الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"أين الخطأ؟" مرةً أخرى

رامي زيدان
A+ A-

في منتصف الثمانينات، من القرن الماضي، قرأتُ، حين كنت فتى يافعاً، خبراً في إحدى المجلات العربية القليلة التي تصل إلى مكتبة بلدتي النائية، عن سحب كتاب "أين الخطأ؟" للشيخ عبدالله العلايلي من التداول، بعد ضغوط مارستها جهات دينية (داعشية) عربية بسبب مضمونه الذي يتطرق إلى قضايا حساسة. بقي عنوان الكتاب عالقاً وراسخاً في ذاكرتي كأنه منحوت على صخرة، إلى أن أتيتُ إلى بيروت باحثاً عن أحلامي أو هارباً من مللي المتراكم. في المدينة، أنا المندفع الجائع إلى قراءة الكتب، كانت المصادفة أني عثرتُ على الكتاب بطبعة جديدة في أول بسطة كتب وصلتُ إليها في شارع الحمرا، الذي كانت اثار الحرب بادية عليه، وتسيطر عليه الرثاثة والعشوائية والفوضى والمجلات الصفراء.


بدا "أين الخطأ؟"، كأنه "يصرخ" من بين الكتب. كأن رسوخ خبر منعه جعل له هالته الخاصة بالنسبة لي، الى جانب أني كنت مندفعاً إلى الكتب الممنوعة من باب الفضول والتحدي، ومن باب رفض الانغلاق الديني، بل رفض الدين برمته، مع أن المجتمع كان في تلك الفترة أقلّ تديناً. قرأتُ "أين الخطأ؟" بحماسة الباحث عن التجدد، وفيه يقارب العلايلي الجمود الذي أصاب المسلمين في مقاربتهم لدينهم. ويحاول ان يخدم الحداثة الإسلامية في مجال الشريعة الإسلامية، فيقول في تقديم مباحثه: "يجمعها (أي المباحث) سلك دقيق هو كيف يجدر بنا أن نعالج الشريعة العملية من جديد توصلاً الى حصيلة يمكن أن تكون أساساً لتقديم الشريعة، تقديم "الفكروية: الإيديولوجية الحادية لعناصر الخلاص في المضمار الاجتماعي العام".
اهتم العلايلي بشكل خاص بمواضيع مثل إباحة التعامل المصرفي الربوي، وأن لا رجم في الإسلام، ولا قطع ولا جلد إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها، وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم ونسائهم حلال شرعاً! يفسر التجديد بأنه "دستور كامل لحركية الشريعة و(ديناميتها) في مجال صيرورة الزمن، فهو تجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل"، ويقول: "فلا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة، بل تبدلية عامة دائمة، وكل توقف في التكيف داخل أطر، يصيب الأفراد والجماعات بتحجر، يؤول الى حتمية تخلف، بل انحدار ذريع". فالتجديد في نظر العلايلي تبدل وتغيّر وتشكّل وتكيّف في الشريعة إزاء الظروف المتغيرة أبداً.
من يتأمل المشكلات التي عالجها العلايلي في أبحاثه، يلاحظ أنها لا تزال عالقة بقوة في المجتمعات العربية الاسلامية، وخصوصا مع تفشي المرض "الداعشي"، وقبله "القاعدي". ثمة رمزية لكتاب "أين الخطأ؟" في الزمان والمكان. فالكتاب صدر في بيروت، المدينة الحرة التي لطالما تعرضت للضغوط الخارجية لأنها خارجة عن دائرة قطيع الشمولية، واستسلمت أكثر من مرة للابتزاز ورحّلت الكاتب السعودي عبدالله القصيمي بسبب مواقفه. لا يختلف الأمر مع كتاب "أين الخطأ؟" من دون أن ننسى الممنوعات الكثيرة في زمن الوصاية السورية. ومن حيث الزمان، صدر كتاب العلايلي الاصلاحي والتحديثي في مرحلة شهد العالم فيها اتجاهات نحو التطرف والتحول. فلبنان كان على موعد مع خطف السيد موسى الصدر، بعد اغتيال الزعيم اليساري الدرزي كمال جنبلاط 1977. وايران كانت على موعد مع الثورة الخمينية في العام 1979 التي أيدها الكثير من المثقفين بشكل ملتبس، والاتحاد السوفياتي غزا افغانستان، وشهدت مصر اغتيال الرئيس انور السادات، وتمثلت ذروة هذه الحوادث في الاجتياح الاسرائيلي لبيروت العام 1982. بين كل هذه الوقائع الكبيرة تنامى حضور التطرف الديني الاسلامي، أولاً في "حزب الله" التابع للحرس الثوري الايراني، وثانياً في المجاهدين الافغان المدعومين من بعض العرب والأميركيين في مواجهة المد الشيوعي، وقد أسسوا لموجة "الجهاد العالمي" (الارهابي)، من دون أن ننسى الحضور "الأخواني" في مصر وسوريا. وسط هذه المعمعات منع كتاب العلايلي واتهم بالشيوعية وبأنه "مقلّد لمذاهب من خرج عن جادة أهل السنّة والجماعة عن غير دليل"، وألف حجة وحجة ضد كتاب كان يبحث عن الضوء في زمن الصنمية الدينية.
يقول الباحث وجيه كوثراني إن "كتاب "أين الخطأ؟" الذي صدر في طبعته الأولى في العام 1978 (دار العلم للملايين)، ثم صدر في طبعته الثانية في العام 1992 (دار الجديد)، وفي الحالين والمرحلتين يبدو لي أن آراء الشيخ التجديدية في مجال الفقه الإسلامي لم تحظ بالاهتمام الكافي ولم تشع كما شاعت اجتهاداته اللغوية. وربما كان لهذا التعتيم على فقه الشيخ أسباب متعددة ومن مواقع مختلفة: من موقع التقليديين والمحافظين والجامدين الذين سخطوا على الشيخ وحاصروا فكره الفقهي وحاربوه. وربما من موقع الحداثيين الذين لم ينتبهوا في غضون الستينات والسبعينات، الى أن الحداثة الأوروبية في مسارها التاريخي، بدأت بإصلاح ديني وتطوير في العقليات والذهنيات والمناهج، فغاب عنهم هذا الهمّ الأخير وأغفلوا من حاول التجديد في مجال الفقه واهتموا بمجالاتهم واختصاصاتهم الخاصة وحسبوا أن "الرجعية الدينية" تتراجع وحدها بـ"تقدمهم" وحدهم.
بعد عقود، دفع غلاة الدين، ثمن حجب أفكار العلايلي غالياً. في المرة الأولى، كانت "ثمرة" السلطة الدينية، تنظيم "القاعدة"، والآن التنظيم "الداعشي"، وبينهما "الحالشي". في غمرة ما نحن فيه، بات ملحّاً على السلطة الدينية التي شكّلت منبعاً للارهاب، أن تبحث عن شخصيات مثل العلايلي لتنقذ وجودها ومجتمعها. صار العلايلي المتنور والتجديدي أشبه بالغريب. لكنه صار أيضاً ضرورة قصوى لإخراج العرب من الانقراض بسبب المرض "الداعشي".
كتاب "أين الخطأ؟"، وإن كان "الأجرأ" في مسيرة العلايلي وفي الوسط الديني، يمثّل في الواقع نقطة في بحر كتبه الموسوعية، وشخصيته المتعددة، وسيرته المتشعبة، فهو البيروتي والسنّي والمتنور والموسوعي الذي كتب عن "تاريخ الحسين"، الرمز الاسلامي عموماً، والشيعي خصوصاً، وهو العلاّمة المتديّن الذي اختار أبا العلاء المعري "المؤمن والملحد" والملتبس بين الفلسفة والشعر، ليدوّن عنه كتابه "ذلك المجهول"، وهو الأزهري الذي اختار أن يشارك في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي مع كمال جنبلاط ومجموعة من العلمانيين، وهو المسلم الذي لقِّب بـ"الشيخ الاحمر"، اللقب الذي أصبح كليشيهاً مستنفداً وممجوجاً، لم يستسغه حتى العلايلي نفسه، وقال فيه: "لازمني ذلك الوقت لقب راحت تتداوله الألسنة هو "الشيخ الاحمر". أذكر أني كتبتُ مقالة أواخر الاربعينات رداً على ذلك، مما أوضحت فيها أنني لا أؤمن بالألوان، بل أسير في المجتمع سير النضج في الفاكهة، فهو الخضرة والحمرة الخ. أي أنه تعبير عن اعتمال في كل حين. وعندما تتوقف الفاكهة عن التلون تسقط، بمعنى أن عوامل داخلية تكسب الانسان اللون الذي لا يمكن أن يكون ثابتاً".


الفقيه اللغوي
بدأ العلايلي التأليف في القاهرة، وغلّب اجتهاداته اللغوية والموسوعية على ما عداها. وبقي لاجتهاداته واضافاته وقع خاص في مختلف المراحل والمحطات التي عرفها مسارنا الثقافي المعاصر. أول كتبه كان "مقدمة لدرس لغة العرب"، طبع في القاهرة في العام 1938، ولاقى ردود فعل مدوية لما حمله من جرأة في تناول اللغة. وشبّه اسماعيل مظهر "سكرتير المجمع الملكي المصري للثقافة العلمية"، العلايلي بابن جني المعاصر، وقال عنه المستعرب الروسي ألكسندر سميرنوف: "يُعدّ كتاب اللغوي اللبناني العلاّمة الشيخ عبدالله العلايلي، "مقدمة لدرس لغة العرب"، فتحاً جديداً في ميدان فقه اللغة العربية، وتجديد باب الحيوية فيه، وعلى الجميع التعلّم منه، لما فيه من إحياء حقيقي للغة الضاد وخواصها وقوتها بين اللغات الأخرى، وخصوصاً إذا ما أُحسن على الدوام النظر في العربية، والاهتمام العالي والمسؤول بها"، وأدلى الأب كونستانس الكرملي بشهادته في هذا الكتاب بقوله: "سيطر - أي الكتاب - على ذهن كل الباحثين اللغويين".‏ أما فؤاد أفرام البستاني فقال: "إن طبقة من العلماء على رأسهم العلايلي لا تزال على سدانة هيكل التعبير".‏ في عرف العلايلي أن اللغة غاية لا وسيلة، لذا وجدناه يتحدث عن المشاعر المفكّرة، وإنسان العواطف العاقلة، والأحاسيس المنطقية. وهو يرى أن ما اشتهر عن اللغة بأنها ألفاظ، يعبّر بها قوم عن أغراضهم، جعلها شيئاً دون الغرض، تتناوله للكشف عنه ومشاركته. وهذا ملحظ حق وصحيح، حينما نتجه في نظرنا إلى اللغة في دورها النشوئي. وأما هي بعده، فمجموعة من الأفكار والتقاليد والعواطف والأحاسيس والنزوات وشتى المشاعر والاعتبارات، تنتظمها الألفاظ انتظاماً أصبح منها، كما يكون الشيء من الطبيعة. والألفاظ عنده تتناول الأفكار، كما تتناول المقاييس الأبعاد.


التاريخ الحسيني
لا يقتصر جدل العلايلي على التشريع واللغة بل على التاريخ أيضًا، ففي العام 1939 صدر "سمو المعنى في سمو الذات" الذي أعقبته معركة شارك فيها الشيخ محمد علي الطنطاوي، وكذلك محمد كرد علي وأحمد الزيات في مجلة "الرسالة". كان الكتاب تمهيداً لدراسة عن تاريخ الحسين صدر في العام 1941، واضعاً له مقدمة طويلة نشرت في ما بعد في كتاب مستقل تحت عنوان "مقدمات لا محيد عن درسها جيداً لفهم التاريخ العربي". تأثر في مقدمته هذه بأفكار ابن خلدون، إذ يرى أن القبيلة أو الروح القبلية، هي الشكل الأساسي للاجتماع عند العرب بحكم البيئة الجغرافية في شبه الجزيرة العربية. تتميّز مؤلفات العلايلي عن الحسين بخصائص عدة لا يشاركه في معظمها - إن لم يكن في أيٍّ منها - غيره ممّن كتب عن شخصية الحسين، وأسّست لطورٍ جديد من الكتابة عن الحسين انتقل به العلايلي من طور السرد الإخباري الذي درجت عليه كتب المقاتل والتراجم إلى طور التحليل والتعليل والنظر إلى شخصية الحسين في إطارها الموضوعي الرحيب، ومن مناحيها المثالية الحيّة. يبيّن العلايلي أن الحسين لم يختر عامداً متعمداً الاستشهاد. فهو، على دين والده الإمام علي، ضد قتل النفس عمداً، في ما صار يُعرف بالعمليات الاستشهادية. ويشير في الكتاب الآنف إلى أن واقعة كربلاء جاءت نتيجة لظروف لم يكن للحسين دور في توليدها على النحو المعروف تاريخياً. والسؤال أين حاضر الامام الحسين وتوظيفه السياسي من ماضيه؟ أين رمزيته من تحويله الى واجهة للعصبيات والمواقف والأقنعة سواء في الحرب أو في القوميات الفارسية والعربية، أو في التسنّن والتشيّع؟! لقد انزلقت المعاني عن مسارها، وغلب المرويات الأسطورية منطق التأريخ. في كل الاحوال جسّد كتاب العلايلي عن تاريخ الحسين فتحاً في الدراسات، وكذلك كتابه "المعري ذلك المجهول" الذي اتخذ من التحليل اللغوي والفلسفي مدخلاً لفهم تراث المعري، وهو بتعبير محمد علي شمس الدين، اعاد خلق المعري من جديد وجعله واقعاً تحت تأثير الجاحظ، واصفاً فلسفته بأنها تنحو نحو وحدة الموجود لا وحدة الوجود، ويفسرها بقوله "معناها ان الموجود الذي معنى فساده في تكثره يتحرك الى توحد موجوديته بالله وليس يتحرك الى وحدة وجوده بالله". يقول العلايلي في مقدمة كتابه: "لن نفهم المعري ما لم نتمكن من استخلاص طريقته، واستخدامها في سبيل الوصول إليه والنفوذ إلى أغراضه الفلسفية"، "فالنقد القاموسي لهذا الفيلسوف نقد عاجز، والنقد الشهوي له هو نقد فاسد، ولا بد للوصول إليه من تزود معارف جمة، والاتصال بثقافات شتى، وبكل منابع الفكر البشري المختلفة، حيث يقتضي لنا دائماً معرفتان أو أكثر لتفهم مرامي المعري". فالرجل أولاً هو ابن عصر يعتبر أعظم عصور الحضارة العربية، عصر استكمال المدارس من كلامية وفلسفية وصوفية وحديثية وفقهية وما تفرع منها وانقسم عنها، من جهة، وما اختلب العصر من باطنية استغوت المعري من جهة ثانية.


التعرف إلى الآخر
في السياسة كان للعلايلي دوره في العديد من الجمعيات والأحزاب (الاشتراكي والنجادة) والشأن العربي، قبل أن يعتزل هذا المسار ويصبّ جلّ اهتمامه في الشأن اللغوي والمعجمي في منتصف الخمسينات. لكن القضية الأبرز التي لا تزال موضع نقاش من زمانه السياسي تتعلق بالأمور القومية (العربية)، ففي العام 1941، أصدر العلايلي كتاب "دستور العرب القومي"، وكانت الفكرة القومية حينها في أوجها وخصوصاً في لبنان وسوريا والعراق، أكثر من مصر التي كان يسودها التيار الاسلامي. تُرجِم جانب من الكتاب إلى الانكليزية، باعتباره اول كتاب بحث موضوعياً في القومية العربية. لم يكتف العلايلي بدائرته العربيّة، بل دعا إلى العالمية التي تنطلق "من الاعتقاد بالوحدة الحضارية العالمية". دعوته أدرجها تحت مفهوم "التطور الدائم"، ما يستدعي التعرف إلى الآخر المكوّن للذات، "فهو يُعرف بي، وبه أُعرف"، وكان العلايلي أقرب الى "التصوف القومي" بحسب تعبير حازم صاغية، واذا كان انتُقد وصنِّف في خانة "المرتدين" والشيوعيين بسبب كتاب "أين الخطأ؟"، فالليبيراليون المستجدون على الحياة العربية هاجموه لمجرد انه كان من دعاة القومية العربية، في زمن كان العالم كله قوميات في الشرق والغرب. حتى المنتقدون انفسهم تنقلوا بين قوميات مختلفة وإيديولوجيات متناقضة بين شيوعيات (ماوية، ماركسية، وتروتسكية) متشعبة، وإسلاميات خمينية، ومنهم من يرفع راية إثنية قومية في مواجهة القومية العربية.
في مئوية العلايلي، أكثر ما نشتاق الى مَن يعيد إلى اللغة روحها مثل العلايلي، الكائن اللغوي الذي ابتكر لغته الأخاذة. لم ينزلق الى المحكية العامية ولم يبق أسير الجمل الكلاسيكية، بل قدر على أن يكون كلاسكيكاً ومعاصراً في الوقت نفسه، تماماً مثل دراساته التي استطاع فيها الابتعاد عن المنطق الأحادي، رسم صورة للحسين مختلفة، وصورة أخرى للمعري تتجاوز منطق التصنيف. كانت له قدرة على الإمساك بخيوط مختلفة في دراساته تزيد من وهجها تعابيره اللغوية التي تجعل النصوص مثل أغنية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم