الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عندما قال هذا هو الخطأ!

خالد غزال
A+ A-

في العام 1978، أصدر الشيخ عبد الله العلايلي كتابه "أين الخطأ؟"، تناول فيه جملة اجتهادات تتصل بالتجديد في النظرة الدينية وقراءة النص الديني، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ومسائل التشريع والوحي وغيرها من القضايا. كتب العلايلي من موقعه الديني المتضلع من الشريعة وفقه اللغة العربية. ومن موقعه الديني الإسلامي قدّم اجتهاداته سعياً إلى تطوير النظرة الدينية. فقامت عليه حملة شعواء قادها رجال الدين والمؤسسة الدينية معاً، فحواها أن ما يكتبه يمس مقدسات إسلامية، ويهدد المنظومة الدينية السائدة، فجرى توظيف الإعلام ضده، ودُبِّجت المقالات المنددة بآرائه واجتهاداته، داعيةً إياه الى التراجع عنها.


في كل معركة تقودها العقول المتحجرة، أُلصقت بالعلايلي تهمٌ من قبيل الإلحاد والارتداد عن الدين، كما اتُّهم بالتجديف والخروج عن نهج السنّة والجماعة في تعاطيه مع المسائل الاجتماعية، وطاولته أيضاً حملة التجريح لأنه انتهك الحدود الشرعية في اجتهاده في قراءة النصوص حيث "لا اجتهاد في مورد النص"، على ما دأب عليه معظم الفقهاء. ولأنه قال بالعدالة الاجتماعية وحابى الفكر الإشتراكي، غير الشيوعي المصدر، جرى تصنيفه بـ"الشيخ الأحمر"، إمعاناً في التشهير بآرائه ومنبعها. في ظل غياب قوى فكرية وسياسية تناصر العلايلي آنذاك، وتحت ضغط الحملة التي جرى تجييشها من رجال الدين ضده، ووصلت مفاعيل التحريض فيها الى أوساط شعبية بدت مستنفرة ومتوترة ضده، اضطر الشيخ العلايلي الى سحب كتابه "أين الخطأ؟" من السوق، فظل ممنوعاً حتى أعادت طباعته "دار الجديد" في العام 1992، مع كتبه الأخرى.


السلسلة القمعية السوداء
ما أصاب كتابَ "أين الخطأ؟" للعلايلي، يعيدنا بالذاكرة الى ما أصاب كتباً مشابهة له، في إطار السلسلة القمعية السوداء التي شوّهت تاريخنا الثقافي. ففي النصف الأول من القرن العشرين، أصدر الشيخ الأزهري علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" ضمّنه آراء تنفي اعتبار الخلافة من الدين، أو أن الإسلام ينص على كونه دينا ودولة، وحدد عبد الرازق الإسلام بأنه رسالة، لا حكم ودين لا دولة. قامت عليه حملة قادها مشايخ الأزهر أنفسهم انتهت بسحب الكتاب من التداول وفصل الشيخ من المؤسسة الدينية وتحريض الشارع ضده. بعدها بسنوات، أصدر الشيخ طه حسين، الأزهري أيضاً، كتابه "في الشعر الجاهلي"، متضمناً قراءة مغايرة لما كان سائداً حول التراث الشعري العربي وحول الجاهلية والإسلام، وهي قراءة استند فيها طه حسين إلى منهج الشك سبيلاً للوصول الى اليقين. نال طه حسين ما ناله زميله علي عبد الرازق من رفض لما كتبه، واتهامات بالخروج عن الدين، وإجباره على سحب الكتاب من الأسواق؛ ذلك كله مقروناً بتحريض الشارع المصري، وفي ظل تواطؤ من القيادات السياسية وخصوصاً سعد زغلول. بعد ذلك بسنوات، أصدر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن"، قدّم فيه قراءة للقصص القرآنية بعيداً عن مضمونها الشكلي، مفسراً معانيها الدينية والأخلاقية، بما ينزع عن هذه القصص الخرافات والأساطير التي نُسبت اليها وجرى تصنيفها جزءاً لا يتجزأ من النص الديني المقدس. قامت القيامة على خلف الله واتُّهم أيضاً بالهرطقة والكفر، فاضطر الى سحب كتابه لسنوات.
يأتي هذا الاستطراد لإلقاء الضوء على ما واجه وسيواجه المفكرين المتنورين، الساعين الى التجديد في الدين بما يوافق العصر، من اضطهاد، وهذا ما طاول مفكرين من أمثال نصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم ومحمد أركون وخالد محمد خالد، وغيرهم. كما يؤشر ذلك الى الدور الخطير الذي تلعبه المؤسسة الدينية في الحجر على الإصلاح الديني، بل وفي تشجيع الفكر التكفيري والإصرار على تنسيب هذا الفكر الى الدين.


استحقاق القراءة العقلانية المغايرة للنص الديني
في ذكرى مئوية العلايلي، وفي ظل احتفالية تجري في الإعلام المرئي والمكتوب وفي المحاضرات، يحاذر بعض المحتفين بالشيخ إبراز الجانب الثوري والإصلاحي في الدين عنده، واذا ما ألمحوا الى هذا الجانب فإنما مواربةً، بل يجري التعاطي مع اجتهاداته الفقهية في وصفها مسائل هامشية لا تستحق اهتماماً، خلافاً للأهمية المعطاة إلى نتاجه اللغوي، الذي يكتسب من دون شك موقعاً مركزياً في سياق تطوير اللغة العربية وإغنائها. يستحق العلايلي قراءة مغايرة لما هو سائد؛ قراءة تنطلق من كتابه "أين الخطأ؟"، وتعيد الاعتبار إلى ما أتى به الشيخ من اجتهادات.
على امتداد حياته، ظل العلايلي أمينا للنهج الذي اعتمده في قراءة الدين الإسلامي وما نتج منه من فقه وتشريع. على نهج ابن رشد، كان العقل إمام العلايلي، وحده المرشد والفيصل في حسم القضايا، وكان الإيمان القائم على العقل هو الإيمان الراسخ والفعلي البعيد من الخرافات والأساطير. هذه العقلانية كانت وراء إصراره على الانفتاح والحوار وقبول الآخر كما يقدّم نفسه، بصرف النظر عن معتقده ورأيه، كما كانت وراء رفضه ذهنية التحريم والتكفير التي يلجأ اليها رجل الدين ضد من لا ينتسب الى مذهبه ولا يقول قوله في أمور الشرع والشريعة. كان يرى الى الإسلام على انه دين النظر والعقل لا الجمود والخرافة، مشدداً على حرية التدين من منطلق الآية القرآنية "لا إكراه في الدين". كان دائم التمييز بين الجوهري في الدين، المتعلق بالقيم الإنسانية والأخلاقية، وما يتصل بالدين من شكليات تعبّر عن نفسها بطقوس ورموز، بات يجري التعاطي معها، لكثرة تضخيمها ونشرها، بأنها الجوهر في الدين. من موقعه الديني، كان يصر على رفد كل رأي او اجتهاد بنصوص من القرآن، أو الحديث بعد التأكد من صحته ومن مطابقته النص القرآني. تدليلا على الجوهري في الدين، أورد في كتابه هذه الآيات من القرآن: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" (النساء:4)، "إنما المؤمنون أخوة" (الحجرات:49)، "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (التوبة :9). كما اختار من الأحاديث: "وكان خير الأعمال عنده أدومها، وان قلّ/ لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير من ان يتكفف أيدي الناس/ المؤمنون كالجسد الواحد، اذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". كما شدد العلايلي على كون القرآن نصاً يحمل من المجاز الكثير، بما يفرض اللجوء الى التأويل وإعمال العقل لفهم مغازي الكلام. يقول: "ان القرآن مطواع لتقبل الدلالات، على أنواعها، ولكن لا على وجه من الإيغال المفرط في التأويل. وكثيرا ما أجاز إعمال العقل إعمالاً خالصاً". من هذه النظرة العقلانية، دعا الى الاجتهاد في النص، آخذاً في الاعتبار أسباب النزول وزمانه ومكانه، ومدى صلة بعض الآيات بعصرنا الراهن، وما يتسبب بعضها في أحكام ليست من الإسلام في شيء، من قبيل ما هو سائد في المجتمعات الاسلامية اليوم من فتاوى تكفير وقتل ورجم وجلد وغيرها، وهي التي تسيء الى جوهر الإسلام. لا يوفر العلايلي المؤسسات الدينية من انتقاداته، ومن مسؤوليتها عن طغيان الفتاوى والأحكام المسيئة في نظره الى الدين، وقد عبّر بذلك صراحة في إحدى مقابلاته منتقدا مؤسسة الأزهر بسبب الإقلال من الاجتهادات، ولكونها تعتبر نفسها مرجعية الإسلام في جانبه السنّي فيقول: "ان الدين من منطلق رجاله، غيره في منطلق الله وكتبه، الأول عامل تفرقة بين الناس والطوائف والجماعات، الثاني غرس مبادئ صالحة، تعدّ الإنسان إعداداً حسناً، للعيش مع أخيه الإنسان" (مقابلة مع عبيدو باشا). هذا الحكم على رجال الدين ومسؤوليتهم في التحريض على التعصب والعنف، عايشه العلايلي من موقعه الخاص، ومن رؤيته لممارسات رجال الدين خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي جسدت شاهداً حياً على خطب رجال الدين المسلمين منهم والمسيحيين أيضا. نقده لتصرفات رجال الدين وآرائهم، شكّل عناصر إضافية في إثارة أحقاد هؤلاء على الشيخ العلايلي الذي ينطبق عليه القول: "وقد شهد شاهد من أهله".


في الشريعة وتطبيقاتها
يميّز العلايلي بين الدين والتدين، وبين النص المقدس والفكر الديني الذي نتج منه. يرى أن الدين في جوهره الأخلاقي والروحي والإنساني، هو مطلق، ويمكن القول إنه يتجاوز الزمان والمكان ويصلح لعصرنا كما لعصور سابقة، تالياً لا جدال في هذا الأمر. ويشدد على أن الإسلام في نصه المقدس يهيمن عليه هذا الفهم للدين. في المقابل، يرى أن الشريعة هي عمل بشري أنتجه فقهاء وعلماء دين في مراحل متعددة من الزمن. على رغم اعتماد الفكر الديني على مستند النص المقدس، سواء أكان القرآن أم الأحاديث، فإن هذا الفكر هو نتاج بشري وليس نصاً موحى به من الله الى الرسول. ينجم عن هذا الفهم، أن الفكر الديني وما يتضمنه من شرائع وفقه، تطال تنظيم المجتمع، محكوم بجملة عوامل يؤدي إهمالها الى سلبيات كثيرة تصيب الإسلام. فهذا الفقه محكوم أولا بدرجة علوم الفقيه وحدود ثقافته ومدى استيعابه النص الديني والجوهري الذي يكتب عنه. وهو محكوم أيضاً بطبيعة البيئة التي ينتسب اليها الفقهاء، وطبيعة المجتمع السائد بثقافته وتقاليده وأفكاره، مما يعني تلوّن هذا الفقه واختلاف مضامينه بين مكان وآخر. كما يرتبط هذا الفقه بزمان صدوره وإطلاقه، بحيث يؤدي التطور في المجتمع إلى ضرورة التبدل في الأحكام الفقهية الموضوعة في مرحلة محددة من تبلوره.
ظلّ العلايلي أميناً للمفهوم التاريخي في قراءته للشريعة الاسلامية وضروة مواكبتها منطق العصر. انصبّت اجتهاداته على ما هو سائد منها، ولعل هذه الاجتهادات كانت السبب في الحملات العدوانية التي طاولته من المؤسسة الدينية ورجالها. يشير الى ضرورة تعديل دائم للقوانين المستندة الى الشريعة الإسلامية حتى لا تتحول هذه القوانين الى أصنام كما تشهد على ذلك الكثير من المجتمعات الإسلامية. في عبارات واضحة وصريحة يدعو الى تطوير الفكر الديني والفقه السائد فيقول: "لا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة، بل تبدلية دائبة. وكل توقف في التكيف داخل أطر، يصيب الأفراد والجماعات بتحجر يؤول الى حتمية تخلف بل انحدار سريع. ان خاصية الشريعة الأولى هي الطواعية ومجافاة التزمت والحرج والرهق"، وصولاً الى هذا النقد الجارح للفقهاء: "الشريعة العملية اذاً، هي من الليان بحيث تغدو طوع البنان، إزاء الظرف الموجب، مهما بدا متعسراً أو متعذراً. ولكن، يا للأسف، ابتلي الحقل الفقهي بمن هبطت مداركهم حتى عن حس التناول، فكيف بالاستنباط المحض!"، وصولاً الى توجيه هذا الإتهام: "هل عندنا فقهاء حقيقيون يستأهلون باستحقاق وجدارة هذا النعت أم لا؟". كان العلايلي يشهد بأمّ العين ما كان يلجأ اليه بعض رجال الدين من احتكار للسماء والتحدث باسم الإسلام المملوك من قبلهم، ولا يتورع رجل الدين عن بدء كلامه بأن الإسلام يقول كذا ويقول هكذا من دون أن يرفق ذلك بكلمة "رأيي" أن الإسلام كذا وكذا. ثم يسترسل في الأحكام ولا يتورع عن تهديد من يخاطبهم بجهنم وبئس المصير لمن لا يقبل كلامه أو لا يقول قوله.
من موقعه الديني المتنور والبعيد عن الدوغمائية، يشدد على كيفية فهم الشريعة، فيعيد هذا الفهم الى الواقع، والى المجتمع، والى وجوب أن تجيب الشريعة عن حاجات الناس في زمنهم، وأن لا تظل مقيمة في الماضي الذي لم يعد يتوافق والزمن الراهن. يقول: "في الشريعة العملية لون من التعايش بنته على أساس إيجابي من التعاون الحق"، "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة:5). ويضيف: "بتغير الظرف يتغير الحكم المعتمد. ان الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، وهما كليتان فقهيتان. كيف اذا شملت المذاهب وعممت ونزعت عنها صفة الجمود، وكسرت صدفتها او قوقعتها، بجعل الظرف المتغير هو الموجب المقتضي، فما كان في ظرف راجحاً ينقلب مع تغيره مرجوحاً". هذا التوجه في النظر الى الشريعة دفعه الى تأكيد القول إن الإنسان هو مصدر التشريع، وبذلك يرد على "الدوغمائيين" من فقهاء ورجال دين، ومن منظّري بعض التيارات في الإسلام السياسي التي ترفض أي اجتهاد في النص، أو التي ترى أن القوانين الوضعية التي تضعها المؤسسات الدستورية التشريعية في البلدان الإسلامية هي نصوص مخالفة لشرع الله، وأن الله وحده مصدر التشريع للبشر. يرد على هؤلاء قائلاً: "فاتهم أن عنصر الزمن بمتبدلاته، يتدخل ويعمل عمله في أسلوب الإدراك، فتحل القضية نفسها بنفسها، وعلى نحو عفوي. وأعني في مجال شريعة ترى الإنسان مصدر التشريع فيما هي مصالحه وضروراته التي تقدر بقدرها". استناداً الى ذلك، يميز بين العبادات والمعاملات، فالعبادات تبتلات وابتهالات الى الله، تهدف الى التسامي الروحي للفرد، فيما المعاملات، شأنها التنظيم الاجتماعي العام بما يجعل منها خضوعها الى المتغيرات في الزمان والمكان، "فإذا أفرغت من قوالب، وأغلق عليها، تفانت وتناهت على ذات نفسها، وذوت حتى الدماء، أي لفظ الأنفاس، وغدت أواصر حياة الجماعات العامة مستحجر مجتمع، لا متفجر حركية دينامية، لكل لحظاتها إيقاعات شلال، لا ينضب ولا يغيض".
لا ينفي العلايلي أن أصل الشريعة هو الوحي، "ولكنه وحي جعل الإنسان نفسه، في صميمه، ليتحول الإنسان نفسه مصدر "وحي إلهامي" في التفصيل والتفريع، بحسب المقتضيات التي لا تنقطع، ولا تتوقف حوافزها، فتحدث للناس أقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور". للتدليل على ذلك، كان الرسول نفسه يحاذر إعطاء رأي في أمور عادية تتصل بشؤون حياة البشر في مجتمعه، بل كان يصر على التشديد على مسائل العبادات وموجباتها الدينية، وهو صاحب القول المشهور: "أنتم أدرى بشؤون دنياكم".
يحمّل العلايلي الشريعة وكيفية بنائها وعملها مسؤولية رئيسية في الانقسامات التي أصابت الإسلام وجعلت منه طوائف ومذاهب متناحرة. نجم عن الصراع على السلطة، والخلط بين الجوهري في الدين وما هو متصل بضرورات الحياة، أن كل فئة متصارعة مع الأخرى أنتجت شرائعها وفقهها ونظرتها الى الدين بما يتوافق مع مصالحها، ويؤمن شرعية لصراعها مع الآخر ورفضه وتخوينه واتهامه بالإرتداد عن الدين والهرطقة، وهي اتهامات تشرّع القتل والذبح باسم الدين وباسم الإله. هذه المسائل كان العلايلي يعيها جيداً، وقد رآها في التاريخ وفي الحاضر، وكان يلقي عليها مسؤولية الانقسامات الدينية والمذهبية السائدة في زمنه، فيعيد بعض أسبابها الى الموروث التاريخي الإسلامي، والى الصراعات المتجذرة بين الطوائف والمذاهب، والى العقليات المتحجرة والتعبئة الطائفية والمذهبية التي لا تزال قائمة. يتساءل العلايلي: "هل هي الشريعة العملية، وليس الدين، هي هذا الركام من المذاهب والاجتهادات الغالبة في التأويل أم الأخرى الساذجة الغالية في السطحية؟ وهل مصادر الاستمداد هي الأدلة الإجمالية الأربعة ولواحقها؟ وقد ردّت بعض المذاهب "الإجماع والقياس"، وردّ بعض آخر منها "الاستحسان والاستصحاب" عينه بنوعيه: المطرد والمقلوب، العرف وهلم جراً".
تفتح اجتهادات العلايلي على محتوى قوانين الأحوال الشخصية التي تعتبر أعلى تجلٍّ للخلط بين الدين والشريعة، وعدم التمييز بين جوهر الدين ومقاصد الشريعة. تتمسك المؤسسات الدينية، بل وتقاتل وتكفّر كل من يدعو الى تعديل هذه القوانين بما يتناسب ومتطلبات العصر. إن الأحكام الواردة في هذه القوانين تستند الى مراجع تغيّب، في معظمها، الواقع الاجتماعي والظرف التاريخي الذي قيلت فيه. بعض الأحكام يستند الى النص القرآني والأحاديث النبوية، وهي ناجمة عن حاجات اجتماعية وعملية كان يتطلبها مجتمع الجزيرة العربية آنذاك، وهي بمعنى محلية وظرفية. وبعض الأحكام الأخرى وضعها الفقهاء في القرون اللاحقة لزمن نشوء الإسلام، وهي أحكام تخضع أيضاً لحاجات ذلك الزمن ومكان إطلاقها. يكاد هذه "الفقه" يختزل الدين الإسلامي، وترفض المؤسسات الدينية التعاطي معه في تاريخيته، بل تصر على "قدسية" هذه الاحكام واطلاقيتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان أسوةً بالنص القرآني، وتصر على محاربة أي تعديل او إلغاء لها أو لبعضها. في قوانين الأحوال الشخصية، تتتجلى الدوغمائية في الإسلام، وتظهر بوضوح الصورة السلبية التي تعطى عنه، خصوصاً في قضايا تتصل وثيقاً اليوم بحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن دينهم وعرقهم وجنسهم.


عن العدالة الاجتماعية
جرى اتهام العلايلي باعتناقه المذهب الإشتراكي على الطريقة الشيوعية وألصُقت به صفة "الشيخ الأحمر". واستتبع هذا الاتهام إلصاق تهم الإلحاد بالشيخ، وهي في مجملها لا صحة لها، وصدرت عن رجال دين لم يستطيعوا أن يتحملوا جرأة العلايلي في الاجتهادات الخاصة بالشريعة، التي سلطت الضوء على تحجرهم وجهلهم بأمور الدين والشريعة في الوقت نفسه، وعجزهم عن تقديم دين يتسم بالتسامح والمحبة وليس ديناً يدعو الى الكراهية ونشر الأحقاد الطائفية والمذهبية. صحيح أنه كانت للعلايلي وجهات نظر في المسائل الاقتصادية والاجتماعية ومعها نقد صريح للنظم القائمة في هذا المجال. لكن الشيخ، وعلى غرار سائر المسائل التي تطرق اليها، ظل النص الديني الإسلامي مرجعه في هذا المجال. حدد نظرته بالقول: "جاء الإسلام بما نسمّيه مبدأ التكافل الاجتماعي"، واعتبر أن التكافلية وليست اشتراكية المساواة هي النظام الاجتماعي والاقتصادي التي يجب اعتماده من المسلمين. لا تبدو دعوته هذه بعيدة عن نصوص عديدة وردت في القرآن والأحاديث تؤكد التكافل والتضامن بين المسلمين وتدعو الى العدالة الاجتماعية وإحقاقها في المجتمع. كما رفض سوء توزيع الثروة الجاري في بعض الدول، لأن هذه الثروة هي ملك الشعب. هذا المبدأ جعله يقف موقفاً مناهضاً لوضع يد بعض الحكّام العرب على الثروة النفطية التي برزت، واعتبار الحكّام هذه الثروة ملكاً خاصاً، فيما هي ملك مشترك، ليس فقط للشعب الذي ظهرت هذه الثروة في أرضه، بل هي ملك سائر الشعوب العربية التي يجب أن تفيد من خيراتها في سبيل تنمية مجتمعاتها. هذا الموقف السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي كان من العناصر التي أججت العداء والكراهية للشيخ، سواء من بعض الحكّام أو من قوى سياسية ودينية مرتبطة بهذا النظام او ذاك.


بين العلم والدين
هال العلايلي مواقف بعض المؤسسات الدينية من رفض استخدام العلم للنظر في بعض القضايا المتصلة بحياة المسلمين. يميز العلايلي بين موقع كل من العلم والدين، ويرفض إخضاع أحدهما للآخر، كما يرفض النظرات الإسلامية التي تنسب الى القرآن نظريات علمية وصل بعضها الى اعتبار كل اكتشاف علمي موجوداً أساسه في القرآن. فالقرآن عنده، هو كتاب دين وليس كتاب علم، ولا صحة لتلك الادعاءات العلمية التي يقول بها البعض. يستهجن الموقف المتحجر لرجال الدين الذين يرفضون استخدام علم الفلك في تحديد رؤية الهلال الذي يرتبط به الصوم والأعياد ذات الطابع الديني، حيث يختلف المسلمون كل عام على تحديد ولادة القمر، وينجم عن ذلك اختلاف في مواعيد الصوم والأعياد. يقول في هذا الصدد حول القمر: "بات حسبانه، مع التقدم العلمي الهائل، أبسط من حرف "ألفباء"، وما ظنّك بمن غدا يحسب في يسر حساب الجزء من مليون جزء من الثانية؟ ونظلّ مع ذلك، عند عتبة البحث البدائي، هل رئي أم لا؟ وهل ثبتت بداية الشهر أم لم تثبت؟". خلال السنوات الأخيرة تجرأ المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله على اعتماد الحسابات الفلكية في تحديد بداية الشهر القمري، واعتمدها في فتاويه، لكنه لم ينج من الاتهامات بانحرافه عن الموروث من أحاديث وفتاوى تصر على رؤية الهلال بالعين المجردة حسب ما أوصى بذلك الرسول، من دون أن يدور في خلد هؤلاء الفقهاء أن علوم الفلك لم تكن معروفة عند العرب مع بداية الدعوة، وأن ما قاله الرسول مرتبط بهذا الواقع، مما يعني تجاوزه عندما تتوفر وسائل دقيقة وعلمية في رؤية الهلال.


الموقف من المرأة
أطلق العلايلي آراء جريئة في ما يخص موقف الإسلام من المرأة لم يسبق لرجل دين أو مؤسسة دينية أن قالت بها. ينطلق بدايةً من اعتبار المرأة تمثل نصف المجتمع في أي بلد مسلم، وأن تحرر المجتمع ينطلق من تحرر المرأة، ولا تقدم للمجتمع من دون المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الميادين، وأن قوانين الأحوال الشخصية يجب تعديلها بما يعطي المرأة حقوقها كاملةً، أسوةً بالرجل. ومن موقعه الديني، أنكر صراحةً أن يكون الإسلام قد قال بتعدد الزوجات، بل إن هذا التعدد هو من الجرائم التي يدينها الإسلام. إن إصرار رجال الدين على "تقديس" تعدد الزوجات يضمر الهيمنة الذكورية على المجتمع وتشويه وجه الإسلام الحضاري. ينبع رأيه في هذا الموضوع من قراءته العقلانية والتاريخية للنص الديني، الذي عالج موضوع تعدد الزوجات استناداً الى ما كان سائداً من إباحة مطلقة في زمن الإسلام الأول وضرورة وضع حد لهذه الإباحة، مما يعني أن الزمن الراهن تجاوز القرون الخمسة عشر التي كان التعدد فيها مسألة طبيعية وفق العادات والتقاليد السائدة. من المسائل الجريئة التي خالف فيها العلايلي المؤسسة الدينية ما يتعلق بزواج المرأة المسلمة من غير المسلم. ففيما يذهب رجال الدين الى التحريم في هذا المجال واتهام المخالفة بالارتداد عن الدين، يعود العلايلي الى النص القرآني ليعطي مشروعية لهذا الزواج. يشير الى هذه المسألة بالقول: "درج الفقهاء، بشكل إجماع، على القول بعدم حلية الزواج بين كتابيّ ومسلمة. والإجماع، وإن يكن حجة عند من يقول به منهم، فهو، في هذه المسألة بالذات، من نوع الإجماع المتأخر، الذي لا ينهض حجة إلاّ اذا استند الى دليل قطعي". لدعم وجهة نظره في هذا المجال، يلجأ العلايلي الى ما ورد في القرآن حيث توجد آيات لا تمنع هذا الزواج: "اليوم أحلّ لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم، وطعامكم حلّ لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" (المائدة:5). يضيف العلايلي تعليقاً على هذه الآية من سورة المائدة: "فهي صريحة في حلية الطعام بتبادل، وفي الزوجية صريحة في حليتها بين مسلم ومحصنة من أهل الكتاب. فبعد النص على التبادل في حلية الطعام، عطف عليه الزوجية كذلك".
في زمن انهيار المجتمعات العربية ودولها وصعود العصبيات العشائرية والطائفية والقبلية وانفلاتها حروباً طائفية ومذهبية، وفي زمن الاستيلاء على الإسلام وتسخيره في القتل والإرهاب وإعطاء الجرائم مشروعية دينية ووضع كل ما هو جوهري في الإسلام جانباً، وفي زمن تجبن فيه المؤسسات الدينية لدى كل الطوائف والمذاهب عن مواجهة الإرهاب باسم الإسلام، بحيث تنزع المشروعية عن الذين يصرّون على استخدام آيات السيف والجهاد ويختصرون الإسلام بها، وتضع المؤسسات هذه الآيات في سياق نزولها تاريخياً وتقادمها بالنسبة الى الزمن الراهن، وفي زمن باتت الحاجة ماسة فيه الى إصلاح ديني جذري يعيد إلى الإسلام جوهره الروحي والأخلاقي والإنساني، في هذا الزمن تبدو الحاجة ماسة الى استعادة العلايلي واجتهاداته كمفكر تنويري وإصلاحي في السياسة وفي الدين.


سيرة
- ولد العلايلي في 20 تشرين الثاني 1914.
- سافر إلى القاهرة مع شقيقه في العام 1924 ودرس في الأزهر الشريف.
- عاد إلى لبنان في العام 1936 شيخاً معمَّماً، ليكتب متدخلاً في الشأن العام، ومطالباً بالاستقلال.
- في العام 1938 صدر كتابه "مقدمة لدرس لغة العرب" عن "الدار العصرية" في القاهرة.
- في العام 1940 استقر في لبنان ونشط ضد الاستعمار، مُصدراً سلسلةً من الكراريس عنوانها "إني أتهم"، تضمّنت آراءه المعارضة للسياسات الطائفية والإقطاعية والفئوية. درّس وخطب في الجامع العمري.
- في العام 1941 صدر له "تاريخ الحسين" و"دستور العرب القومي".
- في العام 1943 تزوج من بهية مرعي وأنجبا نوار ومحمد خير وبلال.
- في العام 1947 كتب في "الأديب" و"كل شيء".
- في العام 1949 شارك في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي وكتب دستوره، ثم ما لبث أن غادره بعد سنة ونصف السنة.
- في العام 1952 ترشّح لمنصب مفتي الجمهورية وخاض معركة قاسية، فحورب ولم يفز.
- في العام 1954 صدر معجمه على شكل كراريس عن "دار المعجم العربي"، التي اشترك هو وسهيل يموت في تأسيسها.
- في العام 1963 صدر له "المرجع"، قاموسه غير المكتمل. وشارك في وضع المعجم العسكري الموحد الصادر عن جامعة الدول العربية.
- في العام 1975 هُجِّر من حيّ بيضون الأشرفية إلى حيّ البطريركية، مع اندلاع الحروب الأهلية في لبنان.
- في العام 1978 أصدرت "دار العلم للملايين" كتابه "أين الخطأ؟" الذي سرعان ما سُحِب من الأسواق.
- في العام 1980 اعتكف في منزله يقرأ ويتابع أبحاثه اللغوية.
- في العام 1980 عاد إلى الكتابة في الصحف والمجلات.
- في العام 1992 أعادت "دار الجديد" نشر كتابه المغيّب، "أين الخطأ؟"، وأصدرت له تباعاً كتبه الأخرى.
- في الثالث من كانون الأول من العام 1996 توفى العلايلي ودُفن في الحديقة الخلفية لجامع الإمام الأوزاعي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم