الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مسرح - "الأمّية" لنبيل الأظن على مسرح "لو ديشارجور" الباريسي المخرج اللبناني يمدّ الجسور ليعبر بنا من العتمة إلى النور

فدوى سليمان
A+ A-

يستمر عرض المونودراما المسرحية، "الأمية"، تأليف الكاتبة المجرية الأصل آغوتا كريستوف، أداء الممثلة الفرنسية كاترين سالفيا، وإخراج المسرحي اللبناني الأصل نبيل الأظن، فوق خشبة مسرح "لو ديشارجور"، في حي شاتليه الباريسي، إلى الثاني والعشرين من تشرين الثاني الجاري.


كتب موقع pariscope عنها، أنها "لحظة مسرحية رائعة، مليئة بالإنسانية"، وكتب موقع Théâtre du Blog أنها "ملحمة خاصة، مدوية مع الفوضى، عرف نبيل الأظن أن يلتقطها وينقلها".
لا نستغرب أن يختار المخرج نبيل الأظن الذي يعيش في فرنسا ويكتب باللغة الفرنسية، هذا النص ويُخرجه للمسرح، هو الذي يكتب بالفرنسية، ويترجم من اللغتين العربية والانكليزية إليها. يقول: "هذا الكلام، هذا الصراع بين اللغة الأم واللغة الأخرى، لغة الآخر، والحرب، والهجرة، هو ما دعاني لاختيار هذا النص الذي يلامسني، على رغم أنني لم أعشه تماماً كما تتحدث عنه الكاتبة، ولكن كان لديَّ نوع من المجابهة والصراع بين لغتي الأم وهي العربية وبين اللغة الفرنسية. كنتُ أتكلم اللغة الفرنسية قبل قرار الهجرة، ولكن أن تتكلم اللغة شيء، وأن تحيا بها شيء آخر. لغة الآخر هي شخصية جديدة، وطريقة حياة جديدة، وأسلوب تفكير وتعبير مختلفان، وعندما تبدأ بممارستها تشعر كأنك تخون لغتك الأم، حتى صارت اللغة الفرنسية فجأةً هي مجموعة القيم الزائدة، وانتفى التنافر بين مجموعة "الأنا" المتفككة، وأصبحت جميعاً قيماً إضافية. هذا النص يلامسني كما يلامس كل مثقف وخلاّق نُفي من وطنه أو اختار الهجرة بسبب الحرب، ليجد نفسه في علاقة جديدة بين لغته ولغة الآخر، التي ستصبح في ما بعد جزءاً من ثقافته وهويته غير المرتبطتين بزمان أو مكان".
"الأمية" سيرة ذاتية للكاتبة آغوتا كريستوف من أحد عشر جزءاً، تستعيد فيها أجواء الحرب والهجرة من لغة إلى لغة، ومن بلد إلى بلد، وما تتسبب به هذه الهجرة من هجرة داخلية أيضاً، بسرد إنساني أكثر منه فكرياً.
تقول الكاتبة في الكتاب: "أتكلم الفرنسية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وأكتب بها منذ عشرين عاماً، لكنني دائماً أحس بأنني لا أعرفها، لا أتكلم بها من دون خطأ، لا أكتب بها من دون مساعدة المعجم، من أجل هذا السبب أدعو اللغة الفرنسية باللغة العدوة، وهناك سبب آخر وهو الأخطر، هذه اللغة على وشك أن تقتل لغتي الأم".
يتحدث الكتاب عن الغزو اللغوي للإنسان في بلدها، غزو اللغة الألمانية من طريق الوجود الألماني خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ثم اللغة الروسية بسبب الاتحاد السوفياتي، إلى أن اضطرت للهرب إلى سويسرا مع زوجها وطفلتها بسب مناهضتها وزوجها الوجود السوفياتي، لتكتشف اللغة الفرنسية التي ستكتب بها في ما بعد. في البداية وجدت نفسها أميةً أمامها، لا تعرف حرفاً من حروفها فدخلت المدرسة مع ابنتها من جديد لتتعلم اللغة، بعد أن كانت تقرأ وتكتب بلغتها الأم، واضطرت في الوقت نفسه للعمل في مصنع للساعات السويسرية.
قالت صحيفة "لو فيغارو" عن المؤلفة "إنها هاربة من ظلام الوجود السوفياتي في بلدها، عابرة الحدود عبر ليل القلق والألم، وقد عبر المتفرج معها هذه المنطقة الغامضة". ورأى موقع "المسرح أمس" أن العرض "حدثٌ مسرحي لا ينبغي تفويته لأي سبب من الأسباب، اقتباس سديد، إخراجٌ آسر، أداء ممثلة في القمة". فقد استطاعت الممثلة الفرنسية كاترين سالفيا القادمة من الكوميدي فرانسيز بتاريخها الذي يحمل أكثر من مئة عرض مسرحي، وأكثر من خمسين فيلماً سينمائياً، أن تحمل عرضاً مدته ما يقارب الساعة، بأداء عفوي ومؤثر، اعتمدت فيه بناء علاقة مباشرة ، سواء أكان في الحديث الموجه إلى الجمهور مباشرة أو من خلال لغة جسدها المواجهة له أيضاً، مما ساعد في نقل ما تريد الكاتبة قوله، وما يريد المخرج إيصاله، وإشراكنا فيه، من خلال جعل الراوية تدخل في لعبة الممثلة، ومن خلال توظيف الإضاءة والديكور لخدمة هذه اللعبة المسرحية، ليجد الجمهور نفسه ضمن الرواية وفوق الخشبة.
يقول نبيل الأظن عن تجربته في إخراج هذا العرض: "ليس لديَّ أسلوب واحدٌ في الإخراج بصورة عامة. النص هو الذي يجعلني أختار الأسلوب، أتكيف مع النص ولا أكيّفه. قد يكون واقعياً أو تجريبياً. "الأمية" في الأساس ليس نصاً مسرحياً، وهذا ما دفعني لأن أبحث عن الوسائل التي يمكنني من خلالها إيصال الكلمة. اعتمدت مع السينوغراف على شري البساطة في السينوغرافيا، لنترك للكلمة ملء الفراغ بأكمله. كان خيارنا وضع ألواح عدة كرموز للأبواب، كالكاتبة التي تفتح علينا بوابات ذاكرتها، وكرموز لصفحات كتاب "الأمية" نفسه بأبوابه الأحد عشر التي دونت فيها الكاتبة مذكراتها من المجر إلى سويسرا، عابرة من الطفولة إلى الشيخوخة، من اللغة المجرية إلى الفرنسية، من الحرب إلى المنفى، من مكان إلى مكان، وهو عبور محتم للشخصية. لذا رأيت أن أعرض هذا العبور أيضاً فوق خشبة المسرح، فجاءت حركة الممثلة من لوح إلى آخر، كأنها تعبر من صفحة إلى صفحة، ومن باب إلى باب، وجاءت فكرة أن تكون الإضاءة ملقاة على الممثلة فقط بينما يغرق ما تبقى من أجزاء المسرح في العتمة، في خدمة فكرة العبور إلى النور. فالمنفى قد يكون عبوراً من ظلام إلى ظلام، إلا إذا حاول المنفي العثور على ذاته، فقد يستطيع أن يحوّل العبور المؤلم، والفقد، والخسارات، إلى عبورٍ نحو ضوءٍما".
في سينوغرافيا العرض أيضاً، استخدام صورة لستالين وصورة لكاتب نمسوي، لتضفي الصورتان على الفضاء المسرحي مزيداً من الإحساس بأجواء الحرب والمنفى معاً، وبين الحين والآخر كانت الحروف تسقط فوقها أيضاً، كأن السماء تُمطرنا باللغات، دلالة على صراع اللغات داخل الكاتبة، صراع الهوية والانتماء.
وحدها السترة المخملية الحمراء التي ترتديها الممثلة، تذكّرنا بأننا في المسرح ولسنا في الحياة، حيث الألوان المستخدمة فوق الخشبة بالأبيض والأسود: عن ذلك يقول الأظن: "حتى لو أن المسرح هو مكان الحياة، إلا أن ما يجري فوق خشبة المسرح لا يجري في مكان آخر".
"أعرف جيداً أنني لن أكتب بالفرنسية كما يكتب الكتاب الفرنسيون، لكنني أكتب بها بقدر ما أستطيع، وبأفضل ما أستطيع. فهذه اللغة التي لم اخترها، فرضت عليَّ بسبب الهجرة، بسبب المصادفة والظروف. إنها تحدٍّ. تحدي الأمية". بهذه العبارة تختم الممثلة الفرنسية العريقة كاترين سالفيا العرض.
نبيل الأظن في عرض "الأمية"، يمدّ لنا الجسور، من العتمة إلى النور.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم