التي تفعّل التغيير الروائي سواء قبلنا بصدقية القصص أم اكتفينا بتتبع مسارات الكارما بين طياتها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم