الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

نص - كوباني ماذا صنعتِ بالذهب ماذا فعلتِ بالوردة؟

وداد نبي
A+ A-

"لتبقَ إيثاكا دوماً ببالكَ/ إنّ بلوغكَ إياها هو غايتك". كلّ بلدٍ عابرٌ، وحدكِ يا كوباني الغاية. بمعنىً مجازيّ موازٍ لعبارة كفافيس، يردّد نازحو كوباني، كلّ صباح، كصلاةٍ مقدّسة من خيامهم ومن البيوت التي استأجروها، معاني قصيدة كفافيس من دون انتباه، مستبدلين إيثاكا بكوباني. فكلّ حزنٍ يدلُّ على سابقه، يا كوباني.
ألتقط حزنكِ، حزني وحزن هذي المدن بفمي، وأطير به إلى السماء السابعة. أسقط. أسقط في أسفلِ الهاوية ونتحطّم. فكلّ هجرةٍ اغترابٌ خارج الجسد الأول. والروح التي تركناها وراءنا على درب الجلجلة الطويل، بين سهول كوباني وبيوتنا وحقولنا وذكرياتنا المثخنة بالحنين الذي لم يجفّ منذ اليوم الأول لنزوحنا، مذ خطونا بأقدامنا وخوفنا خارج الحدود وصولاً إلى تركيا... إيثاكا بقيت معنا. حملناها في الحقائب الصغيرة السريعة التي جهّزناها لنزوحٍ قصير، ظننّا أننا سرعان ما سنعود منه إلى مدينتنا. كنّا واثقين من العودة. لا أحد يترك كوباني. لا أحد يهجر كوباني. كانت العودة إلى كوباني حتميّة وقريبة، حتّى عندما كانت أسماؤنا تدخل قائمة المساعدات ولوائح اللاجئين كغيرنا من السوريين الذين سبقونا إلى درب الجلجلة القاسي هذا. لم نيأس من العودة الوشيكة. لكنّ الألم مع كل يومٍ من النزوح كان يطول ويطول، كالحدود المترامية بيننا وبين مدينتنا.
                                                                            * * *
"لقد أعطتْكَ إيثاكا الرحلةَ الرائعة/ فلولاها ما كنتَ لتزمعَ على السفر/ لكنْ لم يعدْ لديها الآن ما تعطيك". من خلف السياج الحدودي يجلس كلّ صباح مئات من سكّان كوباني يتأمّلون بيوتهم ومدينتهم وهي تُقصَف، ويتأملون الدخان يتصاعد عالياً عالياً حتى يصل إلى قلب الله. شيء ما من أرواحهم يحترق مع كلّ قذيفة وقصفٍ لطيران التحالف للمدينة. لا أحد ينتبه لكلّ هذا الألم المزروع كالألغام على المنطقة الحدوديّة بين تركيا وسوريا. فالألم لغمٌ لا يُرى. الألم لغمٌ يشدُّ بقلوب نازحي كوباني إلى مدينتهم التي تُدمّر أمامهم. فأيّ رحلةٍ رائعة منحتها كوباني لسكّانها! أيّ سفر يا كفافيس كانوا ينتظرونه خارج حدود كوبانيّتهم! اليوم، لم يعد لدى كوباني ما تعطيه إلى سكّانها سوى الحسرة، يشاهدونها كالغرباء من خلف السياج الحدوديّ. لا أقسى من أن يكون المرء شاهداً حيّاً على خراب مدينته. أيّتها الآلهة العمياء، كالطائرات التي تقصف مدينتنا كي تحميها. أيُّ سخرية تنتهك السماء! كلّ شيءٍ أعمى يا الله. وحدهُ الألم يرى. كأنّه مقبرة.
                                                                             * * *
"لا يوجد جمالٌ يدوم على وجه الأرض إلى الأبد". من كتب تلك العبارة أكان يقصدكِ يا كوباني، أم يقصدنا نحن الذين خبّأناكِ بقلوبنا كحرزٍ ثمين في تنقّلاتنا وأسفارنا؟! كان تَلُّكِ الصغير، مشته نور (تلة تطلّ على مدينة كوباني السورية) يحرس ليلنا الطويل من الوجع. وكانت غابتكِ الخضراء لا تكفّ يوماً عن قول كلمة "أحبّك" مع كلّ شهيقٍ لعاشق من عشّاقها. إنها شجرة الأمنيات التي علّقنا عليها تعاويذنا ونذورنا السرية، وحملنا جذورها في نزوحنا. أغنيات مجو كندش، صوت عود رشيد صوفي (فنّانان من كوباني)، وتأوّهاتهما، يصدحان بحنجرة كلّ عجوزٍ يتنهّد قرب البوابة الحدودية في انتظار العودة، العودة إليكِ يا كوباني. كلّ ما فيكِ من جمال لا يزال يتنفس بأرواحنا. أُصص زهور نساء كوباني تنمو في أجسادنا باحثةً عن يدٍ من كوباني تحمل إليها الماء، ماء العودة. آه يا كوباني! لا يوجد جمال يدوم على وجه الأرض إلى الأبد. حتى جمالكِ يغزوه الخراب.
                                                                              * * *
"ماذا صنعتِ بالذهب، ماذا فعلتِ بالوردة؟"(اقتباس من أنسي الحاج). نحن نفترش أرصفة الغربة ونعيش مرارة أن يكون المرء لاجئاً ونازحاً، سقفه الأعلى هو الخيمة. نسألكِ يا أمّنا يا كوباني، يا إيثاكا العمر: ماذا صنعتِ بالذهب، ذهب ذاكرتنا، ذهب حقول قمحنا، ذهب حنيننا، وماذا فعلتِ بالوردة، وردة خريف أعمارنا التي حلمنا أنّها ستكون بين ذراعيكِ تحت حراسة مشته نور؟ ماذا فعلتِ بأوجاعنا التي نرسلها إليكِ كلّ صباحٍ مع الحمام الرماديّ من الحدود التركية؟ ماذا فعلتِ بنا يا أمّنا، يا كوباني؟!


* كاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم