الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

شعر - لا أملك الشجاعة أمام امرأةٍ تتزيّن بوعودٍ جمّة للسهر

ابرهيم زولي
A+ A-

متاهة


أولئك الذين كان باستطاعتهم أن يقتفوا أثري، لم يكونوا على بيّنةٍ من الخطر الأعشى المعرّش برأسي، ومن الشبق الرخيص الذي يضجّ في الجسد. فانوسٌ واحد كان يزيّن وجهي، كما لو أنني في جهات الأرض كلها، أؤلّف متاهةً بيني وبينهم (متاهة بالمعنى الحرفي للمفردة). بهذه الطريقة كنت أكتب أول فصولي الملحمية، أروّض العواصف التي لا تعدّ ولا تحصى في كتاب الجغرافيا. ما لم أخطئ، فالمياه تبقى مسفوحة على الدوام، تغرق سواحل القصيدة، ثمّ تغلق الأبواب. غالباً، يكون في الخارج سأمٌ هائل، حياة، ليست جديرة بالحياة، زهر اصطناعي على طاولة العزلة، مطر، لا توجد معلومات فلكية عن نسبه المجهول، ألمٌ يفضّل التفرّغ لسرد كآبته. عدا ذلك، فإن الحذف مستمرّ لكلمة الليل، الليل الذي لا علاقة له بكلّ هذا الوقار الموروث، الوقار المتيقّظ حتى آخر ساعات المجابهة. على الرغم من انعدام أيّ إحساسٍ لي بالإثم، فإن الليل يبدو في حالٍ مثالية، حالٍ لا تثير لديَّ أيّ إحساس بالشفقة (كما لو كان هذا شيئا ذا بال). في الظلمة، قذفتُ بهذا الوحش الأبله، هذا المتمرّد على مستقبله الصحّي، وتحمّلتُ وحيدا، بقيّة قبح العالم.
* * *


لهفة مغشوشة
هذا العطش اليافع يصحبني باستمرار. في المرة الأولى اعتقدتُ أنها هلوسات، بما أني كنت أفكر في كتابة نصّ كافكاوي، عن مدنٍ في الجنوب تستحثّ المجاعة لممارسة دورها الطبيعي في استعراض الخراب بلذّةٍ خاصة. العطش المدلّل كان يسرد لي بعض القصص، عن تكدّس الآمال على قارعة الأزقّة، عن حقائق تقبع أسيرةً خلف القضبان، عن تعبٍ يهدّه الفقراء. هذا العطش يغدق عليّ الوجع، تورطتُ معه بالمصادفة، في مقاضاة هجرة الأصابع غير الشرعيّة بين لوحة المفاتيح، فينقض المعاهدة الأبدية بين الخبز والملح. عطشٌ لا يتوقف عن الاستبداد منذ بداية عمله اليومي في ساعات النهار الأولى.
من الأشياء التي لم أفهمها: رجوعه إلى مأواه في بعض المساءات محطّماً، وهو يغطس في مستنقع الخيبة، يرعب الجيران بعوائه الجريح، ويفزع كائنات الليل الأخرى التي تشاركه الغاية نفسها. ومع أني لا أشعر بالظمأ كثيراً حتى الساعة؛ كنتُ أحترمُ همّته في نشر البشاعة، في القدرة على الدوران بالاتجاه نفسه، في عقد علاقة بين التصوّف والموسيقى بهدوء تام، في الألفة بين الطرق الآخذة في الظمأ، والرؤوس المفخخة بالضجيج.
من ذا الذي أضفى عليك يا أيها العطش المستبدّ، هذه الغريزة المضطربة، الغريزة المثيرة للحمّى والسخرية. مارسْتُ لثغة فصاحته، تمتمتُ بشعائره الثلجية، وتوضّأتُ بمياهه الباسلة. قاسمْتُه اللهفة التي وهبني إياها لإغاثة الموتى قبل انقضاء الأجل، اللهفة المغشوشة بحسن النية، اللهفة المقطّبة حاجبيها وهي تجتاز فضيلتها المكبوتة، اللهفة الأكثر جرأة في التصريح بغزارة الدمع، وكمد الموجة المالحة.
* * *


مالئ الدنيا
الأعمى الذي كان ينظر إلى قصائد المتنبي، تخلّى عن مهمّته، مقابل تعلّمه القراءة على طريقة برايل. الرجل الأصمّ، من كان يصيخ السمع إلى نصوصه، بدا في الذهاب إلى صالة الديسكو كل مساء، والرقص منتشياً على وقع الراب الصاخب.
ذلك كله، لم يكن يسبب الإزعاج لأبي الطيب، بسبب تفهّمه للتحولات الكبرى، وقراءته المستقبلية لسيرورة التاريخ، إلى الدرجة التي دافع فيها مرّةً عن قصيدة النثر في أحد المهرجانات الوطنية. كان يفعل ذلك انتصاراً لفكرة النبوة التي يشاع أنه يدّعيها خفية، في إضفاء معنى الأبوّة الشعرية على ذهنية المتلقي، وعلى سلالته من الشعراء الذين يتعاطون القصيدة بطريقة خارجة عن المألوف والسائد. غير أن ما أثار حفيظته، كان حجب الصفحة الشخصية التي أنشأها باسمه "المتنبّي" على الـ"فايسبوك"، بحجة احتقار الأديان، والتحريض على معاداة السامية، الأمر الذي دفعه إلى تحرير بيانٍ ثوري، ورفْعه إلى مقام سيف الدولة.
* * *


الضفّة المقابلة
الألم الذي يترصّد المارة كل صباح، يسألهم عن آخر الأخبار، يستقلّ معهم سيارات الأجرة، ويردّ التحيّة بأحسن منها. الألم الذي ينتظر المعجزات، للزهو بهذا الركض المزمن في الضفّة المقابلة للفرح، للتخلص من ثياب تتفرّغ للوظيفة في دولاب الملابس (كنوع من ترضية الذات)، من موتى باتوا لا يفضّلون الإقامة بمفردهم خارج حدود المدينة، من هذا التسول المخجل في استجداء المعنى. لا خلاص لنا من هذا القدر الأبدي، من هذا الألم الذي يتمثّل في معاطف الفتيات، في التفاصيل غير المتوقعة، في المرارات الكبرى الذاهبة إلى نهايتها. الألم الذي يميل إلى تفعيل الخيبات، لم يكن صديقاً بما يكفي، لم يكن قارب نجاة يتضرع به الغرقى، الألم الذي احتطبنا جذوعه من ضواحي الأغنيات، استودعناه صبانا وشجرنا المديد، آويناه حكاياتنا الفاقعة الغربة. راح يمطر بالقحط أرواحنا، ويعِد الأحفاد بالفواجع الطويلة. كان بريقه الشاحب يغمر الضحكات، يومض في سماء الخديعة، يتحسس بين حين وآخر جيوب الوقت، واقفاً أمام الذكرى، يضع يده على مهد طفولتنا، من دون أن يتحسس الدفء عقب سقوطه من أعلى القسوة مغشيّاً عليه. لن نضرب له موعداً بعد اليوم، ولسنا مستعدين لاستقبال نزلاء آخرين. أغلقنا النوافذ التي نتورط معها، في تقديم الصدقات إلى الهامش، في امتداح النهارات الواقفة على الحياد. غير أن أقداماً غليظة كانت تجثم على صدري، وتركل السرير بغضب فظّ.
* * *


يظهر محتشماً في لقطة افتتاحية
صباحاً، تبدأ الكلمات وظيفتها في تنقية الدم من شيطنة البارحة، وتنظيف ما علق به من روائح كريهة. لكن، ما لم يخطر على البال، تلك الحشود الغريبة في منازعة الدم استقلاله، وطهارته، حتى لا يرجع (كيوم ولدته أمه) من تشرّده الطازج طافت الكلمات عليه، الكلمات المدجّجة بالاستعارة، بالرماد الكامن في جوف اللغة. كان هناك أيضاً، من يقفون على ضفّة الصدى، (خصوم الزعفران والوله القروي). قلت للدم: افتح المزلاج، اغمس الشعلة بحوافرك الجريحة، ارم ما تقدم من ذنبك وراء ظهرك، هناك، حيث لا تجوع ولا تعرى، أرح السيل المعسكر في جوفك، لا مناص سوى اللهب الفصيح، هات وجهك للتدفئة، لمواكب تتحلّق حولك في هيبة باردة، تمارس مغتبطةً الرقصة الأخيرة قبل القيامة. لا جدوى من حنان يتهاوى على عجل من فرط محبته، حنان يظهر محتشماً في لقطة افتتاحية على فيلم وثائقي. ما من مبرّر لتوظيف العداوة في مشهد يهتف بالطوفان والزلزلة. بدا واضحاً التدفّق الهائل لجموع الكائنات في خوض هذه التجربة الطاحنة، التي تدور في ساعات الضحى الأولى، ما جعل الكلمات شريكة في صناعة دم جديد، لا مجرّد شاهد عيان، كما افترض الذين كانوا يتأهّبون لإسقاط القصيدة.
* * *


مائدة لا تبرّر الفاقة
حاولْ مرة أخرى أن تعرف الفرق بين النبات والبنات، بين البحر والحبر، بين الهوى والهوان. حاولْ أن تكتب الأشياء كما هي من دون برهنة أو بلاغة (كم يبدو صعباً أن تقول ذلك). اتبعِ الشوارع ذاتها في التنكّر بدناءة السرّ الوحيد الذي تعرفه: كيف تسدل الستائر على الصقيل من الكلام، وتنام بطريقة مصمّمة بالمهانة. لا أشدّ كآبةً من ترتيب حجرتك العائلية لأجل هدفٍ واحد، هدفٍ مضاء بمصابيح الترف، هدفٍ يعيش كمواطن شحاذ، كغيمٍ يستغل لوعة الأشجار، كسياجٍ يشرع في التحرّر.على رغم أن قوافل المخيّلة لا تبدو قريبة الوصول، أردتُ التقدّم إلى البحر، ملاقاته وجها لوجه، الذهاب إلى البيادر التي تذروها الزوابع، الجلوس إلى مائدة لا تبرّر الفاقة. معذّبٌ أنا بهذا الصراط الأعوج، بكراهيةٍ تمارس الإثم الشرعي، بقلقٍ مسترخٍ من دون حسابٍ للطوارئ، بضجرٍ يتسوّل ما يفيض من فتات الفرح. لا أملك أسباباً مشروعة للهذيان، لسقوط ضحكتها المدوّي في بئر الذكريات، لا أملك الشجاعة أمام امرأةٍ تتزيّن بوعودٍ جمّة للسهر. كلما التقيتُ برغبةٍ، وهبتُ روحي غنيمةً لها. ذلك كان يفوق مجدي، ويجبر الحنين على الوقوف في المنعطف الآخر من الطريق.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم