السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "عشاق السماء والدماء" لرها جامور أوغلو: عشق الحرب وحرب العشق الإلهي

جينا سلطان
A+ A-

يقوم الكاتب التركي رها جامور أوغلو في روايته "عشاق السماء والدماء" بسياحة تاريخية اجتماعية في حقبة زمنية قديمة، متعقباً جذور التدليس العثماني وانعكاساته الأخلاقية، متخذاً لطرحه منهجاً يزاوج بين حدَّي التاريخ والحكمة الصوفية، بحيث تثير رؤيته الفكرية تساؤلاً خفياً حول أحقية تورط الصوفيين في عقيدة القتال.


يُدخلنا أوغلو في عوالم روايته الملحمية من خلال حكاية قروي روسي شاب يدعى بترو، يساق إلى الجندية إبان الحرب الروسية التركية في العام 1769، فيقع أسيراً مع خمسين شابا مسيحيا في قبضة الانكشاريين التابعين لتشكيل الحاج بكداش الصوفي. ينتقيه القائد عارف أغا ليعتقه من مصير العبودية ويتبنّاه ليتصادف يوم أسره مع ولادة ابنه الوحيد ثابت الذي أعقب ثلاث بنات، فتبدأ رحلته المميزة مع أتباع الطريقة البكداشية وأشكال احتفائهم بالخالق، وجلساتهم المتناغمة التي تنتهي بعزف الموسيقى، وعلاقتهم الملتبسة بالسلطة الدينية الحاكمة وما يرتبط بها من حروب ودسائس ومؤامرات.
شهد العام 1772 الكثير من التغيرات منها زواج بترو من ابنة عارف آغا، وتوليه الاشراف على حياة ثابت وتعليمه في التكية تحت إرشاد أحمد بابا. زاد في ذلك العام نفوذ طبقة العلماء (المشايخ) بعدما شكلوا احياء مغلقة حول الجوامع والمدارس، لا يدخلها الانكشارية، فكل طرف لا يستسيغ حياة الاخر او يتقبله. وهذا ما كان يولد الشحناء في سائر الاوساط ويبعث التوجس المعلق بين الطرفين.
يصف بترو اول حادثة تصادم بين المعسكرين بافتعال شجار وقتل انكشاري متقاعد ثم الثأر لحفظ هيبة التشكيل امام العلماء والقصر. وهي معركة استغرقت نصف ساعة، نقل بعدها كل طرف الجرحى والقتلى من دون تصادم. ثم رشّ ناسكٌ بكداشي دلاء الماء فوق بقع الدماء على الطريق لينظف الارض بعناية فائقة. ثم انسحب الطرفان الى مناطقهما وقد بان للمتأمل عدم جدوى اشكال اللقاء بل وضررها ايضا. ثمّ انتشر الناس لشرب القهوة والتبغ. وبعد ساعات نزلت الى الميدان صنوف الشراب واجساد الغانيات، مما جعل هذه اللعبة الدموية ضرباً من ضروب اللهو.
بدأت سنوات المحنة والاضطراب في الممالك العثمانية في العام 1787 باحتضار مرشد بترو الروحي أحمد بابا الذي يتجلى فضل اقواله في اغناء الفكر واذكاء شعلة التأمل وتحفيز العقل. ومع اعلان السلطان الحرب على روسيا، بدأ الامراء والباشوات يفاوضون قادة الجيش على ابناء كثر خلال الحملة العسكرية كلها، فبات النهوض بالعمل العسكري يقع على كاهل القوات الانكشارية. بينما اختص الجيش الملكي بالدفاع عن السلطان وقمع التمرد والشغب. وفي القصر انشغلت الحاشية بالدسائس ليخرج الذئاب من كل طائفة وفئة رابحين غانمين.
بنى العثمانيون نظاماً معهوداً للغنائم والأسلاب يشمل توزيع الحصص من أصغر جندي إلى الجنرالات والصدر الأعظم وصولاً إلى السلطان. وهذا ما حوّل النصر إلى عصيان. فالجيش الذي دحر النمسا انهزم امام الحرص والطمع والشهوة. اما في اسطنبول فتكالب التجار على جني المال والثروة باحتكار السلع وبيعها بأسلوب ملتوٍ. وشاركهم فلول عناصر الانكشارية في التشكيل. إذ كانوا يجمعون الغنائم التي ترد من الجيش وينسّقون مع الهاربين فيزدادون غنى. وبدأت اعداد المحاربين بالتناقص يوماً اثر يوم بسبب الحروب المتوالية. أما الباعة والحرفيون الذين يسمّون انكشاريين فقد كانوا يزدادون بكثرة مفرطة وكان السلطان يترقب هذا التحول. وبات العلماء خصوماً في العلن. أما ثابت فقاتل مع الفدائيين لنصرة الدولة وتدرج في المناصب العسكرية حتى سقطت مقدسات حياته العظيمة. لان القضية شرف لا يستحقه الا الانسان الكبير، الذي يسعى في سبيل الحقيقة.
اتخذت التطورات منحى خطيراً مع ظهور النزعة الانفصالية اليونانية في العام 1821. واستغل المشايخ الوضع لتذكير الأهالي بإلحاد البكداشيين. بدأ عهد تدشين الجوامع وزيادة الوقف ونهب الاموال العامة تحت مسمّى الضرائب الجديدة. ونشبت الصدامات الاسلامية المسيحية. ومن كانوا رعايا تابعين سابقاً اصبحوا شعوباً مستقلة، بينما بقي البكداشيون مجرد انكشاريين. تحرروا من ربقة العبودية الطقسية فكرياً، ليسقطوا في مستنقع عبودية المهنة. ثم استنسخ السلطان الانقلاب الفرنسي في العام 1826 نزولاً عند مطلب سفراء الغرب لإزالة التشكيل الذي ظل حارس الامبراطورية. وتحولت الحرب العثمانية ضد الكفار الى ملاحدة الداخل وتم تسليح الطرف الاخر، ليضيع تشكيل عسكري عمره مئات السنين في ساعات. أبيدت الجماعة عن بكرة أبيها من المحاربين إلى الدراويش، ونبشت قبور موتاهم من الانكشارية ودمِّرت التكايا والمقاهي. خلدت فقط صيحة غريبة مدوية بلغت عنان السماء!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم